منع قناة تلفزيونية شهيرة في السودان    وزارة الصحة تلتقي الشركة المصرية السودانية لترتيب مشروعات صحية مشتركة    ماذا قال ياسر العطا لجنود المدرعات ومتحركات العمليات؟! شاهد الفيديو    تم مراجعة حسابات (398) وحدة حكومية، و (18) بنكاً.. رئيس مجلس السيادة يلتقي المراجع العام    انطلاق مناورات التمرين البحري المختلط «الموج الأحمر 8» في قاعدة الملك فيصل البحرية بالأسطول الغربي    شاهد بالصور.. ما هي حقيقة ظهور المذيعة تسابيح خاطر في أحضان إعلامي الدعم السريع "ود ملاح".. تعرف على القصة كاملة!!    تقارير صادمة عن أوضاع المدنيين المحتجزين داخل الفاشر بعد سيطرة الدعم السريع    لقاء بين البرهان والمراجع العام والكشف عن مراجعة 18 بنكا    السودان الافتراضي ... كلنا بيادق .. وعبد الوهاب وردي    د.ابراهيم الصديق على يكتب:اللقاء: انتقالات جديدة..    لجنة المسابقات بارقو توقف 5 لاعبين من التضامن وتحسم مباراة الدوم والأمل    المريخ (B) يواجه الإخلاص في أولي مبارياته بالدوري المحلي بمدينة بربر    الهلال لم يحقق فوزًا على الأندية الجزائرية على أرضه منذ عام 1982….    شاهد بالصورة والفيديو.. ضابطة الدعم السريع "شيراز" تعبر عن إنبهارها بمقابلة المذيعة تسابيح خاطر بالفاشر وتخاطبها (منورة بلدنا) والأخيرة ترد عليها: (بلدنا نحنا ذاتنا معاكم)    شاهد بالصور.. المذيعة المغضوب عليها داخل مواقع التواصل السودانية "تسابيح خاطر" تصل الفاشر    جمهور مواقع التواصل بالسودان يسخر من المذيعة تسابيح خاطر بعد زيارتها للفاشر ويلقبها بأنجلينا جولي المليشيا.. تعرف على أشهر التعليقات الساخرة    المالية توقع عقد خدمة إيصالي مع مصرف التنمية الصناعية    أردوغان: لا يمكننا الاكتفاء بمتابعة ما يجري في السودان    وزير الطاقة يتفقد المستودعات الاستراتيجية الجديدة بشركة النيل للبترول    أردوغان يفجرّها داوية بشأن السودان    وزير سوداني يكشف عن مؤشر خطير    شاهد بالصورة والفيديو.. "البرهان" يظهر متأثراً ويحبس دموعه لحظة مواساته سيدة بأحد معسكرات النازحين بالشمالية والجمهور: (لقطة تجسّد هيبة القائد وحنوّ الأب، وصلابة الجندي ودمعة الوطن التي تأبى السقوط)    إحباط محاولة تهريب عدد 200 قطعة سلاح في مدينة عطبرة    السعودية : ضبط أكثر من 21 ألف مخالف خلال أسبوع.. و26 متهماً في جرائم التستر والإيواء    الترتيب الجديد لأفضل 10 هدافين للدوري السعودي    «حافظ القرآن كله وعايشين ببركته».. كيف تحدث محمد رمضان عن والده قبل رحيله؟    محمد رمضان يودع والده لمثواه الأخير وسط أجواء من الحزن والانكسار    وفي بدايات توافد المتظاهرين، هتف ثلاثة قحاتة ضد المظاهرة وتبنوا خطابات "لا للحرب"    أول جائزة سلام من الفيفا.. من المرشح الأوفر حظا؟    مركزي السودان يصدر ورقة نقدية جديدة    برشلونة ينجو من فخ كلوب بروج.. والسيتي يقسو على دورتموند    "واتساب" يطلق تطبيقه المنتظر لساعات "أبل"    بنك السودان .. فك حظر تصدير الذهب    بقرار من رئيس الوزراء: السودان يؤسس ثلاث هيئات وطنية للتحول الرقمي والأمن السيبراني وحوكمة البيانات    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    غبَاء (الذكاء الاصطناعي)    مخبأة في باطن الأرض..