دولة جنوب السودان الحلقة الأولى في سلسلة إعادة الفك والتركيب لإنتاج ما يسمى الشرق الأوسط الجديد - طبقاً لوجهة نظر أميركية - والذي يتمثل جوهر مفهومه في التخلص من الحدود الحالية لدوله، وإعادة تقسيم تلك الدول على أسس مختلفة، منها ما هو ديني وما هو مذهبي وما هو عرقي وغيرها. والهدف هو التخلص من الكيانات الكبرى في منطقة الشرق الأوسط بتقسيمها إلى دويلات صغيرة، بما يساهم في إضعافها أمام كيانات أخرى مطلوب تعظيم دورها سعياً لتبوؤ الأخيرة مكانة إقليمية تمكنها من قيادة المنطقة، ولقد استند انفصال جنوب السودان عن شماله - مدعوماً وبقوة من الولاياتالمتحدة والقوى الغربية وبعض القوى الإقليمية - إلى اختلاف الديانة بين الشمال العربي المسلم والجنوب الأفريقي المسيحي. وعلى رغم التعدد القبلي في جنوب السودان، إلا أنه في إطار سعيه إلى الانفصال عن الشمال اجتمعت القبائل الجنوبية وتوحد هدفها المتمثل في الانفصال. وما إن تحقق الانفصال الذي لم يكمل بعد عامه الثالث، حتى رأينا تلك الدولة الوليدة تتعرض لأزمة كبرى قد تعصف بكيانها وتبدد حلم الجنوبيين في العيش في وطن آمن. ويتلخص جوهر الأزمة في الصراع على السلطة بين رئيس الدولة سلفاكير ميارديت ونائبه السابق رياك مشار. وعلى رغم اتفاق الطرفين على وقف الأعمال القتالية، إلا أن الاتفاق واجه خروقاً من الطرفين، بعدما أودت المواجهات بحياة 10 آلاف شخص، وشردت حوالى 860 ألفاً آخرين، واحتاج حوالى 3.7 مليون شخص مواد غذائية، وطبقاً لتقديرات الأممالمتحدة فإنه للتعامل مع الأزمة يلزم توفير 1.3 بليون دولار. وجاءت التفاعلات الإقليمية والدولية معبِّرة عن أهداف أصحابها ودوافعهم، فعلى الصعيد الإقليمي يبرز الدور الإثيوبي الذي يعزز يوماً بعد يوم من محورية تلك الدولة وتأثيرها القوي في دول مجالها الحيوي، ويبرز الرغبة الإثيوبية في تبوؤ مكانة إقليمية لا يدانيها فيها أحد، حيث كانت إثيوبيا من أوائل الدول التي اهتمت بالأزمة، فزار وزير خارجيتها جنوب السودان، غير مرة، كما زارها رئيس الوزراء الإثيوبي. وإثيوبيا أيضاً هي حاضنة مفاوضات سبل التوصل إلى حلول سياسية للأزمة بين وفدي طرفيها. أما أوغندا، فإن حضورها في الأزمة يعد أكثر قوة مع مشاركة قواتها إلى جانب الرئيس سلفاكير، ويرتبط الحضور الأوغندي القوي في الأزمة برغبتها في الحفاظ على مصالحها مع جنوب السودان، حيث يعد استقرار الأخيرة الضمانة الرئيسة للحفاظ على تلك المصالح والتي تتمثل في صادرات أوغندية لجنوب السودان بلغت حوالى 1.3 بليون دولار عام 2012، فضلاً عن عمل الكثير من الأوغنديين بالتجارة عبر الحدود مع جارتهم الشمالية. أما السودان فقد أبدى دعماً لسلفاكير ضد مشار، بغرض الحفاظ على تدفق نفط الجنوب عبر أراضيه والذي يمثل أحد المصادر الرئيسة للدخل السوداني، وكذا لمواجهة الاضطرابات الداخلية الناجمة عن تدهور الحال الاقتصادية، فضلاً عن رغبة البشير في إضعاف الحركة الشعبية - قطاع الشمال المناوئة لحكمه بتجفيف منابع الدعم الذي تحصل عليه الأخيرة من دولة الجنوب من خلال تقاربه مع سلفاكير الذي يرى أن استقرار الجنوب مرهون بالتوافق مع السودان، عكس مشار الذي يرى ضرورة استمرار التحالف مع الحركة الشعبية - قطاع الشمال. وبالنظر إلى التفاعلات الإقليمية مع الأزمة نجد غياباً مصرياً عن المشهد الذي تتصدره كل من إثيوبيا وأوغندا بتوجيههما المناهض للمصالح المصرية في قضية مياه النيل، ومن ثم فإن دورهما تجاه الأزمة يعزز استقطاب جنوب السودان تجاههما، بالتالي فإن أي تسوية مستقبلية لأزمة مياه النيل لن تتم بمعزل عن مصلحة الدولتين ارتباطاً بحصولهما على دعم باقي دول الحوض ومنها جنوب السودان. أما على الصعيد الدولي فيبدو الموقف الأميركي من الأزمة محيراً، حيث كانت الولاياتالمتحدة الداعم الرئيس لانفصال دولة الجنوب، وكذا فهي أكبر جهة مانحة لها منذ انفصالها عام 2011. وفي الأزمة الحالية نجد تغيراً في السياسة الأميركية تجاه جنوب السودان بدعم عناصر التمرد، إذ أحجمت واشنطن عن وصف الحدث الرئيس المسبب الأزمة باعتباره انقلاباً عسكرياً (وفقاً لإعلان سلفاكير)، كما طالبت بالإفراج عن المعتقلين السياسيين - من خلال مجلس الأمن والذي تؤثر فيه واشنطن بقوة - تأييداً لطلب رياك مشار الذي التقاه مبعوث واشنطن في جنوب السودان. ويمكن تفسير الموقف في ضوء رغبة واشنطن في إبقاء دولة الجنوب شوكة في ظهر جارتها الشمالية، ومعادلة الوجود الصيني في جوبا واستئثارها بالنصيب الأكبر من نفط تلك الدولة، وذلك بدخول شركات أميركية بعقود غالباً ما تكون ظالمة للدول المنكوبة بالحروب كما حدث في العراق. غير أن مسؤولية واشنطن تجاه دولة جنوب السودان ورغبتها في نجاح عملية الانفصال عن الشمال، سيجعل أميركا تقف حائلاً ضد انزلاق دولة الجنوب نحو الهاوية، حيث يأتي موقفها الحالي من الأزمة في إطار ممارسة الضغوط على النظام الحاكم لتحقيق المصالح الأميركية، بالتالي ستتدخل واشنطن بقوة لإنهاء الأزمة - في حال استمرار النزاع - في مرحلة تالية بعد تحقيق مصالحها. الحياة