على مدى تاريخه المعاصر، خَبِر السودان حياة سياسية ثرية، إذ عرِف التعددية الحزبية والمعارضة والثورات والانتفاضات الشعبية، وبعض تجارب من الديمقراطيات الهشة، وكذلك الصراع السياسي. بيد أن هذه «الريادة» لم تؤدِ إلى نضج حقيقي وسط الطبقة السياسة في البلاد- وأعني بها هنا محترفي السياسة في الحكم أو المعارضة أو الناشطين- التي افتقرت إلى رجال سياسة وبُناة دولة ورواد نهضويين حقيقيين، على غرار مجتمعات ودول أخرى. ونتيجة لما يمكن أن نسميه بحالة «موت السياسة»، تضخمت بشكل «سرطاني» الطبقة السياسية بالبلاد، وهو ما أدى إلى ضعف الممارسة السياسية من جهة، وتآكل وظائف المؤسسات والأجهزة العامة بشكل تدريجي من جهة أخرى، وذلك نتيجة لهيمنة الترضيات والمساومات بين النخب الضيقة، والتكالب على السلطة، حيث استبعدت مصالح «الشعب» وحقوقه، وبات الإنفاق على رفاهية الطبقة السياسية المتضخمة هو الأولوية الوحيدة، وليس الخدمات العامة على سبيل المثال. وكان إعلان حكومة الوفاق الوطني في الحادي عشر من مايو «أيار» المنصرم، دليلاً على مدى التضخم الذي وصلت إليه الطبقة السياسية في البلاد، حيث تشكلت الحكومة الجديدة من 32 وزيرًا و43 وزير دولة و5 مساعدين للرئيس، بجانب تعيين نواب بالبرلمان والمجالس التشريعية للولايات. بينما بلغ عدد الأحزاب المشاركة فيها 75 حزبًا بجانب 36 حركة «هي مجموعات متمردة أو منشقة ووقعت على اتفاقيات سلام مع الحكومة وتحولت – أو قيد التحول- إلى أحزاب شرعية، وحصلت على «رخصة» بالمشاركة في الحوار الوطني، ومن ثم الحكومة الجديدة».! وتشهد البلاد حاليًا انفجارًا في عدد الأحزاب و«الحركات»، كقنوات لممارسة العمل السياسي، وذلك لأن الممارسة السياسية – في ظل هذه الأوضاع- لا تقوم على برامج أو مشاريع أو بدائل سياسية، بل هي بالنسبة لمحترفي السياسة باب مفتوح وسهل الولوج للتكسب والإثراء الشخصي. وبالنسبة لهؤلاء، باتت السياسة الوسيلة الوحيدة للحصول على الرفاهية والمال ورغد العيش والتمتع بتسهيلات السلطة المغرية، وهو ما أسفر عن تضخم الطبقة السياسية بشكل سرطاني؛ فشغْل المناصب لا يحتاج إلى مؤهلات أو خبرة فنية أو مؤهلات، كما لا يقوم على الكفاءة والجدارة، وهو غير خاضع للمحاسبة أو الإنجاز، بل يكون- شغل المناصب- فقط المحاصصة والمساومة والفهلوة أحيانًا؛ أو ما يسميه الأكاديمي البريطاني المختص بشئون السودان البروفيسور أليكس دوال «سوق المساومات السياسية»، فلا غرو أن يسعى الجميع من أجل الاستوزار!!. وفي سياق حديثنا عن سلوك الطبقة السياسية، وبجانب الترهل السياسي العام على المستوى الوطني، هناك أيضًا ظاهرة «الريع السياسي»- بما هو دخلٌ سهل الحصول عليه بدون بذل جهد يذكر أو أسميه بالسُحْت السياسي- برز مؤخرًا ضمن الطبقة السياسية صِنف من الناشطين والمتحزبين يقوم رأسماله السياسي على «الأزمات»، ويمكن ملاحظة ذلك في المجتمعات المتأثرة بالنزاع في البلاد لدى النخب والزعامات المحلية أو ظاهرة «الناشطين». إن السِمة العامة للمُنتسِب للطبقة السياسية في البلاد التي نتحدث عنها: أنه سياسي تقليدي محلي منقطع تمامًا عن فهم تيارات السياسية الدولية، وأنه غير مدرك لكُنه التحولات والأفكار من حوله، وربما إلمامه بالسياسات الدولية أو الإقليمية يكاد يكون معدومًا أو مشوهًا أو ضحلًا! وبالنتيجة غير مطلع على «أفضل الممارسات» كي يحاكيها في بلاده، وبهذه السمات بطبيعة الحال لن يكون أحد هؤلاء رجل دولة. إن التحدي أمام الجميع إيجاد طبقة سياسية جديدة ملتزمة بمشروع بناء الدولة، وتحقيق النجاح والازدهار، غير أن الوصول إلى مثل هذه الطبقة في ظل الفوضى التي تضرب بأطنابها الحياة السياسية في الوقت الحالي، ما لم تتم إعادة بناء الحياة السياسية: قانون الأحزاب بحيث يجعل الأحزاب قائمة على برامج ولديها حضور وسط الجماهير، بدلاً من «أحزاب النخبة» الحالية؛ ثانيًا، إيجاد مفوضية للتقويم السياسي تعمل على ضبط الخطاب السياسي وترشده وتحدد معايير لمن يشغلون المناصب العامة للارتقاء بالخطاب والممارسة السياسيين على أساس الجدارة والكفاءة، بحيث تغدو الأحزاب مدرسة لرفد الدولة بالكوادر؛ ثالثًا، اعتماد سياسات انتخابية صارمة؛ بمعنى اعتماد الانتخاب الشعبي الاختيار من قبل الجمهور، وهو هدف مزدوج: لتطوير الممارسة الحزبية من جهة، وتصفية الطبقة السياسية من «الدخلاء»؛ رابعًا، وضع قوانين صارمة لضمان النزاهة والشفافية في الحياة، لاسيما بالنسبة لشاغلي المناصب التنفيذية. إنّ ممارسات الطبقة السياسية الحالية زهّدت الشعب في السياسة والسياسيّين، وأغرى السلوك الوصولي لغالبية السياسيين عديدين بالسعي لدخول الحقل السياسي لتحقيق مآربهم، ما دام هذا هو السبيل الأسرع للوصول للجاه والمال. ختام القول، إن السبب الجوهري في تفسير ظاهرة التضخم السرطاني للطبقة السياسية – من بين عوامل عديدة أخرى- هشاشة الأحزاب نفسها وقابليتها للانشقاقات، وغياب الديموقراطية داخلها. وكذلك قانون الأحزاب والتنظيمات السياسية الذي يتساهل في مسألة تأسيس الأحزاب. ومن الانعكاسات السالبة الماثلة لهذه الظاهرة حاليًا، وعلى المدى البعيد: ترهل أجهزة الدولة ومؤسساتها وانعدام المهنية والكفاءة فيها، مع أن سؤال ومشروع بناء الدولة هو التحدي أمام الطبقة والنخبة السياسية في البلاد، ويقاس به نجاحها أو فشلها. وأيضًا إضعاف الروح الوطنية والتماسك الاجتماعي بالبلاد. عباس محمد صالح عباس ساسة بوست