لم يقابلني في القاموس السياسي العالمي، وصفاً دقيقاً لما آلت إليه الأوضاع في السودان، مثل تعبير الإمام الصادق، الذي قال فيه ما معناه: أن البلاد مختطفة من قبل حدية تطير بها و نريد إنزالها من فوق بالحكمة. رغم تحفظي الشخصي الشديد علي شخصية الإمام، بحيث أعتبره يلعب أدواراً سالبة في السياسة السودانية، و يحدث اضرار بالغ بالعمل المعارض، و لكنه يظل في النهاية من حكماء هذه الأمة، على قلتهم، و من حقه أن يدلو بدوله كما يفعل الآخرين، و الذين في اغلبهم يعتبروا أكثر منه ضرراً. إلا ان الإمام في النهاية، يكتفي فقط بمناشدة حدية المؤتمر الوطني، على النزول إليّ الأرض، بعبارات يملأها الأسف و الترقب و الانتظار، و هو في ذلك بعيد كل البعد عن الفعل السياسي الإيجابي. ما أن يقوم الناشطون المستقلون، بفتح جبهة جديدة للعمل، سياسية إجتماعية كانت أم فكرية، إلا و اشتم رائحتها الإمام الصادق و تصدر حراكها إليّ أن تجف و تموت، بالتقادم و بزهد الناشطين فيها بعد تغول الإمام علي مجهود الصغار. هذا التغول المستمر من جميع السياسيين المخضرمين، علي مجهودات صغار الناشطين المستقلين، أدي الي زهد الناشطين في العمل العام، علي الرغم من انهم هم المحرك الحقيقي لأي تغيير إجتماعي حقيقي قادم. إذن السؤال المهم هو، كيف يحدث ذلك التغيير، في ظل غياب و إعتزال الفاعلين الأساسيين ؟ المعركة الفكرية الوحيدة التي غاب عنها الإمام الصادق، لحسابات سياسية يعلمها هو، هي المعركة الفكرية الخشنة بين دعاة نظرية الصراع الطبقي الإجتماعي و المؤمنين بنظرية الهامش و المركز كعقيدة دينية تكفيرية غير قابلة للتجاوز و النقاش و التعديل. الغريب في الأمر، أن من يتصدوا للترويج لنظرية الصراع الطبقي الاجتماعي، هم نشطاء يساريين مستقلين أقرب للمدارس الليبرالية، و ليس كوادر الحزب الشيوعي كما كان متوقعاً، أو يجب أن يكون، لأن وجودهم أساسي في هذه المعمعة الفكرية، و لا يقبل أي مجاملات أو حسابات سياسية. كان من نتائج تلك المعركة الفكرية الخشنة، أن استلم نشطاء التيارات الليبرويسارية المستقلين، زمام المبادرة للفعل الإيجابي، و أصبحوا في طليعة التغيير، بعد أن كانوا مجرد تابعين. العمل العام الآن، يحتاج الي نوع من الميتاسياسة و علاقاتها الأولية، في احداث التغيير الإجتماعي المطلوب، و ذلك لفشل فكرة المنظومة الحزبية في السودان، لعوامل كثيرة. لا نحتاج إليّ أدلة كثيرة الآن لنقول، أن تحالف نداء السودان فاشل، و تحالف الجبهة الثورية فاشل، و تحالف قوي الاجماع فاشل، و كل الأحزاب السودانية فاشلة. حزب المؤتمر السوداني رغم تقديمه لتجربة تنظيمية مشرفة، و مواقف نضالية محترمة، إلا أنه يفتقد للنكهة المعرفية، و يمتاز بهلامية فكرية واضحة، و يؤسس جميع مواقفه فقط علي معارضة النظام، و هذا لا يكفي وحده لتأسيس حزب سياسي. ان أي اصطفاف وطني معارض جديد، لا يخاطب قضايا حقوق الإنسان، و يلتزم بالاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان مثل سيداو و غيرها، و يوقع عليها بدون تحفظ، سيكون تحالف غير مبديء و لا يرجي منه الكثير. كما أن اي تحالف سياسي لا يبني علي أساس العلمانية و قيمها، و مخاطبة قضية الحريات الدينية، سيكون تحالف مرحلي ضعيف، و عديم الفائدة. لذلك علي القوي السياسية، التوقيع علي مواثيق حقوق الانسان العالمية، قبول التوقيع علي إبرام الاتفاقيات و التحالفات السياسية. كذلك علي القوي السياسية، التركيز علي مخاطبة قضايا الحريات الدينية، قبل مخاطبة القضايا السياسية المباشرة و المستجدات اليومية. كما يجب دعم و تكثيف الخطاب التنموي بصورة مباشرة، و جعله مقدماً علي أي أيدولوجيا سياسيّة. د. مقبول التجاني