يولد الشاعر غنياً ويموت فقيراً لأنه يكرس حياته لملئ خزائن البشرية بالإبداع وبالكلمات التي تبقى إلى الأبد ويحارب بقلمه الخداعين المتاجرين باسم الدين. نعم الراحل السوداني محجوب شريف وأمثاله من الشعراء يولدون أغنياء لأنهم يأتون للحياة محملين بكم هائل من المشاعر والأحاسيس التي ما أن تتدفق حتى تعطي المحرومين الأمل وتجعل من المرأة كيان يحترم ومن الوطن قامة، فمحجوب شريف الذي قضى جل عمره حبيس زنازين الأنظمة العسكرية المستبدة التي لا تعرف معنى الكلمة مات فقيراً لكن شيع جثمانه في مدينة أمدرمان العاصمة التاريخية للسودان عشرات الآلاف، وبكاه الملايين من أبناء الشعب السوداني، الذين كانوا أحوج ما يكونون في حاجة لمحجوب شاعر الحرية والزنازين ليمنحهم مزيداً من الأمل في هذا الزمن الصعب المحيق. نظم محجوب شريف من الشعر ما يبني وطناً وما يشكل برنامجاً لإنقاذ بلد مثل السودان وصل به الدمار والهلاك إلى حد اللامعمقول. فلو أخذنا المقطع التالي نبراساً لوصلنا إلى بر الأمان ولأوجدنا الأرضية التي نستند إليها لحل مشكلات السودان المتأزمة، ويقول محجوب: حنبنيهو البنحلم بيهو يوماتي وطن شامخ وطن عاتي ... مكان السجن مستشفى مكان المنفى كلية مكان الأسرى وردية مكان الحسرة أغنيّة مكان الطلقة عصفورة تحلّق حول نافورة ... وطن بالفيهو نتساوى نحلم نقرا نتداوى رحل محجوب شريف وهو يؤدي ضريبة الوطن والشعب، فقد مات بمرض عضال تسببت فيه الرطوبة التي انتشرت في جسده بعد السنوات الطويلة التي قضاها في السجن، وحتى في اللحظات التي كان يصارع فيها الموت لم ينسى دوره وضميره فإرسل برسالة إلى للشعب والوطن قبل 48 ساعة من موته يقول فيها: من وجداني .. صحة وعافية .. لكل الشعب السوداني .. القاصي هناك والداني شكرا للأرض الجابتني ... والدرب الليكم وداني يا طارف وتالد .... يا والد النيل الخالد شرفني ... واحد من نسلك عداني انت الأول وما بتحول ... وأبداً ما عندي كلام بتأول ما متردد ... ما متردد .. ملئ جفوني بنوم متأكد بل متجدد ... تنهض تاني ولأن الحرية تأخذ ولا تعطى فإن كلمات محجوب شريف وقصائده المليئة بالجمال ستكون الملهم والمعلم وربما لهذا السبب كان الخوف منه أكبر من اولئك الذين يحملون السلاح، فالشعر الشريف المعبر عن ضمير الشاعر الذي يأبى الانكسار ويرفض المغريات يبغى في وجدان الناس ويحرك مشاعرهم ويداعب أحاسيسهم، ويجعل من الوطن قامة، ومن الشعب كيان يحترم وهنا يقول محجوب: يا شعبا تسامي .. ياهذا الهمام تفج الدنيا ياما .. وتطلع من زحاما.. زي بدر التمام تدي النخله طولها .. والغابات طبولها .. والايام فصولها قدرك عالي قدرك .. ياسامي المقام ثم يمضي ممجداً الوطن فيقول: وطنا الباسمك كتبنا ورطنا.. أحبك .. مكانك صميم الفؤاد أحبك حقيقه..وأحبك مجاز.. أحبك بتضحك.. وأحبك عبوس بناتك عيونن صفاهن سماى ..وهيبة رجالك بتسند قفاى بحضرة جلالك..يطيب الجلوس ..مهذب أمامك يكون الكلام لأنك.. محنك وعميق الدروس.. مجيد المهابه ومديد القوام وأنت في مرقدك الأخير نقول لك يا محجوب رسالتك وصلت إلى كل بيت من بيوت الوطن المكلوم وفهمها الجميع الصغير قبل الكبير وستظل باقية يحملها الضمير الإنساني وستهتز بها عروش المنكسرين اللاهثين وراء التجويع والقتل والتشريد. لك ولكل قبيلة الشعراء في عالمنا العربي جل الاعتزار نيابة عن من لا يعرفون معنى الحياة، أعمياء القلوب الذين لا يفهمون لغة المشاعر ولا يأبهون بالإنسانية وللذين خدعونا وسرقونا باسم الدين وبددوا وحدتنا ودمروا اقتصادنا، وكنت بارعاً يا محجوب حين قلت عنهم: سرقتو وطن واسع ممتد...فكفكتوهو...وزعزهتوهو وجدتو مصانع لقيتو مزارع... وسكة حديد جد بالجد عطلتوها... وفرتقتوها...ووقفتوها...وقطعتو رزق عمال من حد كيف وحدتنا وكيف دولتنا ؟ كيف عيشتنا وكيف حالتنا؟ ووين ثرواتنا؟ ووين أموالنا؟ وين غيرتنا؟ وكيف سمعتنا؟ خرمجتوها...وبشتنتوها... وبددتوها...ولوثتوها بإسم الدين الخداعين...تجار الدين الأفاكين ملعونين ملعونين... ملعونين لي يوم الدين [email protected]