شاهد بالفيديو.. تاجر خشب سوداني يرمي أموال "طائلة" من النقطة على الفنانة مرورة الدولية وهو "متربع" على "كرسي" جوار المسرح وساخرون: (دا الكلام الجاب لينا الحرب والضرب وبيوت تنخرب)    شاهد.. ظهور مقطع نادر لنجم السوشيال ميديا الراحل جوان الخطيب وهو يمدح الرسول صلى الله عليه وسلم بصوت جميل وطروب    برشلونة يسابق الزمن لحسم خليفة تشافي    بالفيديو.. شاهد رد سوداني يعمل "راعي" في السعودية على أهل قريته عندما أرسلوا له يطلبون منه شراء حافلة "روزا" لهم    البرازيل تستضيف مونديال السيدات 2027    السودان.."عثمان عطا" يكشف خطوات لقواته تّجاه 3 مواقع    أنا وعادل إمام    القمة العربية تصدر بيانها الختامي.. والأمم المتحدة ترد سريعا "السودان"    مدير الإدارة العامة للمرور يشيد بنافذتي المتمة والقضارف لضبطهما إجراءات ترخيص عدد (2) مركبة مسروقة    إسبانيا ترفض رسو سفينة تحمل أسلحة إلى إسرائيل    كواسي أبياه يراهن على الشباب ويكسب الجولة..الجهاز الفني يجهز الدوليين لمباراة الأحد    ناقشا تأهيل الملاعب وبرامج التطوير والمساعدات الإنسانية ودعم المنتخبات…وفد السودان ببانكوك برئاسة جعفر يلتقي رئيس المؤسسة الدولية    منتخبنا فاقد للصلاحية؟؟    إدارة مرور ولاية نهر النيل تنظم حركة سير المركبات بمحلية عطبرة    اللاعبين الأعلى دخلًا بالعالم.. من جاء في القائمة؟    جبريل : مرحباً بأموال الإستثمار الاجنبي في قطاع الصناعة بالسودان    قيادي سابق ببنك السودان يطالب بصندوق تعويضي لمنهوبات المصارف    الخارجية تنفي تصريحا بعدم منحها تأشيرة للمبعوث    شاهد بالصورة.. (سالي عثمان) قصة إعلامية ومذيعة سودانية حسناء أهلها من (مروي الباسا) وولدت في الجزيرة ودرست بمصر    آفاق الهجوم الروسي الجديد    كيف يتم تهريب محاصيل الجزيرة من تمبول إلي أسواق محلية حلفا الجديدة ؟!    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    يوفنتوس يتوج بكأس إيطاليا للمرة ال15 في تاريخه على حساب أتالانتا    مانشستر يونايتد يهزم نيوكاسل ليعزز آماله في التأهل لبطولة أوروبية    عثمان ميرغني يكتب: السودان… العودة المنتظرة    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    واشنطن تعلن فرض عقوبات على قائدين بالدعم السريع.. من هما؟    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    وسط توترات بشأن رفح.. مسؤول أميركي يعتزم إجراء محادثات بالسعودية وإسرائيل    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    عالم آثار: التاريخ والعلم لم يثبتا أن الله كلم موسى في سيناء    "بسبب تزايد خطف النساء".. دعوى قضائية لإلغاء ترخيص شركتي "أوبر" و"كريم" في مصر    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    الصحة العالمية: نصف مستشفيات السودان خارج الخدمة    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مستشار البشير مصطفى إسماعيل يتحدث عن مستقبل السودان وتداعياته على المنطقة : المجتمع السوداني حتى اليوم مجتمعا بعيدا عن الانصهار في بوتقة تنفي عنه تشرذمات علائقه القبلية والاثنية الأولى
