انعقد في الخرطوم يوم الاثنين الماضي اجتماع ثلاثي ضم وزراء الري والموارد المائية في كل من السودان ومصر وإثيوبيا، على أمل حل الخلافات بين مصر وإثيوبيا حول مشروع سد النهضة الإثيوبي بعد أن أعلن السودان موافقته على قيام السد, وما زالت مصر تعترض على المشروع بحسبانه يؤثر سلبا على حقها المكتسب في مياه النيل، ويلحق ضرراً كبيراً بمصالحها، مما يتعارض مع المواثيق والقواعد الدولية التي تحكم العلاقة بين الدول المتشاطئة في نهر واحد، ويتناقض مع اتفاقيتي 1929 و1959 الخاصة بمياه النيل، وكان الأمل معقوداً على إحداث اختراق في اجتماع الخرطوم يجنب دول الحوض الدخول في مرحلة حرب المياه إذا ما تصاعدت خلافاتها، ولكن اجتماع الخرطوم فشل في إحداث ذلك الاختراق. مصر منذ البداية رفضت مشروع السد الإثيوبي بمواصفاته الحالية وبحجمه الكبير وبكمية المياه التي يحتجزها لأنه -فيما ترى- يلحق ضررا بالغا بحقوقها المكتسبة في مياه النيل وفق اتفاقيتي 1929 و1959, بل يتعارض حتى مع الاتفاق الإطاري الذي أعدته مؤخراً دول الحوض واعترضت عليه مصر، لأن ذلك الاتفاق بنصوصه التي لم تقبلها مصر يؤكد حماية دول الأحباس الدنيا للأنهار من مشروعات في الأحباس العليا تلحق بها ضرراً محسوسا، ولكن الموقف المصري اتسم مؤخرا بالمرونة والموافقة على الدخول في مفاوضات للوصول لتسوية عبر الحوار, تضمن مصالح كافة الأطراف. وفي هذا الإطار تم الاتفاق على تشكيل لجنة فنية من عشرة أعضاء، ستة منهم يمثلون إثيوبيا والسودان ومصر وأربعه خبراء دوليين تم الاتفاق عليهم بين الأطراف لدراسة مشروع السد وآثاره على دول الحوض وعلى البيئة، مع مراجعة أسسه الفنية، وقد أكملت هذه اللجنة الدراسة المطلوبة، ورفعت تقريرها إلى الدول الثلاث وضمّنته توصيات محددة، وكان المفترض أن تجري مناقشة هذه التوصيات في اجتماع الخرطوم والاتفاق على لجنة مشتركة تشرف على تنفيذ تلك التوصيات، ولكن الخلاف بين مصر وإثيوبيا حول صلاحيات وتشكيل هذه اللجنة أدى إلى فشل الاجتماع. ورغم أن الاجتماع لم يحرز تقدما في هذه المهمة فإن الأطراف المشاركة أكدت قبولها لتقرير الخبراء وأعلنت إثيوبيا التزامها بتنفيذ توصياته, كما أكدت أطراف التفاوض التزامها بالتعاون المشترك واستمرار التفاوض للوصول إلى وفاق حول هذا المشروع, كما اتفقوا على عقد جولة جديدة من المفاوضات الثلاثية في الخرطوم في الثامن من الشهر المقبل، على أمل أن تنجح الاتصالات الثنائية بين مصر وإثيوبيا خلال الأسابيع القليلة القادمة في تذليل الصعاب التي أدت إلى فشل اجتماع الخرطوم الأول. فهل هناك فرصة لأن يحقق الاجتماع الثاني ما فشل في تحقيقه الاجتماع الأول؟ مصر بعد فتره من رد الفعل الغاضب تجاه مشروع السد عادت واتخذت استراتيجية وفاقية مرنة للتعامل مع هذه القضية عبر مسارين, مسار دبلوماسي سياسي تتولاه وزارة الخارجية المصرية مع وزارة الخارجية الإثيوبية بالتركيز على مناقشة قضية الحقوق المكتسبة لمصر التي لا تستطيع مصر التفريط فيها، والمسار الثاني فني تتولاه وزارات الري والموارد المائية في الدول الثلاث (مصر والسودان وإثيوبيا) لبحث الآثار المترتبة على بناء السد على دولتي المعبر (السودان ومصر) واحتمال إدخال تعديلات تقلل من الخطر المتوقع. وقد نجحت الجهود في الوصول إلى اتفاق بتشكيل لجنة خبراء من الدول الثلاث، إضافة إلى أربعة خبراء عالميين وقد قامت اللجنة بالدراسة، وقدمت تقريرها، وأعلنت إثيوبيا قبولها للتقرير والتزامها بالتوصيات الواردة فيه، وقد أخذت لجنة الخبراء على المشروع عدم اكتمال دراساته البيئية والهيدروليكية، وقد رأت اللجنة أن مشروعا بهذه الضخامة لا يمكن تنفيذه ما لم تكتمل الدراسات التفصيلية الهيدروليكية والاجتماعية والبيئية، وأن الدراسة الموجودة حاليا هي دراسة مبدئية خالية من التفاصيل, ولا تكفي لتحديد كل نتائج وتداعيات السد, كما رأى الخبراء أن الدارسات التي تثبت قدرة القاعدة الصخرية على تحمل سد بهذه الضخامة غير مكتملة، ولا بد من اكتمالها حتى تتوفر ضمانات هندسية لإمكانية تحمل الصخور بما لا يدع مجالا للشك في احتمال انهياره وقد رأت مصر في هذه التوصيات مدخلا لكي تطلب: أولاً: إعادة النظر في سعة هذا السد الذي يبلغ ارتفاعه 145 متراً ويحجز أربعة وسبعين مليار متر مكعب من المياه, بينما كان الارتفاع في النسخة الأولى لسد الألفية في حدود التسعين مترا بسعة تخزين أقل كثيراً وأثره على حصيلة إيراد النيل أقل. ثانيا: يجب الاتفاق بين الدول الثلاث على الإشراف مباشرة على إجراءات تشغيل الخزان بعد تعديله لأن إجراءات التشغيل تؤثر تأثيراً مباشراً على الدول الأخرى، بل إن يحيرة الخزان المقترحة بحجم أربعة وسبعين ملياراً كبيرة جدا، وتسعى إثيوبيا إلى ملئها خلال خمس إلى ست سنوات, مما يعني أن هذا التخزين سيفقد مصر والسودان أكثر من 12 مليارا سنويا طوال فترة ملء البحيرة, وهذا سيلحق ضرراً بالغا بكلا البلدين ويخفض واردهما من مياه النيل بصورة كبيرة, وكلا الأمرين يشكل عقبة أمام الاتفاق بين إثيوبيا ومصر. من هذا يتضح أن الشقة بين موقفي مصر وإثيوبيا ما زالت كبيرة, ونشك في إمكانية تجسيرها قبل عقد الاجتماع القادم في الثامن من ديسمبر, ولذلك فإن الأزمة قد تكون مرشحة للتصاعد, ما يعني استمرار الصراع حول المياه بكل ما يفرزه من تداعيات, ومصر بحاجة لكل متر من المياه الآن, بدليل أنها ظلت تستهلك حصتها في اتفاقية 1959. وإضافة لها تستغل منحة مائية من السودان سيوقفها السودان الآن بعد تعلية خزان الروصيرص, ولذلك فهي تعتبر أن أي انخفاض في كمية المياه الواردة يمثل مسألة حياة أو موت بالنسبة لها, فهل تنجح الجهود في التوصل لحل وفاقي أم أن الأمر سيتصاعد إلى مرحلة حرب المياه؟ العرب [email protected]