حادثة غريبة في الخرطوم    رونالدو يفاجئ جمهوره: سأعتزل كرة القدم "قريبا"    صفعة البرهان    حرب الأكاذيب في الفاشر: حين فضح التحقيق أكاذيب الكيزان    دائرة مرور ولاية الخرطوم تدشن برنامج الدفع الإلكتروني للمعاملات المرورية بمركز ترخيص شهداء معركة الكرامة    السودان.. افتتاح غرفة النجدة بشرطة ولاية الخرطوم    5 مليارات دولار.. فساد في صادر الذهب    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    الحُزن الذي يَشبه (أعِد) في الإملاء    السجن 15 عام لمستنفر مع التمرد بالكلاكلة    عملية دقيقة تقود السلطات في السودان للقبض على متّهمة خطيرة    وزير الصحة يوجه بتفعيل غرفة طوارئ دارفور بصورة عاجلة    الجنيه السوداني يتعثر مع تضرر صادرات الذهب بفعل حظر طيران الإمارات    تركيا.. اكتشاف خبز عمره 1300 عام منقوش عليه صورة يسوع وهو يزرع الحبوب    (مبروك النجاح لرونق كريمة الاعلامي الراحل دأود)    المباحث الجنائية المركزية بولاية نهر النيل تنهي مغامرات شبكة إجرامية متخصصة في تزوير الأختام والمستندات الرسمية    حسين خوجلي يكتب: التنقيب عن المدهشات في أزمنة الرتابة    دراسة تربط مياه العبوات البلاستيكية بزيادة خطر السرطان    والي البحر الأحمر ووزير الصحة يتفقدان مستشفى إيلا لعلاج أمراض القلب والقسطرة    شكوك حول استخدام مواد كيميائية في هجوم بمسيّرات على مناطق مدنية بالفاشر    السجائر الإلكترونية قد تزيد خطر الإصابة بالسكري    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في حب وردي
نشر في الراكوبة يوم 04 - 03 - 2014


الصَّوتُ والصَّدَى:
من أقصى أطراف بلادنا إلى طرفها الآخر؛ وسط سهولها وجبالها وأنهارها وغاباتها، يصادفك هذا الصوت العذب، الفريد العميق، الغامض كالماس. إنك تتعرف عليه بسرعة، وبحاسة ذوقٍ ذات حساسيةٍ عالية، فهو يدخل إلى أعماق النفس، نفسكَ أنت بالذات، ويدخل إلى سويداء الفؤاد، كالشهوة والنزوة والرعشة!.
إنه يدخل فيك ليمتِلكك! في أحدى المناسبات الغنائية قال الفنان الأندلسي العظيم (مانويل توريز) لأحد المغنين: (إنك تمتلك الصوت، وتمتلك الأسلوب، ولكنك لن تنجح أبداً لأنك لم تمتلك "الدويندي") ويعني بالدويندي روح الغناء الذي يسري في الأغنية كالعافية! وقد امتلك وردي ذلك الصوت والأسلوب والدويندي معاً؛ في عروقه تجري دماء الثقافة ونضارتها وحيويتها ودفئها. إن في موهبته أصوات متعدّدة برَّاقة، سحرية وغامضة، فيها حساسية الروح وشفافيتها ورشاقتها؛ إنه السرُّ الذي يسكن ويلتحم في أصواته جميعها، إن في صوته كما قال جوته: (قوةٌ غامضةٌ يحسها كل فردٍ لكن لم يشرحها أيّ فيلسوف)! إن تلك القوة الملازمة للفنان هي سلوك، نضالٌ مستمرٌّ دافق، وليست هي، على أية حال، مفهوماً محدداً؛ إنه شكلٌ حقيقيٌّ في الحياة، في الدم والثقافة والفعل الخلاَّق. لهذا تراه، عندما يبدأ يغني، يحتشد بالحياة وعنفوانها وحيويتها، تعتمل في فورانٍ كالدوامة في داخله، وتطلع من خلال حنجرته تلك الأصوات العجائبية الفذة. لا، لا، تلك القوة الموحية العميقة ليست في الحنجرة، لكنها تطلع من خلالها؛ من خلالها وعبرها. نعم، هي قوى غامضة لا شك في ذلك أبداً، لكنها تنتمى للأرض والتربة والماء. ولهذا كله، فإنني أرى أنه من هنا، بالضبط، تكمن تلك الصلة العميقة التي تشتدُّ وتمتدُّ بين الفنان والأرض والوطن؛ علاقة تبادلية، ولكن على مستوى روحي عميق. إن بعضاً من جذور حياته ومعاشه اليومي مرتبطٌ بأوثق رباط بهذه القوى الروحية الغامضة في داخله!.
