في وقت بدأت فيه أرتال المتربصين تكشر عن أنيابها تجاه السودان وخاصة أولئك الذين من ذوي القُربى المفترض فيهم حسن المعاشرة بالحسنى... ولكن هل كان لهؤلاء ذريعة لأن يتدخلوا في شئون السودان الداخلية لو لم تكن هنالك ثغرات يمكن الولوج منها لداخل السودان وأولى هذه الثغرات وأكبرها هو الفساد المتفشي للسلطة الحاكمة في السودان بجانب الفرز الوظيفي اللذين جعلا من غالبية أهل السودان ناقمين على الحكم القائم بالبلاد لأن قلة تستأثر بالسلطة والثروة.... وإن من ينظر لما تمخض عنه الحوار الوطني بما كان له من جهد مقدر في البدء إلا أنه في النهاية جاء على غير ما تشتهيه رياح التغيير ليواكب متطلبات الشعب السوداني الذي كان ينشد تغييراً حقيقيا وجذرياً لانتشال السودان لمربع التنمية والتعمير الذي انتظره منذ فجر الاستقلال... فهذه الحكومة ليست حكومة وفاق بقدر ما هي حكومة ترضيات سياسية معدلة عن ما كانت في السابق (اضيف لها مزيدا من الوزراء والدستوريين وبالتالي مزيدا من الأعباء المالية على كاهل المواطن المسكين)، على حساب الوطن والشعب... هي حكومة نفاق وطني بامتياز... فأغلب الوزراء الذين في الحكومة هم وزراء كل حكومة ، كراسيهم محجوزة لم يقدموا شيئا في الماضي ولن يقدموا شيئا في الحاضر... إن كفة قوى الشر والبغي طاغية في الحكومة.. يمكن هنالك بعض القوى المخلصة والمحبة للعدالة الاجتماعية في السلطة ولكنهم مغلوبين على أمرهم... فاذا كانت الحكومة فعلا جادة وتريد سوداناً مستقراً وموحداً عليها أن تبدأ بنفسها وبمن تعول في تطبيق العدالة الناجزة قبل أن تبدأ بالآخرين... وهذه بالفعل عملية صعبة ولكنها تحتاج لعزيمة الرجال التي لا تقهر ومجاهدة للنفس التي كانوا ينادون بها ولكنهم سقطوا في أول سلم السلطة حين غشى بريق السلطة أعينهم وأعماهم عن جادة الصواب... فاذا كانت السلطة لا تستطيع الانتصار على ذاتها فلا يمكن لها أن تنتصر على أعدائها في الداخل ناهيك عن الخارج... والناس على دين ملوكهم إن أحسنوا أو أساءوا... فأول خطوة للإصلاح يبدأ من السيد/ رئيس الجمهورية عمر البشير نفسه ... فإن كان فعلا يريد من السودان وطنا صالحا يسع للجميع عليه أن يبدأ بنفسه ويوفر لنفسه كل الخطب الرنانة التي أعيت أحباله الصوتية ويعود الى بيته القديم في كوبر ليضربوا به المثل الأعلى وينفض يده من كل ما حازه بحكم سلطته من مال منقول وثابت فاذا فعل ذلك فسيعود تابعيه من وزراء ودستوريين الى قواعدهم القديمة قبل مجيء ما سُميت بثورة الانقاذ الوطني وعليه أن يتذكر بحكم منصبه أنه هو القدوة وسوف يتحمل وزر كل من تبعه من وزرائه وحاشيته يوم القيامة ولا بأس من أن يقيم المسئولون في بيوت تابعة للحكومة طالما يؤدون عملا عاما ومتى ما انتهت وظيفتهم يعودون لبيوتهم الاصلية هذا هو الشئ الطبيعي ولكن الغير طبيعي أن يتطاول المسئولون في البنيان بمجرد تسنمهم للوظائف الحكومية من مال الدولة ... فاذا لم يحاسب المسئول نفسه قبل محاسبته للأخرين فلن يصدقه أحد فيما يقول ولن يطيعه أحد فيما يأمر إلا ضعاف النفوس الذين يبيعون أنفسهم بدراهم معدودة... واذا فعلوا ذلك لن تكون هنالك صراعات في دارفور أو المنطقتين (النيل الازرق وجنوب كردفان)، فكل هذه الصراعات التي تسميها السلطة المركزية بمسميات شتى ذات مصدر وحيد ألا وهو فساد السلطة المركزية في الخرطوم... ولو لم يكن الفساد لما كان هنالك تدخل خارجي ولو يكن الفساد لما كان هنالك تمرد... فلماذا لم تثُر كل هذه الحركات إلا في عهد الانقاذ منذ فجر الاستقلال حتى يومنا هذا، هذا السؤال ليس له إلا إجابة واحدة (الفساد)... وهذا السودان لن تستقر له حال أو يقيم له عود ولو بهذا الكم الهائل من الوزراء الذين يتجاوزون (4) أضعاف وزراء فرنسا، بجانب الجيش الجرار من الدستوريين... فمن أين للشعب السوداني المسكين من إعالة كل هذا الكم الهائل من الوزراء والدستوريين مع أسرهم وخدمهم وحشمهم... أكثر من 70 وزير .... فهل تصورون أن هؤلاء الوزراء بإمكانهم أن يقدموا شيئا للسودان إلا أن يكونوا خصما على اقتصاده المتهالك أصلا... فالسودان لا يحتاج لأكثر من (10) وزراء لأبعد تقدير لتسيير شئونه اليومية ... أما هؤلاء الذين أدوا القسم فهم ليسوا بأفضل حالا من الذين سبقوهم... فالذي يسعى للسلطة لا يخدم وطنه بعكس الذي تسعى اليه السلطة فهو الذي يخدم الوطن لأنه ينظر للسلطة كتكليف وليس كتشريف... فهذا السودان قبل انفصال ثلثه الاسفل وقبل مجيء الانقاذ كان يحكمه المركز بتسعة محافظين (مدراء) فقط... ولك أن تتخيل كان الجنيه السوداني يساوي (3) دولارات... لذا كان السوداني معززا ومكرما أينما حل... فالعالم اليوم ليس كما في السابق بل تحكمه الأجهزة الرقمية والعلاقات الدولية ذات المصالح المشتركة ولكم حزنا لعدم وجود الرئيس السوداني من بين رؤساء الدول الذين حضروا القمة الاسلامية الامريكية التي انعقدت بالرياض ولو بسطت حكومته قليلا من الحرية لشعبها مع إزالة بؤر الفساد في السلطة وتصالحت معها من يحملون السلاح في وجهها من أجل وطن بلا خوف أو ظلم، لكان حاضرة وهي أقرب الجيران للمملكة العربية السعودية...