مخاطر جديدة لإدمان تيك توك    محمد وداعة يكتب: شيخ موسى .. و شيخ الامين    سلطان دار مساليت: إرادة الشعب السوداني وقوة الله نسفت مخطط إعلان دولة دارفور من باريس    نقاشات السياسيين كلها على خلفية (إقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً)    إيران : ليس هناك أي خطط للرد على هجوم أصفهان    قطر.. الداخلية توضح 5 شروط لاستقدام عائلات المقيمين للزيارة    قمة أبوجا لمكافحة الإرهاب.. البحث عن حلول أفريقية خارج الصندوق    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    هل رضيت؟    الخال والسيرة الهلالية!    زيلينسكي: أوكرانيا والولايات المتحدة "بدأتا العمل على اتفاق أمني"    منى أبوزيد: هناك فرق.. من يجرؤ على الكلام..!    مصر ترفض اتهامات إسرائيلية "باطلة" بشأن الحدود وتؤكد موقفها    الإمارات العربية تتبرأ من دعم مليشيا الدعم السريع    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على ناشفيل    ضبط فتاة تروج للأعمال المنافية للآداب عبر أحد التطبيقات الإلكترونية    لجنة المنتخبات الوطنية تختار البرتغالي جواو موتا لتولي الإدارة الفنية للقطاعات السنية – صورة    تراجع أم دورة زمن طبيعية؟    بعد سرقته وتهريبه قبل أكثر من 3 عقود.. مصر تستعيد تمثال عمره 3400 عام للملك رمسيس الثاني    المدهش هبة السماء لرياضة الوطن    خلد للراحة الجمعة..منتخبنا يعود للتحضيرات بملعب مقر الشباب..استدعاء نجوم الهلال وبوغبا يعود بعد غياب    إجتماع ناجح للأمانة العامة لاتحاد كرة القدم مع لجنة المدربين والإدارة الفنية    نتنياهو: سنحارب من يفكر بمعاقبة جيشنا    كولر: أهدرنا الفوز في ملعب مازيمبي.. والحسم في القاهرة    إيران وإسرائيل.. من ربح ومن خسر؟    شاهد.. الفنانة مروة الدولية تطرح أغنيتها الجديدة في يوم عقد قرانها تغني فيها لزوجها سعادة الضابط وتتغزل فيه: (زول رسمي جنتل عديل يغطيه الله يا ناس منه العيون يبعدها)    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    الأهلي يوقف الهزائم المصرية في معقل مازيمبي    ملف السعودية لاستضافة «مونديال 2034» في «كونجرس الفيفا»    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العدالة الناجزة في السودان (1983-1985): ثلاثون عاماً من العزلة
نشر في الراكوبة يوم 29 - 05 - 2014


مقدمة
أعرض أدناه مشروعاً بحثياً أعيد فيه النظر في محاكم نميري للعدالة الناجزة طالما كنا في سيرة نميري وميل البعض لمراجعة عصره عسى أن نقف على نفع منه يُجزى به. والمشروع بحاله هذا مستمد من الفصل الرابع من كتابي "هذيان مانوي: تفكيك القضائية الاستعمارية والصحوة الإسلامية في السودان، 1898-1985، دار برل بهولندا، 2008، (بالإنجليزية).
حاولت في هذا الفصل تجاوز مفهوم "الأداتية" الذي تواضعت الصفوة في تفسيرتحليل لفة نميري للدين ومحاكمه التي تأسست عليها. والأداتية هي أن يجعل الحاكم وغير الحاكم من الدين مطية لأغراضه السياسية والدنيوية. وتُوجز المفهوم عبارتنا "استغلال الدين".
لقد أعفانا مفهوم الأداتية من الغوص في نصوص وديناميكية الدين كما ينبغي لمن تولى أو سيتولي شعباً كثيره مسلم. فكل الإسلام "سياسة" في منظر الأداتية ولا يقع عليه إلا كل مستغل أشر. فالدين بحسب هذا المفهوم مطية للصفوة ولغمار الناس "الإسلام الشعبي" وهو الذي خالطته "الوثنية الأفريقية" في رأي ترمنغهام فلا نفع منه ولا خطر.
سألت نفسي: هل يواتي الدين كل مستغل في كل زمان ومكان أم أن هناك أشراط تقع في المجتمع فتزكي لأهله دينهم كمفتاح للفرج فيستصحبها "المستغل"؟ ونظرت حولي في الولايات المتحدة فوجدت من أراد استغلال الدين وتوظيفه مثل منكري نظرية التطور أو مثل القاضي الذي أراد الحكم بالوصايا العشر. ولم ينقاد لهم الدين لأن المجتمع لم يتهيأ لهم.وربما تهيأ يوماً.
لمّا اكتفينا من تديين الدولة بمفهوم الأداتية الذي يقصر الدين على صفوي غيتون (وهو مستغل الدين في عرف الناس مثل الذي صلى وصام لأمر كان يقصده) غاب عنا تديين المجتمع الحر في دورة من دوراته ومطلبه للعدل والسوية من بين صفحات دينه. وعلى ما اشتهر من عبارة ماركس عن الدين أفيون الشعوب (الأداتية) إلا أن له كلمة منسية هي قوله أن الدين روح عالم بلا روح.
مشروع البحث:
تريد هذه الورقة رد الإعتبار البحثي لتجربة الرئيس نميرى في تطبيق الشريعة وتأسيس مفهوم "العدالة الناجزة" ومحاكمها خلال السنوات 1983-1985 (الكباشي 1986، 1987). ففي سبتمبر 1983 أعلن النميري الشريعة قانوناً للبلاد بديلاً للقوانين الوضعية المستمدة من القانون الإنجليزي. وتم ذلك الإعلان في ذيول إضراب للقضاة توج نزاعاً طويلاً بين الرئيس والقضائية حول قضايا استقلالها (خالد 1985، 1986، 1990، 1993). وتجسد ذلك النزاع في مفهومين للعدالة. زكى النميري مفهومه للعدالة الناجزة وكان بمثابة نقد للقضائية التي تراكمت القضايا أمام محاكمها فاضجرت المتقاضين مستعصماً بالقول إن تأخير العدالة حجب للعدالة. ومن الناحية الاخرى تمسك القضاة ،الذين ردوا تأخير العدالة لضآلة المنصرف عليها ، بمبدأهم أن العدالة المستعجلة مثل الظلم سواء بسواء. وبتحكيم الرئيس للشريعة، أحال القضائية القديمة للاستيداع وأنشأ قضائية جديدة تحررت بزعمه من عقابيل الاستعمار تسرع محاكمها الناجزة بالأحكام لبسط عدل الشريعة بواسطة قضاة عدول لا مجرد قضاة (زين 1983).
المهنيون والسياسيون المنتقصون من تجربة النميري أوسعوا قانونها ومهنيتها نقداً جعل محاكمها سخريا تحاشاه حتى الباحثون ونبذوه. وأكبر مآخذهم عليها أنها كانت أداة في يد طاغية رأى أطراف حكمه تُنتَقص فطلب تطويله باستغلال الدين. ومثل هذا الطعن في المقاصد مما عرف مصطلحاً ب"الأداتية" أو "التخليب". فوصم نقاد النميري تلك المحاكم بخيانة المهنة لخضوعها للحكومة واقترافها تجاوزات فاحشة مثل إعدام المصلح الإسلامي المسن محمود محمد طه واخضاع غير المسلمين لحدود الشريعة (النعيم 1986).
وتسلم الورقة بصحة أكثر هذه الانتقادات التي جعلت تلك العدالة مجرد مخلب سياسي لنميري حتى قال محمد زين إن جوهر محاكم النميري هو العداء للقضائية "المشاغبة" القائمة آنذاك (1983). إلا أنها تذهب أبعد وتناقش أسلمة الرئيس نميرى للدولة في ضوء الجدل الدائر حول الجريمة والعقاب الذي اجتاح القضائية والمجتمع بأسره في السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن الماضي. وسنقف بخاصة عند "الغضبة للعدالة" التي سرت في ذلك الخطاب المؤرق بقصور الدولة عن إنفاذها، وكذلك عند تحول الناس بفلسفة العقاب من الإصلاح والتهذيب الحداثي إلى السن بالسن الدينية.
وسنحلل خطاب الجريمة والعقاب وغضبته للعدل على خلفية الاقتصاد السياسي الذي تولد منه. وعُرف بين الباحثين ب "اقتصاد المغتربين" (سيد أحمد 1996). وهو اقتصاد اكتنف 3 بليون دولار في أعوام 1984-1985 هي تحويلات 650000 سودانياً مهاجرأ للجزيرة والخليج بإحصاء 1990. وأفرخ ذلك الاقتصاد جرائماً استجدت وشاب لهولها الولدان دارت حول خيانة الأمانة والاحتيال. ورأى فيه المسلمون "باطلاً". وهذا منشأ لوصفنا له ب"اقتصاد الباطل" بالنظر إلى وقائع محكمة جرت في 1979 استشهد المدعي فيها بالآية: "وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ" من فرط "كفرانية" الجريمة المعروضة على المحكمة. وذهب اقتصاد الباطل بعقول الناس وأنكر الناس زمانهم. وكانت الدولة أكبر ضحايا هذا الباطل. فقد أفرغها المجرمون من وظيفتها وشاراتها بتزوير وثائقها المختلفة. وتحرج من ذلك كله غمار المسلمين وفروا إلى دينهم في سياق صحوة دينية متعددة الوجوه.
