نصحونا عندما كنا ندرس اللغة الإنجليزية في المدارس الثانوية باتباع أسلوب الغمر التام، Total immersion ويعني أن تردم الطلاب بالإنجليزية طوال فترة الدرس/ الحصة، ولا تستخدم العربية في مخاطبة الطلاب، ولا في شرح معاني المفردات والعبارات، ويعرف نجاعة هذا الأسلوب، كل من عاش في بلد أجنبي حينا من الدهر، حيث يلتقط الإنسان روح اللغة وليس فقط قشرتها الخارجية، بالاحتكاك بأهل البلد، والاستماع لكلامهم، ثم الاضطرار لمخاطبتهم بتلك اللغة، وأذكر أنني في ذات رحلة جوية من لندن، كنت أجلس جارا لشاب خليجي، وبدأنا السوالف/ الونسة، وعرفت منه أنه التحق بجامعة بريطانية قبل 8 سنوات، وما زال يبحث عن سبيل للمخارجة والتخرج، وعزا طول مدة الدارسة ل»مشكلة اللغة» شخص يقيم في بريطانيا ل8 سنوات متصلة، يفترض أن يكون قادرا على تأليف الشعر بالإنجليزية، حتى لو كان عاملا في محطة بترول وليس طالبا يتلقى الدراسة باللغة الإنجليزية، ويفترض أنه يقضي معظم يومه مع طلاب لسانهم الأم الإنجليزية، فقلت لجاري: أكيد أنت تقيم في مسكن مع طلبة عرب، وربما تقضي الفسحات بين المحاضرات في الجامعة مع طلبة عرب، فكان رده: طبيعي أسوي جذي «هكذا»، فقلت له إن ذلك عين الخطأ وإنه من الخير له أن يقيم في سكن طلابي ليس فيه عرب، أو يستأجر غرفة بمنافعها مع عائلة إنجليزية، فوعدني بأن «يحاول». أعرف نجاعة الغمر التام في تعلُّم اللغات، لأنني قضيت سنوات طفولتي الباكرة ما بين بحري وكوستي ناطقا بالعربية، ثم أعادنا والدي الى جذورنا في شمال السودان النوبي، وخلال أربع سنوات تقريبا كنت قد صرت نوبيا «لِكَّة»، وعندما أكملت المرحلة المتوسطة كنت قد أصبحت نوبيا شاملا بمعنى أنني صرت قادرا على الكلام وفهم اللغة النوبية باللهجتين الدنقلاوية/ الكنزية والماسوكية/ الماسية، وأتوقف هنا للمرة الخرتمية لأنبه أهلي النوبيين قبل غيرهم، بأنه لا يمكن أن يكون جزء منهم يحمل اسم «محس»، لأنه لا مكان لحرف الحاء في اللغة النوبية، وال»محسي» يسمي نفسه باللغة النوبية «ماسي»، أو ماسوكي، وأرض «المحس» اسمها «ماسِكّي»، بكسر السين والكاف المشددة، وقياسا على هذا فقد ظللت أنبه النوبيين الى ان راسمي الخرائط العرب الذي جاءوا مع الاتراك ثم الإنجليز افترضوا أن النوبيين ينطقون أسماء بعض قراهم «خطأً» لعلة في ألسنتهم، ومن ثم صارت عندنا عبري وصايوعمكة وغيرها، مع أن حرفي الصاد والعين يسببان للنوبي تضخم البروستات، لو حاول النطق بهما «الحروف / الأصوات العربية التي لا توجد في اللغة النوبية هي: ث/ ح/ خ/ ذ/ ز/ ص/ ض/ ط/ ظ/ ع/ غ/ ق «المقلقلة»، ومن عجيب ما انتبه اليه النوبيون مؤخرا، أنه لا توجد كلمة واحدة في لغتهم تبدأ بحرف/ صوت «ر»، ولهذا يتحدث النوبي عن أرمدان، وهو يقصد رمضان، ونحن أصلا نقلب الضاد دالا. أتذكر هنا واقعة رواها مدير جامعة عين شمس المصرية لمجلة روز اليوسف، عن تسلمه لرسالة من طالب يطلب فيها أن تقدم له الجامعة قردا، واحتار المدير في أمر الطلب والطالب، وأجرى تحريات أكدت له أن صاحبنا لا يدرس الطب او البيطرة ليبرر رغبته في اقتناء قرد لتشريحه، فكان ان استدعاه وسأله عن سر الطلب الغريب، فكان الجواب أنه يمر بظروف صعبة. فازداد مدير الجامعة حيرة وسأله مداعبا: عايز تسرح بيه تلم قرشين وللاعايز تبيعه. ثم أجيب لك قرد منين؟ هنا امتلأت عينا الطالب بالدموع وقال أنا مش عايز قرد، عايز سلفة. فصاح المدير: آآآعايز قرض، وأبلغ المدير المجلة أنه رفض تقديم أي مساعدة مالية لطالب جامعي لا يميز بين حرفي الدال والضاد «وقلت في سري: المسكين من «أندنا»، من النوبة المصرية، ولكننا على الأقل عندما نكتب بالعربية نستخدم حروفها الهجائية على نحو صحيح» * «لقوية» بالعامية السودانية = «لغوية» الصحافة