خاضَ وردي نضاله اليوميّ طوال مسيرته الفنية مع هذه القوة العميقة، متخطياً بها إشكاليات عديدة، مُعقدة وشديدة التنوع: مع الشعر والموسيقى والصور والألوان والألحان، وأخذ يخطو بها في رحلة الإبداع، في ائتلافها وسورة حركتها القلقة باتجاه ذروة اكتمالها في الغناء؛ فيدلقه، كالخمر، أو الماء الدافئ على أجسادنا بكليَّاتها، فتدخل تلك الأصوات إلى مسام الجسد، وإلى داخل الشرايين والأوردة، فتبلغ منا أطراف الجسد كلها؛ عضواً فعضواً، وتبلغ القلب لتبقى في داخله وتحتلُّ لها مكاناً مرموقاً في الذاكرة والمخيلة، مُضيفةً على الجسد كله، أيضاً، تلك الألوان المتداخلة المُشَجَّرة، الملونة البديعة، لتحفّها ببريق الروح ومذاقها الحلو.
مرةً كنت أشاهد حفلاً جميلاً في أم درمان. وعندما بدأ وردي يغني مستخدماً كل جسده، أقول كلَّ جسده، وأنا أعني، كل عضلة فيه وكل قطرة دم فيه. كان يُغني (الحنينة السُكَّرة)، تلك الأغنية الخفيفة القديمة، ولكنه غناها تلك الليلة بتوزيعٍ موسيقيٍّ جديد، وبأداء جديد فريد، فإذا الجميع قد تملكتهم تلك القوة الغامضة التي تسري كالرعشة في الأجساد فتوقظها، فتصحو، وتفجِّرُ فيها حيويةً وطاقةً وعنفواناً لاذعاً ملتهباً. كانت فتاة نضرةً كالشروق، بدأت ترقص بإيقاع ذو روحٍ ومعنى؛ ترقص وتُقَطِّعْ بأصابعها المجرّدة بعضاً من خصلات شعرها الليليّ الطويل؛ تقطعه اقتلاعاً من الجذور. ورأيت أيضاً، شبان كثيرون بدأوا يدقون الأرض بأقدامهم في إيقاعات متواترة، نافرة، متوثبة، يلمسون الأرض بأجسادهم ويفارقونها في ذات الوقت، ويغوصون في الهواء البارد لتلك الليلة الشتائية. كانت قد تملكتهم تلك الروح العجيبة التي تطلع من دواخل الفنان، حتى أصبحت تلك الجماعات كلها كتلة بشرية واحدة تتحرك بعنفوانٍ وانفعال عاطفيّ قد مَلك عليهم أجسادهم وعقولهم!.
كانت النار والرياح والبرق والغيم والمطر جميعها حاضرةً تسري في الناس كالألق والضوء والهواء، وقد تلبستهم روح الفنان وغناؤه، وقد ارتدوا صوت الفنان وروحه معاً! ما رأيت قط، من بعد، فناناً له مثل هذا السحر الطاغي على المستمعين؛ إنها الطاقة الحيوية الدافقة للغناء الخصب الذي يمتلكه هذا الموهوب الفذ!.