نشر في الراكوبة يوم 25 - 01 - 2011

قدّم مستشار الرئيس السوداني وزير الخارجية السابق د. مصطفى عثمان إسماعيل ورقة أمام اجتماع 'مجلس العلاقات العربية والدولية' الذي بدأ أعماله في العاصمة القطرية الدوحة أمس، تحدث فيها عما يجري في السودان واللحظة التاريخية التي يمرّ بها، في ظل الاستفتاء الذي جرى لتحديد مصير جنوبه، كما شدّد على أهمية 'مجلس العلاقات العربية والدولية' الذي اعتبر أنه بالإمكان أن 'يتفرع من الرؤى والقراءات والأنشطة ما يطفئ ظمأً غلاباً للحكمة بقي يسيطر على مدارات الحكم والسياسة في بلادنا في هجير عواصف السياسة الدولية وتداعياتها المتسارعة'.وأكد إسماعيل أن 'مجلس العلاقات العربية والدولية قادر على النهوض بتبعاته ليمنح الدبلوماسية العربية والدولية قدرة على النفاذ إلى تجليات الأحداث، ولا سيما أن تكوين هذا المجلس يأتي فريداً بتنوع خبرات مكونيه، إذ كلهم شخصيات من شأنها أن تثري أروقة السياسة بحكمتها ورشدها ورفيع أدوارها'. وفي ما يلي نص كلمة د. إسماعيل:
أولاً: علاقة الشمال بالجنوب: نظرة تاريخية
أستهل هذا العرض بالتفات أراه ضروريا إلى الحقائق التاريخية، التي تشكل بموجبها كيان الدولة القطرية السودانية، إذ ما ننفك كلما قلبنا النظر في تفاصيل هذه الحقائق ندرك انه منذ عام 1821 (السنة التي دخل فيها الأتراك السودان وتوصف بأنها بداية تاريخ السودان الحديث) وحتى يومنا هذا، ظل المجتمع السوداني مجتمعا بعيدا عن الانصهار في بوتقة تنفي عنه تشرذمات علائقه القبلية والاثنية الأولى، وليس جنوب السودان إلا تجليا يبرهن على هذه الحقيقة الماثلة. فهذا الإقليم قد جرى ضمه إلى الشمال السودان، دون اعتبار لعناصر الاختلاف كنتاج لتقاسم النفوذ بين بريطانيا وفرنسا في منطقة البحيرات ليؤول السودان إلى السيادة البريطانية حين استخدمت لندن نفوذها في مصر الخديوي، لتضع يدها على كامل التراب السوداني – بشقيه - عبر ما سُمي بالحكم الثنائي.
ثم إمعانا في المضي على خطة تسوغ إدارة الجنوب تحت مظلة الحكم الثنائي والتعامل معه في ذات الوقت باعتباره كيانا ذا خصوصية، فإن الحكومة البريطانية عمدت عام 1921 إلى إصدار قانون المناطق المقفولة الذي أوقع قطيعة تاريخية بين شمال السودان وجنوبه، حين منع دخول أهل الشمال إلى الجنوب - أو العكس- وبذا توقف المد الطبيعي بين الشطرين حتى عام 1936، إذ لم يكن الجنوب مفتوحا إلا أمام الإرساليات التبشيرية، فما عاد من سبيل للتواصل بين شقي القطر.
ثانياً: حق تقرير المصير
والحق أن تقرير مصير جنوب السودان لم يأت وليدا لاتفاقية نيفاشا 2005 كما يحسب البعض، بل ظل يراوح ضمن ادبيات الحوار الشمالي الجنوبي حتى قبل نيل السودان استقلاله عام 1956. ففي مؤتمر جوبا (1947) الذي دعت الإدارة البريطانية إليه كل قيادات الكيانات السياسية السودانية - شماليها وجنوبيها- ارتفع النداء الجنوبي مطالباً بإعمال حق تقرير المصير. ولما لم يجد النداء آذاناً مصغية راحت القيادات الجنوبية تؤلب على الشمال، بما نتج عنه المذبحة الشهيرة التي راح ضحيتها شماليون كثر في جنوب السودان عام 1955، كما اشرنا.
