وعَدتُ فى ختام الحلقة الأولى أن أقوم بتفصيل مقترح إطار العمل لتغيير الواقع البائس فى وطننا. سأقوم الآن بتفصيل هذا الإطار، وتقديم بعض النماذج والأمثلة لأهميته، وكيف تعمل أجزاؤه المختلفة مع بعضها البعض. فالإطار بسيط جداً وسهلٌ فهمه، ولكن تبنِّيه وممارسته يحتاجان إلى صبرٍ وإصرارٍ ومثابرة. من المهم جداً قبول مبدأ أننا نكتسب المعرفة بواقعنا عن طريق التجريب، وأننا نتخذ قراراتنا بناءً على هذه المعرفة. إنها حقيقة قد تبدو فى غاية الوضوح، وقد لا تبدو أمراً فى غاية الأهمية؛ ولكن أودُّ أن ألفت الانتباه إلى أهمية تبنِّيها كأساسٍ لهذا الإطار. إنها القاعدة الذهبية لكلِّ العلوم؛ من هندسةٍ، وطب، واقتصاد، وفلك، وكلِّ الاتجاهات الجادَّة فى علم الإدارة والسياسة. وأكاد أن أعمِّم دون إخلالٍ بأنها القاعدة التى بُنِيَت عليها الحضارات، سواءً كانت هي الحضارة الغربية أو الإسلامية فى عصرِ ازدهارها. وليست مفارقة أن آباء هذا الفهم - الذي قد لا توحي بساطته بجبروته وقوته - هم فلاسفةٌ وعلماءُ فى مختلفِ ضروب المعرفة فى ذاتِ الوقت. إنها الأساس الذي يوحِّد كلَّ الحادبين على العمل لبناءِ وطنٍ يحفظ كرامة كلِّ السودانيين، ويحقِّق الحياة الكريمة التي تليقُ بأهلنا. وهذا التسليم بتجريبية المعرفة وتعقيد الظواهر يقودنا إلى القول إن هناك طريقتين للعمل. طريقة فوقية تؤمن بأن الجماهير لا تؤتمن فى معرفة ما تريد أو اختيار ما هو أفضل لها، ولذا فلا بدَّ للقادة من بناء الحزب وفق رؤيتهم، ومن ثمَّ تلتفُّ الجماهيرُ حولهم. ما يريده الشعب السوداني، يعرفه قادة حزب الأمة والاتحادي والشيوعي والمؤتمر الوطني وغيرهم من قادة هذه الأحزاب بطريقةِ بنيتها الهرمية، والتى تركِّز السلطة والقرار والخياراتِ المصيرية فى يدِ فردٍ واحد أو قِلَّة. ورغم الاختلاف بين هذه الأحزاب، فهي تتفق فى هذه النظرة لما يريده شعبنا. وهي فى ذلك توهم نفسها، وتصدِّق أن الإطار الديمقراطي من هياكلِ حزبٍ ومؤتمراتٍ وخلافه هي الديمقراطية، وأن ما يختارونه لشعبنا هو الأفضل له. لقد أفرغتِ الإطار تماماً من المحتوى الديمقراطي، وخير شاهد هو انقسام وانشطار هذه الأحزاب لأدنى خلافٍ بينها. إننا لا نغفل هنا جهد المؤتمر الوطني لقسمِ هذه الأحزاب، ولكن نودُّ أن نؤكِّد قابلية هذه الأحزاب للانقسامات، لعدم وجود مواعين للديمقراطية داخلها، ولخللٍ فى تصميمها على قبول أيَّةِ اختلاف. الاختلافُ أمرٌ صحِّي، متى ما كانت المواعين والحالة العقلية للحزب جاهزة له. الطريقة الأخرى هي إقناع الجماهير لأخذِ الأمر بيدها، والعمل معها لحلِّ مشاكلها اليومية في الحي، وفى القرية؛ وتدريجياً، كسب الثقة فى نفسها، وتطوير مقدراتها، لبلورةِ ماتريد الآن، وفي المستقبل. هذا يحتاج إلى صبرٍ ومقاومةٍ عالية جداً، لتفادي السقوط فى استخدام الطريقة القديمة البالية، التي تتمثَّل في الاختيار نيابةً عن الجماهير، ولتحاشي عدم الصبر على تنمية المقدرات، للعملِ كفريقٍ واحد يهمُّه نجاح الفريق، أكثر من نجاحِ هذا الفرد أو ذاك. العمل بهذه الطريقة، يعني ولادة الحزب من خلال العمل الجماهيري، لا تقديم ما يتصوَّر الحزبُ أنه الحل، ويسعى إلى لفِّ الجماهير حوله. هذا يحتاج إلى قدرٍ عالٍ من الحسِّ العملي (البراغماتي)؛ إنه عملٌ مشترك بين بنات وأبناء شعبنا فى الداخل والخارج، وتكون قيادته من الداخل، ويبدأ بإيجادِ حلولٍ لمشاكل المواطن العاجلة من تعليمٍ وصحَّة، وإيجاد سبل تحسين وضعه المعيشي، خارج إطار منظومة المؤتمر الوطني الحاكم. هذا العمل - الذي يعتمد الإدارة الذاتية من داخل الفريق - يحتاج إلى الشفافية، والتدقيق (التحقُّق)، والتأقلم. هذه العناصر الثلاثة لا بدَّ منها، وبدونها لن تنجح الإدارة الذاتية. وأهمية الشفافية تتمثَّل فى أن كلَّ جوانب نشاط الجماعة معروفة لديهم جميعاً. ليس هناك أسرار أو أجندة خفيَّة، وليس هناك انقسامات أو تكتلات لنقاشِ أمرٍ ما أو الاتفاق على اتجاهٍ معيَّن أو حلُّه بطريقةٍ معيَّنة. كلُّ وثائق العمل متاحة للجميع، وفى وسعِ الجميع الحصول عليها. كما ذكرت سابقاً، ما يهمُّنا هنا هو عملُ ونجاحُ الفريق كفريق، وليس صنع أبطال هم بمثابة "الأسد النتر" أو الزعيم الأوحد الذى يحلُّ كلَّ المشاكل، ويقرِّر فى كلِّ مشكلة، ويلتفُّ حوله الجميع. والتدقيق أو التحقُّق هو مبدأ هام جداً. يجب التوقُّف ومراجعة ما نحن بصدد إنجازه، وأيضاً مراجعة طريقة عملنا، وإنْ كان هناك ما يمكن إنجازه بطريقةٍ أفضل. ولأننا نهتمُّ بإنجاز الفريق كفريق، لن نتوقَّف لنلقي باللوم على فلان أو علان، بل سننظر وبشجاعة لما أنجزناه وطريقة الإنجاز، ونقوم بالإصلاح الفوري لطريقة عملنا، والتعديل الفوري لِما نودُّ إنجازه، إنْ كان هناك انحرافٌ عمَّا نودُّ إنجازه. وهنا مبدأ التأقلم أو التعديل. لن يصرَّ الفريق على العمل بذاتِ الطريقة، متى ما تبيَّن له أن هناك طريقةً أفضل أو تعديلاً على ذاتِ الطريقة، إنْ كان يعني أننا سنعمل بكفاءةٍ أفضل. بعد الحرب العالمية الثانية، عمل أبُ ما يُعرف بالكفاءة الشاملة فى علم الإدارة، إدواردز ديمنغ، ضمن فريق الجنرال دوغلاس مكارثر، لبناءِ اليابان. ولقد قام ديمنغ بتدريبِ مئاتِ المهندسين اليابانيين للقيام بالقياس الدقيق لما تمَّ إنتاجه، وتعليمهم أنه ليس هناك نقطة تصلها وتكونُ قد وصلتَ إلى أفضلِ ما يمكن، بل إن عملية الجودة أمرٌ مستمر. لقد أخذ اليابانيون الأمرَ مأخذ الجد، وعملوا بكلِّ قواهم لتحقيقِ الجودة فى كلِّ أوجه الحياة. لقد اعتبروا إضاعة الوقتِ جريمةً وعملاً غير أخلاقي، ولذا قد عملوا على تغيير طريقة عملهم للتخلُّص من أيَّةِ خطوةٍ فى الإنتاج تؤدِّي إلى إضاعةِ الوقت. لقد أخذ مبدأ ديمنغ الشهير (خطِّطْ، اِعملْ، تحقَّقْ، عدِّلْ) أبعاداً أخرى، عندما ابتعدوا به عن مبدأ الإدارة بالطريقة الأمريكية فى وقتها، وهي طريقةٌ فوقية، وأعطوا السلطة كاملةً للتيم أو الفريق الذي يعمل كتيمٍ، وليس مجموعة أفراد. لقد أدَّى هذا الخيار إلى تربُّع اليابان فى قمَّة الدول الصناعية، واحتلال "تويوتا" المركز الأوَّل فى عالم أمِّ الصناعات، صناعة السيَّارات. فى الحلقة الثالثة والرابعة، سأقوم بإكمال شرح الإطار، ثم أنتقلُ إلى الاستفاضة فى تقديم أمثلة. وكما قال تي إي لورانس (الشهير بلورنس العرب) فى مجموعة (أو أعمدة) حِكَمِه السبع إن من يحلمون نهاراً هم أناسٌ خطِرون، لأنهم قد يقومون بتحقيقِ أحلاهم بأعينٍ مفتوحة، ويجعلونها واقعاً. احمد الفكى