إن وردي هذا صنف فريد في خارطة الغناء، نسيج وحده، مجبول على فن الغناء بروح عميقة الإبداع؛ خالقٌ حقيقيٌّ للنغم واللحن والفن الجميل! تطلع منه الموسيقى وهي في ذروة اكتمالها، في أنقى جواهرها، ولكنه أيضاً، يجعل منها موسيقى تفقد الخواص العادية للموسيقى؛ أرديتها وفساتينها ومساحيقها، ينزع عنها رتابتها ومهاراتها الحِرَفِيَّة المعهودة بين الناس، يُفكِّك عنها إذارها كله، ويطرحها عاريةً، كما الحقيقة، أمام الملأ. تلتحم بتلك الأرواح البشرية من حوله، فتدخل فيها كالدم الملتهب. ويقف هو، وحيداً في مواجهة تلك الجموع، وحيداً، إلا من هذا السحر الغامض الذي يطلع من خلال تكوينات جسده كلها: من الأيدي والأرجل والأصابع والخصر والصدر والصُلب؛ من خلال عيناه وفمه وحنجرته وأذنيه وأنفه!! كنت أستطيع أن أرى، بوضوح، رئتاه تمتلئان بالهواء حتى ينتفخ صدره وتتضح عضلات عنقه ويقف شعر رأسه متماسكاً كأشواك القنافذ، وتندلق الأصوات المتعددة كرذاذ الدم وسط الموسيقى الدافئة، وهي تلتحم في عناقٍ متداخل مع الكلمات والأضواء والظلام وأنفاس الناس. أبداً ما رأيت غناءً مثل هذا!.
منذ بدء مسيرته الفنية، واستناداً إلى موهبته الضخمة، وعبقريته الفنية الفذة؛ رَفَضَ أن يُقيم هياكله الفنية على أبنيةً قديمة، ما قَنِعَ قط، أن يعتمد على موروث الغناء كي يقلده في أغانيه! وبدأ يشرع في خلق الجديد؛ يسعى إليه بكل أدوات الخلق وإمكانيات الولادة، وعبر مخاضاتٍ عسيرةٍ ودروبٍ عميقةِ الشروخ مليئةً بجهد الدموع وتعب الذاكرة؛ كان يقتصُّ من ذاته نفسها، ومن أطرافها الأكثر حيوية وحياة، أدوات وأزاميل وأوتار ذوات شجى ودفء، ليجعلها كالمهد لأغانيه وموسيقاه، لهذا خرجت أغانيه وهي تعطي الناس، كل الناس بلا استثناء إحساساً بالطزاجة غير معهودٍ تماماً، له خاصية وردةٍ حديثة الخلق، خاصية معجزة. وينتج في النهاية فناً رائعاً وحماساً طاغياً للفن الجميل!.