ثم كان أن تجددت المطالبة بتقرير المصير في مؤتمر 'المائدة المستديرة' الذي انعقد خلال العهد الحزبي (1965)، إذ تعالت أصوات جنوبية شهيرة، مثل ابيل الير واقري جادين، مطالبة به فعصفت المطالبة بأعمال المؤتمر لتظل توصياته تقبع في أضابير الحوار دون أن تنال حظا من ذيوع، وليتسبب ذلك في تدهور العلاقة التي أفضت إلى الانقلاب العسكري الذي قاده العقيد جعفر نميري عام 1969، وجعل من قضية الجنوب اولوية له، ليفلح في التوصل إلى اتفاق سلمي دام عشر سنوات تحت مظلة حكم ذاتي فدرالي موسع، جعل من الجنوب إقليما واحدا يحظى باستقلال محدود في السلطات.
غير انه مع حلول عام 1983 انقلب نميري على هذه الصيغة حين بدا له أنها صيغة غير مناسبة، إذ يمكن أن تؤدي إلى مطالبة الجنوبيين بحق تقرير المصير، فقسم الجنوب إلى ثلاثة اقاليم، ما اشعل ثائرة بعض القيادات الجنوبية التي وجدت في العقيد جون قرنق منفذا للتمرد العسكري الذي استمر منذئذ.
ولم تفلح الأنظمة التي أعقبت عهد نميري في إطفائه (حكومة المشير سوار الذهب، 1985 وحكومات الصادق المهدي الثلاث)، بل تفاقمت وتيرة الأعمال العسكرية الجنوبية وتمددت تحركاتها لتهدد حتى المدن الشمالية المتاخمة للجنوب، في أجواء مضت فيها الروح المعنوية للقوات المسلحة السودانية تشهد تدنيا إلى حد حتمية اندلاع التغيير الذي قاده العميد عمر حسن أحمد البشير في 30 من يونيو 1989 لتكون قضية الجنوب أيضاً هذه المرة سببا أساسياً للتغيير ولتحتل صدارة اولويات القضايا التي تستدعي المعالجة. لذا لم يمض سوى أسبوعين على السلطة الجديدة حتى بعثت بوفد منها للالتقاء بوفد من 'الحركة الشعبية' ترأسه جون قرنق كفاتحة لخطة سلام احكمت الحكومة رؤيتها فيها بالمؤتمر الجامع لقضايا السلام الذي انعقد في خواتيم عام 1989.
ثم مع حلول يناير 1992، وقعت الحكومة السودانية اتفاقا مع لام اكول في فرانكفورت حمل قبولا مبدئيا بإدراج حق تقرير المصير كبند ضمن بنود التفاوض، وهو ذات ما حمله بروتوكول اسمرا الذي توصلت إليه احزاب المعارضة (التجمع) لتكون المعارضة بذلك طرفا أصيلا في معادلة ترسيخ فاعلية مبدأ تقرير المصير، ثم جاءت اتفاقية الخرطوم للسلام 1996 حاملة نصا واضحا لتقرير المصير، جرى تضمينه الدستور ليكون ملزما للجميع، فلم يجد اتفاق نيفاشا مناصا من جعله أساسا للتفاوض، إذ لم يكن يعقل أن تقبل الحركة الشعبية حوار سلميا لا يبدأ من حيث انتهى الآخرون.
ولئن كان الجنوب ينهض دليلا ساطعا على ما ذهبنا إليه من ضعف عناصر الانصهار بين المكونات الديموغرافية السودانية، فإن نزاعات أخرى تشير إلى صدق هذه الحقيقة وإن كان بواقع أقل فداحة عما هو عليه الحال في الجنوب.
ثالثاً: اتفاق السلام الشامل
يعد اتفاق السلام الشامل الذي وُقِّع في نيروبي عام 2005، اتفاقا سلميا نموذجيا في فصوله ودقة تناوله للقضايا المتكاثرة في تاريخ علاقات الشمال والجنوب، ولقد تضمن الاتفاق ثلاثة بنود أساسية في قسمة السلطة وقسمة الثروة والترتيبات الأمنية، مظللا ذلك كله بالاتفاق على تقرير المصير كحق يسمح لأهل الجنوب بالاختيار بين الوحدة والانفصال.
