اضطجعتُ بعد نوبةِ عملٍ مسائي مرهق، كانت الإذاعات منشغلة بالاشتباكات بين الطلاب والشرطة في لندن، في محيط مبنى مجلس العموم، الذي أقرّ أعضاؤه زيادة رسوم الدراسة الجامعية. وفي سياق الكرّ والفرّ بين الشبان المتمردين ورجال الشرطة، اعترض المشاغبون السيارة المقلة لولي العهد أمير ويلز الأمير تشارلز وقرينته كاميلا باركر - بولز التي بدا الرعب في نظرات عينيها من «فوضوية» المتظاهرين. على رغم اهتمامي بمتابعة التقارير، غشتني سِنَةٌ من النوم، فرأيت في ما يرى النائم، أن تلك الحادثة بحذافيرها حدثت في العاصمة السودانية الخرطوم، وأن تشارلز وكاميلا وصلا إلى مطار الخرطوم الدولي في زيارة رسمية للسودان. لا بد أن كاميلا ذعرت ابتداءً من مشاهدة جميع الجنود السودانيين المشاركين في تنظيم الاستقبال ومغادرة الموكب وهم مدججون ببنادق الكلاشنكوف والمسدسات. وليس الهراوات فحسب كما هي حال الشرطة في بريطانيا. كان مقرراً أن يمرَّ موكب الضيف البريطاني في طريقه إلى القصر الرئاسي بالقرب من مقر «محكمة النظام العام»، حيث تمارس الحكومة المتأسلمة تنفيذ أحكام بالجلد على فتيات جنوبيات مسيحيات ووثنيات وعلى فتيات شماليات بتهمة ارتدء البنطالات. يمنح قانون النظام العام رجال الشرطة حق أن يكونوا الخصم والحكم، الادعاء والشاهد الأوحد. بمزاجهم يوقعون بمن يريدون كيفما شاؤوا. مصادفة سيئة حقاً. إذ تزامن مرور الموكب قرب محكمة النظام العام مع وجود حشد كبير من الطلاب السودانيين الذين تنادوا لمعرفة مصير زميلة لهم اتهمها رجال الشرطة بارتداء «بنطلون». وحكم القاضي بتنفيذ حكم الجلد في ساحة المحكمة ليشهد عذابها طائفة من المؤمنين. أثارت فظاظة الجلاد وقسوته غضب الطلاب. تقطعت نياط قلوبهم وهم يرون الصبية تصرخ وتولول، وكلما انقلبت على جنب عاجلها الجلاد بسوط على الجنب الآخر. كثيرون منهم لم يتمالكوا فانحدرت منهم الدموع. وجثم الألم على صدورهم وهم يسمعون الفتاة تصرخ «واي يا أمي»... «وَيْ ويْ ويْ»... من دون سابق اتفاق، تكونت قناعة لديهم بأن النخوة والرجولة يفرضان تخليص الفتاة من الجلاد الظالم، والقاضي المتغطرس الذي وقف يرقب في تلذذ مقيت مشهد الجلد والفتاة تتلوى من وقع السياط على جسدها البض. تقدم اثنان، ثلاثة، أربعة وتبعهم الباقون، انتزعوا للفتاة حقها بأيديهم. أمر القاضي الذي هرب إلى مكتبه رجال الشرطة بتفريق الطلاب وضربهم بالرصاص إذا لزم الأمر. لم يتراجع الطلاب الثائرون بوجه سياط الشرطة وقنابلها المسيلة للدموع والتعزيزات التي أرسلت في لمح البصر من «قوات الاحتياط المركزي». انضمت طالبات ونساء إلى ساحة المعركة. وزاد عدد سيارات كبار قادة الأجهزة الأمنية الذين اعتبروا الحادثة برمتها فوضى تستهدف دولة الشريعة الإسلامية، ومؤامرة دبّرها العلمانيون بالتواطؤ مع جهات خارجية. يا لسوء الطالع، ويا لحسن حظ الأمير تشارلز. فقد شاءت المصادفة أن تندلع ثورة الطلاب عند مرور موكبه قرب مقر المحكمة. ابتسم ولي عهد بريطانيا، ظناً منه أول الأمر أن المشهد يمثل جانباً من خروج السودانيين لاستقباله مثلما فعلوا مع والدته وجده حين زارا السودان قبل عقود. لكن مشهد الدماء التي تلطخ ثياب الشبان، والسودانيات اللاتي شُجّت جباههن، أثارت شكوكه وفزعه في آن معاً. في رمشة عين، تحوّل الطلاب الوادعون وحوشاً ضارية، تماماً مثل الفوضويين الذين اعترضوا موكب الأمير تشارلز في لندن. تحولت المنطقة المحيطة بالمطار الدولي والقيادة العامة إلى ميدان حرب عصابات مصغّرة. كان كبار قادة الأمن واثقين من أن قواتهم قادرة على السيطرة على الشغب والمشاغبين. لكن همهم الأكبر حماية ضيف السودان الكبير. التوجيهات واضحة جداً