عندما يبدأ في الغناء وتندلق الموسيقى الباهرة في وجدان المستمعين؛ وفيهم الرجال والنساء، والشيوخ، الفتيات والصبايا الجميلات، والكهول أيضاً؛ يرددون بوَلَهٍ حقيقيّ (الله الله ياوردي) (عظيم، عظيم، عظيم) و (الله يخليك ياوردي) و(عشت يارائع). كلمات، ولكنها أنَّاتُ وَلَهٍ وتَوَجُّد، تصدر من القلوب، يقولونها بانجذابٍ روحيٍّ عميقٍ ما شَهِدت مثله إلا في حلقات الاستماع لتلاوة القرآن الكريم بأصواتٍ عظيمةٍ لعبد الصمد أو الحُصري أو صديق أحمد حمدون. لحظات فيها من الروح أكثر مما فيها من الواقع، يكاد المستمع أن يُفارق فيها دنيا الناس الأرضيه هذه، ليصعد إلى ذرى سامقات في الكون الفسيح. أهو الوجد الصوفيّ إذن؟ على التأكيد أن فيه بعضاً من ذلك، وكثيراً من حقائق الروح، ولكنه أيضاً مغروساً بجذوره الحية، كاملة العافية، في تربة الواقع الراهن. إن مادته الإبداعية غنية، خصبة وموحية، جزء نادر من إبداع العالم وحيويته وتوهجه. إن تلك المواد، المقذوفة كالشظايا النارية، في وجدان الآخرين لحظة أداء الأغنية أمام الجمهور، تستدعي حضوراً بهياً تكاد تلمسه وتبصره أمامك لهذا الفن المتجسد كاللوحة شديدة البهاء أمام ناظريك! هي رؤية الفنان وإبداعه يطلع هكذا، كأعمدة الضياء، تقف كلٌّ منها وتنغرس كالدبابيس الحادة في وجدان الناس. وهو أيضاً تواصلٌ وحضورٌ متبادلٌ يجعل من الفن رديفاً للحياة، ولكن في جانبها المضيء الملتهب ذو العنفوان والصخب والإيقاع المستمر الذي يمسك بالكلمات من أعناقها الخُضر، فيُدخلها في عمق الصوت، ليلتحم بدفءٍ وعافية، في قلب الأغنية ذاتها!.
ظلَّ شعبنا، لما يقارب نصف القرن، ينجذب لغناء هذا الفنان وموسيقاه. وطوال هذه السنين الطوال، ومع مطلع كل صباحٍ جديد، ولدى كل أغنيةٍ جديدة يؤديها، فإنه يحيا، ويصحو، وتنبعثُ فيه تلك الروح العميقة الغامضة، فيبدأ هديل وجدانه يتواتر في صخب الحياة، وتمتلئ الشرايين بدماء الخلق الجديد والروح الجديدة للعمل الفني. إن ذائقة السمع لدى بنات وأبناء بلادنا، ظلت طوال مسيرة الفنان ترتبط برباطٍ وثيق، لكنه سريّ وغامض، كالملح والرمل وشذى العطر، إلى تلك الأغاني بالذات!.
إن ارتباط أغانيه وأناشيده بالتربة والخصب وتراث الشعب ووجدانه الفني لا جدال فيها؛ فعندما يُغني مثلاً نشيد (وَطَنَّا)، ويبلغ قمة أداء الأغنية، ثم يأتي لمقطع قصيدة محجوب شريف الرائعة:
(وَطَنَّا البِإِسمَك كَتَبْنَا وْ رَطَّنا،
أَحِبَّك، مكَانَك صميمَ الفؤاد،
وفي حضرة جلالك يَطِيْب الجُلُوس،
مهذَّب أمامك يكون الكلام).
يجلس متربِّعاً فوق تربة المكان أو فوق الخشبة، وقد شاهدته مرات عديدة وهو يُقبِّل تراب وطنه؛ ما فعلها من قبله أحد، هكذا أمام الجميع، وفي ظنِّي أن ولعه الأسطورى بالحرية، وطلبه المستمر الذي لا يفتر للديمقراطية لأبناء وطنه، وسر كراهيته العميقة للديكتاتورية، يصدران من بؤرة هذا الرباط الوثيق جداً، بين روح الفنان وموهبته العظيمة وتراب وطنه.
قلت مرةً لأحد الأصدقاء: أن في دم الفنان بعضاً كثيراً من التراكيب الكيميائية للتراب السوداني! نظر إليّ هذا الصديق وقال لي: (إن في قولك هذا بعضاً من الحقيقة). وقطعاً ليست صدفة، أن يختار وردي قصيدة علي عبد القيوم ويلحنها ويؤديها لحظة انتصار الشعب ونهوض الوطن:
(أيُّ المشانق لم نزلزل بالثبات وقارها!
أيُّ الأناشيد السماويات لم نشدد لأعراس الجديد
بشاشةً أوتارها).