ولقد مضى إنفاذ بنود اتفاق السلام باتساق عبر إنشاء ست مفوضيات تولت انفاذ ومراقبة البنود المتفق عليها، لقد كان ذلك كله يشف عن إرادة وافرة تغلب خيار الوحدة، غير أن عددا من المستجدات أسهم في تبني النخبة القيادية في الحركة الشعبية طريقا مفضيا إلى غير ما طمحت إليه الاتفاقية وموقعوها ومن تلك المستجدات:
- الرحيل المفاجئ للدكتور جون قرنق بشخصيته الكارزمية وتوجهاته الوحدوية.
- التدخلات الخارجية التي حسنت لنخبة الحركة الشعبية عبر الإغراءات والقراءة الخاطئة خيار الانفصال.
- التباينات بين شريكي الحكم حول بعض القضايا الأساسية ومنها تطاول الجدال - الذي ما كان له أن يستطيل - حول قانون الأمن، وقانون الانتخابات، وقانون الاستفتاء، وما يتعلق من ذلك بموضوع الحدود.
- الغيرة السياسية التي انتابت الأحزاب المعارضة وجعلها تسعى جاهدة إلى توسيع شقة الخلاف بين الشريكين حول القضايا المشار إليها.
- التوجهات الانفصالية لدى بعض التكوينات السياسية في شمال السودان، مثل منبر السلام العادل الذي لم يتوان لحظة في تقريع الحركة الشعبية واذكاء جذوة الانفصال بين أهل الشمال وتحسينه لدى الجنوبيين.
رابعاً: تداعيات الانفصال شمالاً وجنوباً
(1) دولة الشمال:
يتملك الكثيرين رأي غالب بأن السودان (أعني الدولة الشمالية)، سيتأثر تأثراً باهظاً بمآلات انفصال الجنوب... ينحو البعض من أولئك المتشائمين منحى عاطفياً تشيع في آرائه ومفرداته روح الماضوية المتشوقة (نوستالجيا)، وينحو البعض منهم منحى عقلانيا يقرأ التطور الجديد من منطلق المصالح المحضة، بينما يذهب طرف ثالث من أولئك المتشائمين إلى أن الدولة الجنوبية الجديدة (بافتقارها عناصر الدولة) سوف تثقل كاهل الشمال بأعباء تفوق أعباء الماضي يوم كان الأمر واحداً.
غير أن فريقاً من المتفائلين يسارع بالرد على أولئك متدثرا بقول المتنبي الشهير:
والموت أهون لي مما أراقبه
أنا الغريق فما خوفي من البلل.
وبالطبع يجمل بنا، هنا، أن نتعامل مع الانفصال بوصفه لا موتا ولا غرقا... ولا بللا بحسب إشارة المتنبي تلك فثمة عناصر منطقية تقول بأن أمام الشمال فرصة حقيقية للانطلاق والنماء، مستفيدا مما لحق به من تقلص في خريطته... ولكن دعونا نقلب هنا صفحات كلا الاحتمالين:
(أ‌) الرؤية المتشائمة: وهي تنزع إلى تأكيد مقولتها مستندة إلى ما يلي:
تفشي ظاهرة التفتت والانقسام كنتاج لنيل الجنوب حق تقرير مصيره، لا سيما أن عددا من أجزاء الشمال ما يزال يعاني ذات المعضلات الإثنية التنموية.
نقصان الموارد واهتزاز أوعية الاقتصاد بذهاب جزء مقدر من المصادر الطبيعية إلى الجنوب (النفط الغابات، الأراضي الزراعية).
عدم حسم نقاط الخلاف العالقة (أبيي، الحدود)، بما سيترتب عليه من توترات ستغدو هاجساً مزعجاً مع انبساط الحدود وصعوبة الإفضاء بحل مُرْضٍ لقبائل المناطق المتنازع عليها.
(ب‌) الرؤية المتفائلة: وتتمثل دفوعاتها في ما يلي:
أنه من المستحيل إيقاف نزيف الدم بين الشمال والجنوب بغير الانفصال، ومن هنا فإن موارد بشرية واقتصادية هائلة يمكن إعادة تخصيصها لنماء الشمال.