في شأن حماية الضيف ومرافقيه. ستوفّر الزيارة غطاء يتيح لنظام الإسلاميين إغراق أجهزته الإعلامية بتصوير الحكومة كأنها «تُرَكَِّعُ» بريطانيا العظمى، وتجبر القوة الاستكبارية على إرسال ولي عهدها إلى عاصمة الصمود «والإسلام السياسي» الزاحف بقوة ليسيطر على العالم من هذه المدينة في قلب أفريقيا. كل رجل أمن وسط ميدان المعركة غير المتكافئة يحمل سلاحاً بيده اليمنى وجهاز الاتصال اللاسلكي بيده اليسرى. كل دقيقة يمر رجل أمن وهو يهذي على الجهاز. - حاضر سعادتك. عُلِم. يمنع الاقتراب من السيارة المقلة للضيف. - نعم سعادتك. اتصل بنا السيد القائد قبل قليل، لكن لم يبلغنا بتعليمات بإطلاق النار... حاضر سعادتك. بارك الله فيك. - أيوه سعادتك. والله أنا بعيد شوية من الاشتباكات. لا. جاءت تعليمات بتوسيع دائرتنا لاعتراض «الطابور الخامس». - نعم سيادتك؟ معك «318». حوّل. بلِّغ التعليمات. تعزيز القيادة. لم تتأكد لنا معلومات عن تحرك انقلابي. شكراً سيادتك. - مرحباً سعادتك. أرسلوا سيارات إسعاف. تمت إبادة الطلاب اللي حاولوا الاقتراب من السيارة. - سيادتك اعملوا حاجة كل مراسلي الفضائيات في الموقع. اتصلوا بناس الإعلام الخارجي قبل اللقطات تطلع في الجزيرة والعربية والبي بي سي. - آلو يا سيادتك. الحمد لله. نحن ممكن نحسم الوضع في نصف ساعة، لكن مرور الموكب قيّدنا تقييد غير عادي. سيادتك حنغيّر طريق الموكب باتجاه عكسي. نحن اللي تهمنا سلامة الضيف. العدد الكبير من القتلى والجرحى مبرر تماماً. «الشيخ» تعليماته واضحة. - أهلاً يا سعادتك. نعم كله تمام. فقط سيارة السفير البريطاني صادفت حجر طائش. الموكب غيّرنا طريقه على طول. الطلبة فتروا ومقاومتهم قلّت كثيراً. تقدر تقول تحت السيطرة. - مرحب سيادة العميد... أنا كلفت ثلاثة عساكر يعملوا إحصائية شاملة بعدد القتلى. سيادتك عدد المصابين يكون عليكم، ممكن تتصلوا بالمستشفيات. بعد نصف ساعة سنبلغكم بالأرقام. - أيوه سيادتك. والله تمام. الموكب وصل القصر هسه. «220» بلغني. لكن سيادتك جماعتنا هناك قالوا إنه حاصلة مشكلة كبيرة. الضيف رفض يقابل الرئيس، والسفير متمسّك بنقله إلى السفارة البريطانية. معليش سيادتك معاي المقدم. سأتصل بك. - وعليكم السلام ورحمة الله. كله تمام سعادتك. طلبنا زيادة ذخيرة من مستودعات القيادة. النقيب محاصر المشاغبين في مقر المحكمة. أعطيته تفويض باقتحام المنشأة بدبابات، وعنده أوامر بإطلاق النار. معليش سعادتك ما اعتقدنا أبداً إنه الأولاد حيتصرفوا بشكل طائش زيادة. كلو مقدور عليه بإذن الله. دعواتك يا سعادتك. حين سمح لنا مالك منزل مجاور بالاحتماء في داره من قنابل الدموع والرصاصات الطائشة والهراوات التي لا تفرّق بين الطلاب والمارة والساعين إلى أرزاقهم، كان الخبر يتصدر نشرات القنوات الفضائية: «لقي أكثر من 30 طالباً مصرعهم على أيدي قوات الأمن السودانية بعد وصول ولي عهد بريطانيا إلى الخرطوم. وقالت مصادر المستشفيات إن أكثر من 300 من الطلاب نقلوا لتلقي العلاج من جروح. واتهمت الحكومة السودانية جهات خارجية وجماعات معارضة بمحاولة تنفيذ مؤامرة استهدفت إلحاق الضرر بالأمن الوطني للبلاد. وقرر ولي عهد بريطانيا إلغاء زيارته للسودان احتجاجاً على إبادة الطلاب في مجزرة تمثل جريمة ضد الإنسانية». وكالعادة كلما جاءت سيرة السودان في الأخبار فإن القنوات الفضائية ختمت خبرها بالكليشيه الخالد: «الجدير بالذكر أن الرئيس السوداني يواجه أمر قبض أصدرته المحكمة الجنائية الدولية بحقه بتهمة الإبادة الجماعية وارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية». * صحافي من أسرة «الحياة» [email protected] دار الحياة