تحاول حكومة دولة جنوب السودان البحث عن مخرج من مازق "الجيش الشعبي" بعقيدته القديمة الي قوة عسكرية فيها قدر من القومية بدولة الجنوب بعيدا عن الالتزامات القبلية والسياسية فالجيش الشعبي لازال هو المتحكم في كل التكوينات العسكرية داخل دولة وليدة لم تشأ تتلمس خطواتها للخروج من كابوس الحرب الاهلية . الايام الفائتة اطلق الجنرال سلفاكير ميارديت رئيس دولة الجنوب والقائد الاعلي للجيش الشعبي مقترحا بتغيير مسمي الجيش الشعبي الي "قوة دفاع جنوب السودان" في محاولة منه لانتاج واقع جديد تنتفي معه الولاءات القبلية السائدة الان والحد من الطموحات الذاتية لقياداته داخل الجيش حتي تتشكل مهمته الاساسية في اتجاه حشد ارادة واحدة باسم جيش دولة جنوب السودان للتعبير عن هوية دولة اكثر من كونها قوات تلتف حول زعماؤها وقبائلها , تلك هي العبقرية الجديدة التي تفكر فيها دولة جنوب السودان وهو تفكير ربما جاء متاخرا جدا بعد ان اصيبت هذه الدولة بالرهق والاعياء وباتت مازومة وقلقة تحاصرها الجيوش من كل جانب , وقد يكون الخطأ الاكبر الذي ارتكبته دولة الجنوب بعد خروجها من رحم دولة الشمال السوداني انها لم تفكر وقتها في اعادة ترتيب امر الجيش الشعبي وتكييفه القانوني والاداري والمهني لخدمة قضايا دولة جنوب السودان وليس لخدمة الاهداف السياسية للحركة الشعبية باعتبارها تنظيم سياسي وحركي لم تنال الرضاء او الالتفاف الكلي من عموم الجنوبيين فالجيش الشعبي اذن والذي ورثته دولة الجنوب تحكمة عقيدة فكرية احادية ربما تتقاطع ثوابتها مع عقائد عسكرية اخري الامر الذي احدث حالة من التفلتات والانسلاخات الداخلية فاشتعل الجنوب حربا لا هوادة فيها احالت ارضه وغاباته الي بارود ودخان وانهاره الي جثث ودماء , فهل بامكان هذا المقترح الذي اطلقة الجنرال سلفاكير بتغيير ديباجة الجيش الشعبي الي ديباجة اخري بمسمي "قوة دفاع جنوب السودان " هل بامكانه ان يصبح مقترحا عمليا سهل التنفيذ ام سيتبدد ويتلاشي تحت وطاة الجيوش والقيادات الطامحة ؟ قد يكون الامر عسيرا في مراحله الاولي لان هذا التحول يقتضي ايجاد رؤية حكيمة وارادة قوية وقبل كل هذا وذاك لابد ان يستقر الجنوب من اهوال الحرب ويتداعي عقلائه الي اقرار صيغة قانونية ودستورية لتحديد ما للدولة للدولة , وما للقبيلة للقبيلة . الريف الجنوبي يتداعي ..! ويعود ذات السيناريو القديم المتجدد بمناطق الريف الجنوبي لامدرمان مثيرا للقلق والحيرة والاحباط فمع كل خريف قادم تحبس العشرات من القري المتناثرة كما الجزر المعزولة علي الضفة الغربية لبحر ابيض تحبس انفاسها حينما تتهددها السيول الجارفة القادمة من سهول ووديان كردفان دون ان تجد من يلجمها او يوجهها في مسارات امنة ولهذا فان الريف الجنوبي لامدرمان ربما غابت عنه الدولة وحكومة الولاية تماما ولن نكن مبالغين هنا او مجحفين في حق ولاة امرنا بولاية الخرطوم لو اننا اتهمناهم بالقصور والفشل والعجز وغياب الرؤية والمنهج والفكرة في سبيل تقديم الخدمات الاساسية للمواطنين ولو بحدها الادني . كان الامل والرجاء ان تكافي حكومة الولاية هذه المناطق بكل ما تقتضيه واجباتها ومسوؤلياتها المباشرة لكن يبدو ان هذه الحكومة تمارس فضيلة الانكفاء علي هوامش الامور والانشغال بالبهارج والاضواء والشعارات التي تابي ان تكون حقيقة . فالواقع هنا ان حكومة "الجنرال " عبد الرحيم تمارس هواية الصعود الي اسفل والهروب في اتجاه توسيع المسافة الفاصلة بينها وبين جمهورها اكثر فحكومة الولاية وربيبتها محلية امدرمان بلا فكرة وبلا خطة لاصلاح واقع فيه كثير من المنقصات والاحتياجات العاجلة كالمياه والطرق