يطعن في رجاحة خصوم النميري، الذين وصفوا عدالته الناجزة كمجرد "تخليب" للدين ، في دلالة جعله أداة لغرض دنيوي سياسي، أن التخليب هو نفسه بحاجة إلى تبيين ناهيك أن نفسر به الصحوة الإسلامية. فهو من مصطلح ثقافة الصفوة غربية الهوى ، بما فيها الإسلامويون أنفسهم، ومحصلة من حروب هوياتهم. فحرام على الدين عند أكثرهم أن يطأ ساحة السياسة وإلا كان في "حالة تسلل". ومنعاً لقصر صحوة المسلمين عند صفوتهم رغب ركس أوفاهي، المؤرخ للسودان، أن يقع على وصف للصحوة، وعدالة النميري الناجزة فصل كئيب من فصولها، يذهب في تفسيرها إلى أبعد من "ثقافة ونزاعات وتواريخ الصفوة غربية المنشأ" (أوفاهي 1996). والسبيل إلى ذلك أن ننظر إلى جذورها بين المسلمين كطرف أصيل في الإحياء الإسلامي لا موضوعاً له.
في المنهج
ولبلوغ الغاية في توطين الصحوة الإسلامية كسياسة مشروعة، لا حالة تسلل للدين في ما لايصلح له ، أخذنا بأفضل النظرات المستجدة في الشاغل الفكري المعاصر حول المجتمع والسياسة. فبعد إهمال غريب للدين ها نحن نرى الباحثين يستردونه في تحليل الحركة الاجتماعية كقاعدة مشروعة لنقد المجتمع في حين كان في ما مضى موضوعاً للنقد أملاه "العقل" وزينه (لنكولن 1993). وهذا التحول من نقد الدين إلى نقد المجتمع من زاوية الدين هو الذي فوج المسلمين ك"مسلمين" على المسرح السياسي ( برنر 1993). ومتى استرددنا الهوية الدينية لجمهرة المسلمين نظرنا في بواعثها وجدلها. ومما وجدته صالحاً لغرضي مفهوم "الهوان الاستعماري" الذي ورد عند بازل ديفدسون، المؤرخ لأفريقيا. فمن رأيه أن الحداثة الاستعمارية أهانت حس المسلمين بالدماثة والأصول. فصاروا أذلة وطأهم الكفار بعد أن كانوا أعزة. ومن أطرف ما في المفهوم أن هذا الهوان يصيب عامة المسلمين أكثر من خاصتهم. فبوسع الأخيرون، مهما يكن، التعاطي مع الاستعمار الذين هم صنع يديه (ديفدسون 1992).
وسنرى أن أهدى السبل لفهم الدين أن ننظر إليه ككيان مستورط في السياسة والتاريخ وليس كنظام مغلق من الرموز المقدسة. ولفهم الصحوة على هذا الضوء ستحللها الورقة كظاهرة لا فكاك منها من عقابيل ما بعد الاستعمار في الدول التي تحررت منه. وهي عقابيل جرى تعريفها ب" الشغل الذي لم نفرغ منه في تفكيك الاستعمار" (سميث 1999). وعليه سيفحص البحث الصحوة الاسلامية في السودان كمنتج من منتجات صراع مختلف القوى السياسية والفكرية التي حاولت استثمار البرزخ المهني في القضائية الثنائية التي تغلب فيها القضاة المدنيون على قضاة الشرع. ونريد للبحث، بأخذنا للإسلامية كحركة مشروعة لتفكيك الاستعمار، أن يكون قراءة جذرية مبتكرة لها كاستجابة لانفراط مركزية الغرب (سكوت 1995).