وقد أصبحت منذ سنوات عديدة أنشودة الشعب السودانى قاطبة؛ رمزاً لسيادته وحريته واستقلاله! ولا زلت أذكر: أن المظاهرات السياسية لمعظم الأحزاب والنقابات والاتحادات الطلابية وندواتها السياسية والفكرية، كان هذا النشيد يصدح كما الطبول الأفريقية وتمتلئ به الأجساد السودانية السمراء في تجمعاتها تلك بحبٍّ ووَلَهٍ يتداخل ويتشابك مع روح الشعب ووجدانه. إنه يُوقظ روح الشعب الوثَّابة، يُضفي عليها أثواب العافية كلها، ويكسوها بالجلال ليضعها من بعد أمام مصائرها. صيرورةً متناميةً في دراما الحياة وحيويتها وخصوبتها!.
فنان حقيقي بقامة هذا الزمان، إنه ملاكٌ من الرخام والنغم والشذى والسحر، يمتلك مقدرات فنية متفجرة ومتطورة، تسري فيه كنيران البراكين مُلتهبة ومضيئة ومتوقدة. حركتة الفنية تمتد على ساحات رملية مُذَهَّبة، ومهد من الرؤى والمخيلة الجميلة المدهشة، سجادة من الفن مرصعة بالألوان جميعها في تداخلها واختلاطها البديع.
موسيقارٌ هو ولكن بقامة قديس. وملحنٌ خالقٌ للَّحن بمقدرات غير عادية وغير مألوفة. يقرأ الشعر العظيم ويتعامل مع مفرداته اللغوية وصوره وتراكيبه كأعظم النقاد، ويكتب الشعر بالنوبية والعربية التي يتقنها بشكل مُدهش. إنه، وبأغانيه، يرفع أغصان الحب والحرية فوق سماء وطنه، ويقضي في ذات الوقت، وبقوة الغناء الوردي، على البؤس والشقاء البشري لأبناء وطنه وبناته!.
القصيدة تكون عادةً شعراً جميلاً فقط، ولكن عندما يغنيها فإنه يُدخِلُ فيها نَفَسَاً من السحر والوجد والعنفوان؛ إنه يُعَمِّدها بماء الحياة الوردي ليجعلها قصائد محبوبة بشكلٍ روحيٍّ عميق. إن صراعه عبر مسيرة حياته لأجل إحراز هذا الانتصار وإيصال أغانيه للذرى العالية استدعت منه أحياناً أن يأخذ شكل المقاتل العنيد، الصلب الجوهر، والواقف على شفير الجرح والنزيف؛ يلامس الموت ويحيا لدحره والقضاء على رؤياه الداكنة المظلمة في الحياة. إن أغانيه وأناشيده وموسيقاه تُوحِّد الحواس الخمس للإنسان مع جوهر الإبداع فيها، ويخلق منها أجساداً حية، عفية، نابضة بالدم والشوق، وتختزن في دواخلها طاقةً عظيمة للحب لا تنفد، ولكنها لا تنفكُّ خارج إطار الزمن؛ إنها تطلع في الحياة لكي تضيء وتحيا وتكون!.
والأغاني كما الناس تشيخ وتهرم وتذوى وتموت! وفي ساحة الغناء توجد أغانٍ لا حصر لها ميتة، أو هي تعيش دورات احتضارها المحتوم! ولكن وحدها أغانيه لها خاصية الحياة، تستعصى على النسيان وتبقى في وجدان الأمة وذاكرتها الجماعية؛ تلامس حافات الوجود كالضوء يعيش الحياة في أشد اللحظات التاريخية إظلاماً وكآبة، وحزناً! إنها إذ تبقى ضوءاً فهي أيضاً تَهِبُ الحب والفرح وإرادة الحياة نفسها للإنسان السوداني.
كم من الأغاني أعطاها تلك الطاقة الروحية العظيمة: ألبسها أردية الحلم، وأكسبها الرؤية المضيئة بالمستقبل، خلع علها مقدرات الدم الحار العفى وإرهاصات العافية والنمو، جعل منها عرائس ملونة تمتلئ بالخصب الولود وبالوعد والبشارة، جعل منها ألف ألف وجه للحب والشوق العظيم للعشق والحياة والنبالة.
