حينما استلمت حكومة (الانقاذ) السلطة في عام 1989، رفعت شعارات تجميل العاصمة، وشرعت فعلا في إقامة بعض المجسمات في (الصواني) وفرضت على المحلات التجارية و(الدكاكين) تلوين أبوابها باللون الاخضر، بغرض توحيد اللون، وفي أذهان محافظ العاصمة ونائبه في ذلك الوقت، طموحا متعاظما، واضعين في أذهانهم جمال أبوظبي ومسقط ودبي.. وقد استبشرنا بذلك، اول الامر.. ولكن سرعان ما تباطا هذا الاهتمام وبدات المطامع تتسرب الى البعض عبر جهاز الدولة، وصارت مقاولات الانشاء تمنح لاعضاء التنظيم الحاكم، دون مراعاة للكفاءات الفنية والقادرة على تنفيذ الاعمال الجيدة والجميلة التي تحقق حلم المحافظة .. وبمرور الايام تحطمت المجسمات الهشة التي تم انشاءها بمواد غير ثابتة وبأشكال لإتمت بأي صلة للمجسمات الثابتة.. تم هذا بالرغم من وجود فنانين على كفاءة عالية، تخرجوا من كلية الفنون الجميلة، ولكن التمكين الذي بدأ يكشف عن وجهه، الذي لم يكن ليسمح بان يتولى الفنانون الحقيقيون هذه الاعمال، أغلق الطريق تماما على المبدعين الذين (لا ضهر لهم). تداعت بعد ذلك أساليب حكومة (الانقاذ) الإقصاءية لتطبق اطباقا تاما على على كل مفاصل الاقتصاد والأعمال التجارية والمؤسسات الحكومية، كما هو معروف.. وفي هذه الأجواء العجيبة، لم تفلح كل محاولات المبدعين من خريجي كلية الفنون الجميلة للمشاركة في تجميل المدينة وإضفاء الألق عليها، ولو دون أجر.. وهم الذين أبدعوا فيما مضى، أيام الحكومات السابقة، في تجميل العاصمة.. ومازلت أذكرالمجهود الكبير لطلبة كلية الفنون في تجميل شارع النيل، في فترة وزير الشباب الاسبق، الدكتور منصور خالد (متعه الله بالصحة ) في أول أعوام ثورة مايو.. كما تمت مجهودات في الأعوام القريبة السابقة لشباب من خريجي كلية الفنون لتجميل شارع النيل، بمبادرة منهم، ودون أجر.. وبمرور الزمن صارت الأعمال الفنية والمجسمات التي تتم عن طريق الدولة، ضعيفة المستوى.. تنشأ ثم تزال ثم تنشا ثم تزال.. بسبب ضعفها او لعدم متانة المواد المنفذة بها والتي لا علاقة لها بالمواد الأصلية التي يتعامل بها مختصو النحت في كلية الفنون الجميلة.. تلك الكلية التي كانت تعد، واحدة من أحسن عشرة كليات في العالم.. حسب تقارير الجهات العلمية المختصة.. شهدنا في التسعينات من القرن الماصي، ونحن في أوج حكومة (الانقاذ)، قيام مطاعم صغيرة انتشرت على طول نهر النيل امتدت من منطقة معدية توتي (سابقا) إلى المنتزه العائلي، لا تتمتع بأي مسحة جمالية ولا تنتظمها اي درجة من الانسجام المعماري، او الفني.. وساهمت هذه المطاعم في إخفاء منظر نهر النيل الجميل عن المارة والمتنزهين في الأعياد والإجازات.. ألان ونحن في عام 2017، لاتزال هذه الأبنية قائمة في مكانها تمد لسانها لكل متجول على شارع النيل ممنيا نفسه بالاستمتاع بهذا النهر الجميل، الذي حبانا الله به، فيرتد على عقبيه وقد اصطدمت عيناه بخرابات معظمها مهجور وخالية من الجمال!.. ويبدوان هذه الخرابات لم تلفت نظر السيد معتمد الخرطوم ولم يظهر لنا انه قرر في امرها شيئا، وإنما لفت نظره مجسم "عزيز قاليري" ولمن لا يعرفه، فهو صرح فني في غاية الجمال، أعجب به كل من شاهده، حتى معتمد الخرطوم نفسه، وقد أقيم في مساحة صغيرة لا تتجاوز المائتي مترا مربعا في طرف حديقة الهيلتون (سابقا)، على الجانب الآخر من شارع النيل، لتضيف القا وجمالا للشارع، أما وظيفته فهي عرض الأعمال الفنية للمبدعين من التشكيليين والقيام بتدريب الهواة من محبي الفنون، والارتفاع بالذوق العام.. لم يجد المعتمد إلا هذا الصرح الفني ليزيله، تاركا المطاعم القديمة المتاخمة للنيل.. بالرغم من أن القاليري كان مصرحا بصورة قانونية عن طريق المعتمد السابق.. ولم تجد صاحبة القاليري الفنانة التشكيلية ايثار عبد العزيز إجابة مقنعة لهذا الصنيع حتى الآن.. هذا الصرح الفني أقامه عدد من الشباب من التشكيليين بمجهود خاص ودون مساعدة اية جهة حكومية.. ولاتزال أنقاض هذا القاليري موجودة تشهد على تحطيم أجمل مجسم أقيم على شارع النيل.. والغريب أن المعتمد قال لصاحبة القاليري عبارة غريبة" خليتو البلد كلها زرايب وإكشاك!!" أو بهذا المعنى.. وكأن الخرطوم تتبختر في جمالها ورونقها وقد أضحت شوارعها خالية من النفايات ، ولم يبق من القبح إلا "عزيز قاليري"الذي وصفه المعتمد بأنه مجرد كشك!! ولو أدار ظهره للناحية الأخري على شاطيء النيل، لرأي القبح الحقيقي التي يصدم أعين المشاهدين.. ونقول للسيد المعتمد.. ان مدينتا في اشد الحوجة لمن يهتم بتجميلها.. وإن من يخلق الجمال لا يستحق أن نحاربه، بل يستحق أن نكرمه ونشجعه وندعمه.. والعدل أساس الملك.. إن قضية البيئة في العاصمة تحتاج إلى إضافة منهج تربوي حقيقي يتعلمه الكبار قبل الصغار.. أما هذا الزمن العجيب، فهو زمن يرى فيه الحاكم الجمال قبحا والقبض جمالا.. ولا حول ولا قوة الا بالله.. خلف الله عبود الشريف - مختص التربية الفنية البيئية