والصحة بل ان كل المشروعات التي كان ينتظرها المواطنين هناك هي الان تواجه مصيرا مجهولا سواء كان ذلك علي مستوي المطار الدولي الجديد بمنطقة الصالحة او كبري الدباسين والذي يقف الان حائرا يعبر تماما عن حقيقة الفشل والاهمال "الممنهج" الذي تعاني منه منطقة الريف الجنوبي في تنميتها وخدماتها وبالرغم من ان كل شبهات الفساد تحوم حول ملف هذا الكبري الا ان المعنيين بالامر في صمت مريب فمتي يتحدث هؤلاء الصامتين تحت "القبة" . كم من المؤتمرات والورش التي احتفت بها حكومة ولاية الخرطوم لتنمية اريافها علها تحدث قدرا من التوازن في التنمية لكنها ربما تعي تماما ان مثل هذه المؤتمرات غير قابلة للتنفيذ ولكن قد ينتهي مفعولها بانتهاء مراسم الاحتفاء بها كنا نرجو ونبتغي ان تكافي حكومة الولاية ومحليتها في امدرمان صمود مواطني الريف الجنوبي علي المكاره والظلم والخدمات المستحيلة فمن حق هؤلاء "البؤساء" بامر السلطان ان ينالوا حقهم المشروع في الطرق وفي الصحة والتعليم والمياه لان الذين حملتهم هذه القري علي اكتافها ودفعت بهم الي اجهزة الدولة السياسية والتنفيذية والبرلمانية كانوا قد اقسموا امام مواطنيهم بانهم علي قدر المسوؤلية وانهم خدام لقواعدهم وناخبيهم ولكنهم حينما انعمت عليهم السلطة بمنافعها ونسايمها العليلة "ناموا" وتناسوا انهم "نوابا" . دولة بلا ذاكرة ..! ان كانت الحكومة فعلا تريد حكما شفافا وعدالة حقيقة لبسطها في مفاصل الدولة كافة لاشترطت علي كل مسوؤل في الحكومة الجديدة بالتوقيع اولا علي اقرارات الذمة مقابل اداء القسم علي ان تكون هناك جهة اخري اكثر شفافية واستقلالية وعدالة لممارسة دورها الرقابي والقانوني علي الطاقم الحكومي والوقوف تماما علي كل ما يحصده او يكتنزه اي مسوؤل دولة وهو في كرسيه الحكومي عندها يمكن ان تتدخل الاجهزة القضائية للدولة لتطبيق مبدأ "من اين لك هذا؟ " فتلك هي الفضيلة الاسمي والاجدي لحماية الحق العام من الايادي العابثة لكنها في الواقع فضيلة غائبة مهما تعددت التشريعات والقوانين والدساتير , هذا بالتاكيد لا يعني ان الذين اغترفوا الآثام والمظالم الكبري في التجارب السابقة لا تلاحقهم العدالة فالعكس هو الملاحقة القانونية هي التي يجب ان تطبق كمنهج للحكم والنزاهة . ولكن وبكل اسف انه كلما تعددت عمليات "الفك والتركيب" للطاقم الحكومي فان عمليات النهب والاستباحة للحق العام ستكون دائما واسعة النطاق حيث تعتبر مرحلة الانتقال من حكومة الي اخري هي الاسوأ والاخطر علي الحق العام ففيها تستغل سلطات المنصب والنفوذ لتمرير العديد من الملفات والقرارات والتصديقات وارتكاب كافة اشكال جرائم الحق العام في محاولة لحصد المنافع والمصالح الخاصة قبل الترجل من المنصب ولن يتوقف خطر مرحلة الانتقال عند هدر وضياع المال العام فقط ولكنه يمتد ويتسع لضرب مفاصل الدولة وجهازها الاداري والمعلوماتي والاستراتيجي لان عملية الفك والتركيب هذه في الاجهزة التنفيذة للدولة ستكون نتائجه المباشرة فقدان للذاكرة واضطراب للنظام الداخلي وتعطيل لمجهودات سابقة بكل وزارة او بكل جهاز حكومي وذلك مع كل عمليات تبديل او محاصصة تاتي بموجبها "كوتة دستورية " جديدة للوزارة المعنية قبل ان يرسي الوزير او المسوؤل القديم منهجا قابلا للتطبيق فياتي القادم الجديد بجماعته وحاشيته الخاصة وبفكره وبمنهجه فيبدأ من الصفر وليس من حيث انتهي اليه الاسلاف بهذه الوزارة او تلك المؤسسة الحكومية وهكذا تهدر مقدرات الدولة وتجهض مشروعاتها وبرامجها وتظل تهرول وتلهث خلف مجد ضائع ومستقبل مستحيل الي حين ان يفتح الله علي بلادنا بحكومة عاقة راشدة . [email protected]