سنتوقف في بحثنا عند السؤال: هل كانت العدالة الناجزة وأسلمة الدولة فرضاً تاريخياً لا مهرب منه أم أنه كان مجرد احتمال من بين احتمالات أخرى للتاريخ؟ وسنأخذ في تحليلنا لأسلمة النميري للدولة بمفهوم "موسيقى الدين" وهو وصف ماكس فيبر لمنهج صديقه جورج سمل في تحليل الظاهرة الدينية. قال فيبر إن سمل يبزه في أن له أذناً صاغية لصوت أو موسيقى المتدينين بينما خلا هو منها. ففيبر يدرس التجارب الدينية بتعاطف إلا أنه، شخصياً، وخلافاً لسمل، لا سعة له للدين. فسمل تمتع بموسيقية للظاهرة تركزت في تفرقته بين التقوى والدين. فالتقوى هي الحساسية للدين أو السعة له. أما الدين فهو ما يتعين في هيئات ذروتها الدولة مثل أسلمتها. فالتقوى خصلة روحية تسبق تديين الدولة (سمل 1997). فالغضبة للعدالة، موضوعنا هنا، تقوى لا تجد سبيلها إلى هيئة الدولة في كل حالة. فقد تنجح السياسة في ملاقاتها في طور التقوى قبل تسييسها في مثل "أوبة الدين إلى الدولة" في عبارة شائعة للإسلامي حسن الترابي.
عن السرد
وسنرى بمنهجنا الموصوف أن لتخليب الدين نفسه ديناميكية سياسية اجتماعية لا يقع بدون مواتتاها لمن أراد توظيفه لغايته السياسة. فلا يوفق كل ساع لتخليب الدين ما لم تتهيأ تقوى مثل الغضبة للعدالة، موضوع بحثنا، لتديين الدولة. وواتت تلك لأشراط النميري في ثنائية القضائية السودانية ونزاعات قسمها المدني الغالب على القسم الشرعي المستضعف، وسياسات الرئاسة السودانية التي استثمرت هذا الشرخ فيها.
وسننظر إلى نزاعات هذا الشرخ القانوني وفق مفهوم "الثنائية المانوية" الذي أذاعه فرانز فانون، المارتنيكي الثوري، نسبة إلى "ماني" اللاهوتي الفارسي القديم، الذي اعتقد أن العالم يَطَّرد نتيجة دراما صراع أزلي بين الخير والشر. وهذه الثنائية عند فانون هي ما وصم جغرافيا البلد المستعمَر فأنقسم إلى فضاء استعماري أوربي، له المعيارية، وآخر أهلي مباءة للانحراف عن المعيار (فانون 1968). فتواجه الفضاءان خلال الاستعمار وما بعده بصورة إقصائية استحال معها توحيد القضائية التي كان بوسعها التعاطي المهني مع غضبة العامة للعدالة.
ستعرض الورقة لخصومة القسمين بالقضائية كحالة من الثنائية المانوية الاستعمارية أغرت بالقضائية المستقلة فتعاورتها السياسات الوطنية. فقد أراد قضاة الشريعة بالاستقلال المساواة بالقضاة المدنيين ورد الاعتبار لقانونهم، الذي هو شريعة غالبية السودانيين، ولهم كقضاة مستحقرين. فأحكام المانوية الاستعمارية صورتهم ك "الآخر المتخلف " بالنسبة للقسم المدني طوال عهد الإنجليز (1898-1956) (سلمان 1977، فلوهر لوبان 1987). فأُخضعوا للقضاء المدني، وجردوهم من أدوات الشوكة كلها حتى مُنع أفراد القوات النظامية من تحيتهم كما يفعلون للقضاة المدنيين. وسنرى هوانهم على الناس لما أبعدوا عن الاختصاصات القانونية التي تحكم مسالك السياسات العليا وإدارة الاعمال واختصوا بالأحوال الشخصية للمسلمين. فصاروا في نظر الذكور "قضاة عوين-نساء" أو "أنكحة وميراث" في قول المحدثين (خالد 1974).
وسنفحص كيف أن سياسات الرئاسة بعد الاستقلال في عام 1956 سعت للاستفادة من خصومة القضائية المانوية ومواردها التاريخية والسياسة والثقافية. سنرى كيف سبق إسماعيل الأزهري خلال رئاسته لمجلس السيادة (1965-1969) النميري إلى تبني الشريعة قانوناً للبلاد في تحالف مع قضاة الشرع. فنزع عنهم سلطان القسم المدني في 1967 وساواهم برصفائهم فيه لأول مرة. وأقدم الأزهري على ذلك في سياق غضبة شعبية على القضائية وقانونها الإنجليزي الذي لم تجد في مواده ما يحاكم إنحرافات خلقية استفزت جمهرة المسلمين. بل كان شرّع لبعضها مثل البغاء. وكان الأزهري بحاجة لذلك الحلف بما لايقل عن حاجة القسم الشرعي له. فقد ساءه وقوف القسم المدني، حارس القانون " الاستعماري " والدستور "العلماني" ضده في وجه كل خطوة كان يقوم بها نحو تركيز سلطته كرئيس بزعمه لمجلس السيادة. وكَبُر عنده زجره له لحله الحزب الشيوعي منافسه في المدن. وكان تلك باكورة مسعى سياسات الرئاسة لاستغلال شرخ القضائية للكسب.
