ينعقد الآن في السودان إجماع على ضرورة التغيير. لكن يختلف السودانيون حول معنى التغيير. فمنهم من يرى تغيير النظام ومنهم من يرى الإبقاء على النظام مع تغيير الوجوه التي طال بقاؤها. إلا أن التغيير الأهم يجب أن يطال محورين: أولهما العلاقة بين الوطن والمواطن التي تعرضت لاهتزاز كاد يفصمها. وثانيهما النظرة الجزئية التي تجعل صاحبها مكتفياً بما يروق له من المشهد الكامل فلا يرى المكافئ المكمل. فيما يتعلق بالمحور الأول لا بد من إصلاح العلاقة بين الوطن والمواطن. وعل أهم ما ينبغى السعي إليه هو إعادة ثقة السوداني في نفسه وإعادة انتماء السوداني لوطنه. لقد أصبح السودان موضع تندر السودانيين وصار كل سوداني يخرج نفسه من السودانية ويتخلص من هذا الإهاب ثم ينعت بقية السودانيين بالكسل والتواكل واللاوطنية والحسد وكل ذميمة تخطر على البال.. حالة جلبها انطلاق كل القوى السياسية من موقف سالب تجاه الآخرين حتى ارتاح الجميع عند تشخيص كسول مفاده أن كل العهود الوطنية مساهمة في التخلف الذي يعيشه السودان. بعد أن افترضوا أن السودان الآن بلا فضيلة ولا قيمة. ويعرف أن كل شعب يشترك في الفخار برموزه الوطنية والإنجازات الكبيرة. لكن الاهتزاز الذي أصاب العلاقة بين المواطن والوطن جعل التبخيس يطال إنجاز الاستقلال ذاته. وطال التحقير حركة التحرر الوطني التي توجت برفع علم الحرية. فاختصر المبخسون كل هذا الرصيد المجيد في عبارة أن أزهري لم يكن يقرأ! وحصروا السيد عبدالرحمن في جلباب الطائفي الذي يستغل السذج البسطاء ويعمي أصحاب منهج التبخيس عن رؤية الإعجاز المتمثل في بناء المهدية الجديدة من حطام كرري.. ولا قيمة لطريق بورتسودان ولا كنانة وقاعة الصداقة ما دام الأمر كله محصوراً في مايو اللعينة ونميري البليد. ولا أثر لمشروع المناقل ونهضة نوفمبر الصناعية ما دامت إنجازات تحققت في عهد الطغمة العسكرية. ولا أي إنجاز للإنقاذ التي سرقت السلطة بليل. إذا عولج هذا الداء بخلع النظارة السوداء يعرف هؤلاء ألا تعارض بين تعظيم أي إنجاز وطني مع حق الزعم بتقديم مردود أفضل.. ويعرفون أن وطنهم هو بلد أزهري أحد رموز التحرر في التاريخ الحديث. والسيد عبدالرحمن أحد حكماء إفريقيا والقائد العام إبراهيم عبود أحد رموز العسكرية في العالم الثالث وعبدالرحمن علي طه أحد أساطين التربية وجكسا ومحمدية وبشير النفيدي وداؤود مصطفى ومحجوب محمد صالح ونبيل غالي ويوسف بدري ومحمد وردي وعبدالحليم محمد وآمال عباس وهاشم ضيف الله وعبدالله الطيب وصلاح أحمد إبراهيم وروضة الحاج والطيب صالح. ويعدون من الرموز العشرات في كل مجال. فهل أصبحت كل هذه الأسماء رموزاً رغم خلو الصحائف من أي إنجاز؟ أما المحور الثاني الذي يحتاج إلى مراجعة فهو النظرة الجزئية؛ حيث يتغنى صاحب النظرة بنمط اجتماعي معين مع عزله من الظروف الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المرتبطة به.. وعلى سبيل المثال يمكن أن يبكي أحدهم على أيام كانت فيها البيوت كبيرة وفسيحة تستقبل الضيوف ليلاً ونهاراً. وكان عميد الأسرة يأوي الطلاب في داره وينحر الذبائح لضيوفه ويشرف على كل صغيرة وكبيرة. ويقف له الجميع احتراماً ولا يناقشونه في كلمة. ثم ينعي ذات المنبهر بهذه الصورة على السودانيين تواكلهم وغياب المبادرة الفردية فيهم. مع أن ما ينعاه عليهم هو مكمل حتمي لما يتغنى به.. وإذا تعافى من النظرة الجزئية. قد يلحظ ما قد يبشره بتحول نحو نمط اجتماعي جديد تصحبه قطعاً مفاهيم سياسية جديدة. يمر السودان بمرحلة انتقال اجتماعي تظهر ملامحه بوضوح في المناطق الحضرية وسوف تمتد إلى غيرها.. عرف الناس الخطة الإسكانية التي تجمعهم بجيران ليسوا من الأهل والأقارب. وتسكنهم الخطة في بيوت صغيرة بدلاً عن (الحيشان) الفسيحة. وتنسحب الأسرة الممتدة التي تجمع الأب وأبناءه وإخوانه وآخرين لتفسح المجال للأسرة الصغيرة.. حينها سوف تسود قيم جديدة أبرزها الاعتماد على الذات واحترام خصوصيات الغير. وهي مزايا جديدة تأتي حتماً مع انتقال جديد يزيل صورة قديمة يحن إليها أصحاب النظرة الجزئية ويمنون النفس بإلحاق مزايا التحول الجديد بالصورة القديمة.. وهيهات. يبقى أن يدرك السياسيون استحقاقات هذا التحول فيرسموا خططهم وفق تحولات حتمية وضرورية بل ويدعموا أسباب هذا التحول المواكب للعصر. وتبقى الصور القديمة في الأغنيات الشعبية. هذا يناسبها وتناسبه.. لكنه قطعاً لا يناسب الخطاب السياسي. العرب