أن دولة الجنوب الجديدة ستحل بحدودها الجديدة محل ثلاث من الدول التي كانت تحادد السودان (كينيا، أوغندا، الكونغو) مع غالب حدود إفريقيا الوسطى، وجميعها من الدول التي تشهد تفلتات أمنية في أطرافها الحدودية، بما يعنيه التطور الجديد من المباعدة بين الشمال وهذه الحدود المتطاولة التهاباً.
(2) الجنوب
يرى الذين يركزون في استقراءاتهم على أثر الانفصال في الكيان الجنوبي، أن الأمر كذلك تستغرقه نظرة متخوفة يجابهها بعض المتفائلين بمنطق مقابل.
فالمتخوفون يتوقعون إخفاقاً في بلوغ النخبة الجنوبية نضجا يمكنها من تشكيل دولة فاعلة، للآتي:
افتقار الدولة الجديدة إلى البنية التحتية اللازمة، بما كان يؤمل معه أن يجري إرجاء الاستفتاء إلى أمد يمكن من الاستفادة من موارد الشمال في تشييد تلك البنية.
أن النزاعات الجنوبية الجنوبية، ذات طبيعة حادة وممتدة في أغوار التراث الجنوبي، وأن الشمال وحده كان يمثل مصداً للمجابهات بين التكوينات الجنوبية، ومن هنا فمن المتوقع أن يتطاول النزاع المحلي بما يفسد مشروع الدولة الجديدة، أو يبطئ من تكامله.
أن القبائل المشتركة في التماس بين الجنوب والدول الخمس المحاددة له ستفضي إلى نزاعات حدودية، كانت حكومة السودان سابقا بإمكاناتها الشعبية والدبلوماسية والرسمية، قادرة على إفراغ تلك النزاعات، بما يتطلب الأمر من الدولة الجنوبية الجديدة جهدا خارقا لتلافيها في الغد.
ثمة مناطق حدودية (كمثلث ألمبي في الحدود مع كينيا)، ظلت تشهد هدوءا رغم الاختلاف حولها، ويتوقع لهذه المناطق أن تشتعل مجدداً، فتقود إلى نزاعات مسلحة.
أما منطق المتفائلين فيقول بأن لدى الجنوب فرصة لتجاوز العقبات المشار إليها، من واقع الموارد التي تزخر بها أراضيه، بجانب حماس أهله في قبول تحدي إقامة دولة منفصلة، والعلاقات التي تبدو حسنة مع الجوار الجنوبي (أوغندا، كينيا، الكونغو...)
خامساً: مستقبل الدولة الوليدة في الجنوب
ثمة افتراضان رئيسيان يحكمان النظرة إلى تداعيات الانفصال على جنوب السودان، وكل من الافتراضين له إيجابياته وسلبياته، فأول الافتراضين يذهب إلى احتمال أن يدرك الكيان الجديد مصالحه الحقيقية المتصلة بوضعه الجيوبولتيكي التاريخي، فيعمد من ثم إلى التصالح مع نفسه ومع جيرانه من الأفارقة وعلى وجه أخص مع شمال السودان أو أن يختار الكيان الجديد (تفضيلا) الولاء لبنود خارجية تبدو لأول وهلة مغرية لبلد ناهض لتوه، فيكون نتاج ذلك الإضرار بالأمن والاستقرار الإقليمي في منطقة البحيرات (وسط وشرق القارة الإفريقية).
فإذا ما غلبنا الاحتمال الأول في تجليات إدراكه منطق التصالح مع الذات والجوار، فإن تداعيات هذا الخيار سوف تتمثل في ما يلي:
(أ‌) القدرة على بناء مصالح اقتصادية يفيد فيها الجنوب من إمكانات البنية التحتية التي يتمتع بها شمال السودان (نسبيا) وبخاصة في مجال النفط.
(ب‌) استحداث تجارة حدودية فاعلة مع شمال السودان تستفيد من إرث عريض في ممارسة هذا النمط من التجارة.
(ج) دخول عضو جديد في المنظومة الاقتصادية لمنطقة وسط وشرق إفريقيا، بما يعنيه ذلك من فتح باب جديد في التعاون الاقتصادي يفيد منه الجنوب.
