تصور أن تجبر على وضع ابنك على شريط السكة الحديد ليمر فوقه القطار.. أمام عينيك وأنت تنظر إليه وهو يصرخ ثم يتلوى حتى آخر قطرة من عمره.. هذا هو بالضبط إحساس المزارع حينما يضطر لترك محصوله تحت أرجل الماشية تأكل ما تستطيع وتدهس ما تبقى.. المزارعون (المساكين) أغرتهم أسعار البصل وهي ترتفع في السماء كالصاروخ.. ليصل سعر الجول إلى أكثر من (600) جنيه.. فاجتهدوا هذا الموسم في إنتاج أكبر قدر من البصل.. وكانت النتيجة أن فاض السوق وغرق في البصل.. فانهارت الأسعار ليصل سعر الجوال إلى (50) جنيهاً فقط.. لم يعد مجدياً - بالنسبة للمزارع- جمع محصول البصل.. فالتكلفة أعلى بكثير من سعر البيع.. فترك المزارعون محصولهم الذي طمروا في تربته كل أموالهم وعرق جبينهم وآمالهم وأحلامهم.. تركوا المحصول لترعاه الماشية.. فذلك أقل تكلفة من حصده وجمعه وبيعه. نفس هذا السيناريو يتكرر كل عام في محصول (الطماطم).. الذي يزرعه المزارعون في الموسو الشتوي.. ويغرق السوق بإنتاجه الكبير.. فتنحط الأسعار للدرجة التي يصبح فيها أحياناً ترك المحصول في مزارعه أفضل من تكبد عناء قطفه ونقله إلى الأسواق.. من المسوؤل عن هذه الكارثة التي تتكرر على مدى الأعوام؟.. شح في محصول محدد.. يغري المزارعين بزراعته.. فيغرق السوق في وفرة مهلكة تؤدي إلى إعسار المزارعين وخروجهم من دائرة الإنتاج إلى دائرة السجون ومطاردات البنوك والدانئين. في تقديري.. الأمر مسؤولية الدولة أولاً ثم المزارع ثانياً.. فالدولة يجب أن توفر ضمانات كافية للمنتج.. تبدأ هذه الضمانات بتشجيع التصنيع الزراعي الذي يستوعب فائض الإنتاج.. بل يشجع على مزيد من الإنتاج.. ثم تمتد الضمانات لتشجيع الاستثمار في أوعية التخزين.. لضمان توفر المحصول خارج موسم زراعته.. لكن الضمان الأهم هو (المعلومات).. بناء أجهزة معلومات قوية تساعد على قراءة وتوقعات الإنتاج لكل موسم.. حتى لا يتركز الإنتاج في محصول بعينه وتهمل بقية المحاصيل.. فتكون النتيجة كارثية.. أجهزة المعلومات عملها سهل للغاية.. ونتائجها فعالة في توفير ضمان النجاح وأفضل الأرباح للمزارع.. تتولى أجهزة المعلومات دراسة وتحليل حجم الاستهلاك المتوقع لكل سلعة.. وتصدر نشرات دورية للمزارعين – تبث عبر اتحادات المزارعين وأجهزة الإعلام والمعلومات عموماً- تبين اتجاهات الاستهلاك والأسواق.. مثلاً.. في حالة البصل.. توفر أجهزة المعلومات تقارير عن حجم الاستهلاك المتوقع وإمكانيات التصدير (مثلاً لدولة جنوب السودان).. فتحذر المزارعين من أن ظروف الحرب الدائرة في الجنوب – مثلاً- تعوق التصدير مما يخفض الطلب.. وتصدر أجهزة المعلومات نشرات تبين الأراضي التي بدأ إعدادها لإنتاج البصل.. حتى يدرك المزارع أن التمادي في زراعته يحرك المؤشر نحو فائض يغرق الأسواق فتنهار الأسعار.. الزراعة اليوم ليست عملاً عشوائياً كما كان الوضع عليه في الماضي.. عندما كان المزارع لا تخرج دائرة خبرته عن دورة روتينية للزراعة يكررها بمنتهى التلقائية.. دون أي حساب للأسواق والاستهلاك.. لكن الزراعة اليوم تعتمد على دائرة تبدأ مما قبل الإنتاج حتى الاستهلاك.. [email protected] اليوم التالي