أبداً ما جَرَحَ أيَّاً من تلك الكلمات التى غناها بلحنٍ نشاز، أو تَوتَّرٍ في علاقاتها اللغوية أو اتساقها النغمى؛ ما جعل قط لأيٍّ منها تنافراً مع مهدها الموسيقي وألحانها التي وضعها لها!. وردي خالق نغمٍ ومبتدع رؤيا وطاقة حلمٍ في تلازم الكلمات، ولدى اختياره لها، يضع لها شوقاً وحباً وشذى؛ يكسوها بقيم الفنّ العظيم فتخرج للناس وكأنها قد وُلِدَت من جديدٍ على يديه وعبر رؤياه ومخيّلته المبدعة!.
الكثير من شعراء بلادنا تمنوا لو يغني وردي قصائدهم! وإني أعرف بعضهم ظلَّ ينتظر عمره الشعري كله لكي يشهد ميلاداً حقيقياً لأحدى قصائده، من هذا الرحم الخصب للفن العظيم!، ولم يظفر بتلك الأمنية العزيزة، العميقة المعنى والدلالة، رغم قربه الشخصي من الفنان الموهوب! فقد كانت الكلمات والكتابات المبدعة تمسُّ أوتاراً مشدودةً في دواخله، وتبدأ ضجيجها وصخبها في أعماق الفنان، فيظل يعاني آلام الخلق وعذاباتها المحرقة حتى يخرجها من دواخله طفلاً للحياة يولد بين الناس ويعيش الحياة:
(نحن إتنِين بنتقَاسَم هُمُوم الناس،
عَشَان الناس بَعِزَّك يا أعزَّ الناس).
إنه يُلامس المشهد الثقافي للشعب على اتساعه وتنوعه وامتداداته، ولكنه يُعايشه بوَلَعٍ عميق، ويصادق الحساسية الفنية العظيمة لشعبه؛ يكتشف فيها الغضب النبيل والشجن العميق؛ لواعج الحزن ومكامنه المحرقة ذات اللهيب، يخلق من تلك القيم جميعها حساسية جديدة ولكن من خلال دراما الأغاني والأناشيد، يجعل منها أشكالاً حية. ويقضي على تلك الخطوات المُهينة للهروب من الحياة ومن الصراع، من الواقع المعاش الذي يعيشه لحظةً بلحظة، مع أمته ووطنه، في أشكاله اليومية العادية وغير العادية!.
لقد أدخل وردي في تراثنا الغنائي ووجدان أمتنا أضواءً جديدة: أعطى دهشةً جديدةً ومعانٍ للحب مبتكرة. مرةً قال لي أحد مواطني البسطاء وكنا نستمع لأحدى أغنياته: (إن وردي أعطانا خبزاً دافئاً، أكثر من أية حكومة وطنية)! وفهمت! فقد كان يعني خبز الحياة الطازج الدافئ كدماء العافية في البدن العفي. أعطى لوطنه سماءً جديدة ورياحاً وأرضاً خضراء؛ أعطى الوطن خريطةً جديدةً ملونةً وبديعةً للحب والعشق؛ أعطى أبناء وبنات السودان، وهم في سني أعمارهم الغضة كالورود الحية، رحيق الحب وتوهجه ولمعانه ومعناه النبيل! أعطى الفتيان مناديلاً ملونة، والفتيات ضفائرهنَّ وعطورهنَّ الفواحة ذات العبوق!.
إن الصوت الفذّ أعطى صداه كاملاً، أعطى نبرات وأصوات وموسيقى جديدة، أعطى لشعبه كلّه عناوين جديدة للحب والشوق والعشق النبيل، وأعطى للإنسان في وطنه دماء العافية وإرادة الحياة؛ وهبنا جميعاً معمدانية النار والحب التي يتقدَّسُ خلالها الغناء والعشق السوداني في أطوار حياته المجيدة.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.