(د) الولوج إلى المنظومة الأمنية الإقليمية بما سيمكن الجنوب ودول الإقليم من تنسيق يضع حداً للتفلتات الأمنية الداخلية، التي انطلقت كنتاج للوضع غير المستقر في المنطقة، وبخاصة قبل اتفاق السلام مع الجنوب.
(ه) تمكن الجنوب من جذب رؤوس الأموال العربية، والاستفادة من المشاريع الاستثمارية العربية، أخذاً في الاعتبار أن الدول العربية تضع علاقة كيان الجنوب الجديد مع شمال السودان في محك الاستجابة لنداء الجنوب والاستثمار في أراضيه، ومن ثم يستفيد كل من الشمال والدول العربية من الفرص الاستثمارية المستجدة في الجنوب.
أما تداعيات الاحتمال الثاني، فإنها تتمثل في ما يلي:
(أ‌) أن يستنزف الكيان الجديد بتوجهاته العدائية، الشمال والجنوب، كليهما، بما ينتج عنه ذلك من تفش للفقر والجوع وتراجع في وتائر التنمية.
(ب‌) تدفق اللاجئين إلى دول الجوار، بما يعنيه ذلك من أعباء تثقل كاهل هذه الدول وتقود إلى زعزعة الأمن فيها.
(ج) فتح الباب واسعا أمام التدخلات الخارجية في شؤون لا الجنوب وحده ولكن المنطقة برمتها.
(د) منح الفرصة للمتطرفين بالتكاثر والنشاط في منطقة سيصعب التحكم فيها مع اتساعها ووعورة تضاريسها وكثافة غاباتها.
(ه) استفحال الخلاف حول مياه النيل بما سيترتب عليه ذلك من تهديد للأمن المائي.
(و) هروب رؤوس الأموال، وتوقف عجلة التنمية والتجارة البينية.
(ز) تفاقم الخلاف حول القضايا العالقة بين الشمال والجنوب، كالحدود وأبيي.
سادساً: تداعيات الانفصال
على المنطقة:
التداعيات على المنطقة العربية
إذا غلبنا الفرضية القائمة بإمكان التوصل إلى وفاق سياسي، اقتصادي، اجتماعي بين مكونات شمال السودان في مرحلة ما بعد الاستفتاء، فإن الأثر السلبي لقيام كيان سياسي جديد في جنوب السودان على المنطقة العربية سيتضاءل كثيرا، والمقصود بالأثر السلبي هنا هو الآثار التي قد تنتج عن تشكيل كيان سياسي أفصح قادته سلفا عن نيتهم في تطبيع العلاقات مع إسرائيل، وفي الوقت الذي لا ينبغي أن يشكل مجرد الوجود الدبلوماسي والسياسي الإسرائيلي في الجنوب مصدر قلق بالغ للعواصم العربية، يبقى قائما احتمال تعميق هذا الوجود وتطوير آلياته ليشمل جوانب أكثر خطورة، ربما تمس الأمن القومي العربي مباشرة.
أما الدول العربية الأخرى، غير المجاورة للسودان مباشرة، فيقل التأثير المباشر لانفصال جنوب السودان عليها دون أن يختفي تماما إذ يمكننا هذا النظر، على سبيل المثال، إلى الدعوة إلى تقرير المصير في الجزء الكردي من العراق، رغم اختلافه عن النموذج السوداني ذي التباينات الواضحة.
كما أن البعض، في سياق التطورات، يشير إلى احتمال فقدان السودان للميزة الاستراتيجية باعتباره جسرا بين العالم العربي وإفريقيا غير أن تلك الملاحظة لا تصمد كثيرا أمام التحليل المعمق إذ إن الجسر باق ولن يتحرك عن مكانه وما على الراغبين في استخدامه إلا الوفاء بالشروط العادية للاستخدام، وأعني بذلك توفير الشروط الموضوعية التي تجعل الكيان السياسي الجديد يلمس ويتذوق الفوائد والمكاسب التي قد يجنيها من رسوم عبور السلع والخدمات والأفكار المتجهة من الشمال (العالم العربي) إلى الجنوب (إفريقيا في تجلياتها الجغرافية الأكثر اتساعا).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.