وسنرى كيف عاد قانون القضائية الاستعماري وأداؤها إلى طاولة النقاش في آواخر عهد النميري في سياق اقتصاد الباطل المار ذكره. فترافق تفاقم الجريمة في ذلك الاقتصاد مع عجز بين للدولة عن الصرف المناسب لاستباب العدل. وحفلت "سوداناو"، المجلة الشهرية الحكومية الناطقة بالإنجليزية، (1979) بتحقيقات غاية في النضج عن بؤس أداء القضائية في وقت إفلاس كبير للحكومة. فبقي مثلاً في القضائية 538 قاضياً في 1980 مثلوا 69% من حاجتها (728 قاضياً). وترتب على انكماش القضائية الموصوف تثاقل في النظر في القضايا والبت فيها. ففي 1979 نظرت المحاكم في 42 ألف قضية من جملة 89 ألف. وأقلق ذلك التلكؤ الناس وأضجرهم فاشتبهوا أنهم ربما لم يلقوا العدل لعطب في أمانة القضاة أنفسهم. وروجت تلك الشبهة للمحاماة لا من جهة مهنيتها بل لأن المحامين يعرفون التعاطي الماكر مع زملائهم القضاة ممن جمعتهم الجامعات طلاباً وأمسيات الأنس التي اشتهرت بها طبقة الأفندية.
واصطدم النميري والقضاة المدنيون في تلك الملابسات صداماً تمثل كما رأينا في مفهومين. كان النميري يصطحب في تعجيله بالعدالة مفهوماً إسلامياً للعقوبة هو السن بالسن الذي لقي صدى بين جمهرة المسلمين المكتوية بالجريمة. وعليه كانت الجمهرة أصيلة في الصراع من أجل قضائية أخرى على حد الشريعة كما سنرى من خلال رسائلها للصحف وتأليبها للدولة لإغلاق البارات أو دور البغاء. ولن تجد صدى لهذا الهاجس العدلي للمسلمين في الكتابات عن تجربة النميري في العدالة الناجزة (منصور 1986). خلافاً لذلك تجد الصفوة استأثرت بدراماها التي تمثلت في صراع الأفيال: النميري والقضائية. وبدا في كتابات الصفوة العلمانية أن القضاة على حق الحداثة والنميري على باطل التقليد برغم أن الحقيقة أعقد وأغور.
ومتى استتبت لنا صورة غضبة العامة للعدالة وجذورها في المجتمع شرعنا في وصف أدوار الصراع بين النميري والقضائية من جهة دواعيه ومساره وخواتمه. وسنركز بوجه خاص على مكر النميري الذي استصحب غضبة الناس للعدل بأفضل مما فعل القضاة وسوَّقها لصالح نظامه الذي كان يلفظ أنفاسه بعد استنفاده للحلفاء من جهات السياسة كلها. واستفحلت من الجهة الأخرى مطالب المهنيين بتحسين الأجور ورم بيئة الخدمات العدلية التي تليهم للجمهور. وكان القضاة على رأس من خرجوا في عمل نقابي للضغط على النظام بتلك المطالب.
وسنفحص في الورقة الطرق العديدة التي لجأ إليها النميري لملامسة غضبة الناس للعدالة في سياق إفحام خصومه في القضائية والمجتمع. فاستعان ب "القضائية الثانية" وهي المحاكم العسكرية لتعجيل البت في القضايا. ثم عدَّل الدستور في 1975 ليعطي تلك المحاكم صلاحية النظر في قضايا الأسعار المؤرقة للناس. وأصدر في 1982 قانون الطمأنينة الذي خلق شبه "جماعات الأمر بالمعروف". ثم أعلن حكم الشريعة ومحاكمها الناجزة.
ولم يكن بوسع القضاة ملاقاة تلك الغضبة إلا عن طريق إصلاح القضائية القائمة بما اقتضاه ذلك من كفالة استقلالها والصرف على ديوانها وتحسين شروط خدمة قضاتها. ومن وجوه تسييس القضائية البغيض للقضاة لحمها في حزب الحكومة بتمثيل لائحي لها في مكاتبه القيادية المختلفة. واشتم الناس رائحة "النقابية" في مطالب القضائية فلم تحرك فيهم ساكناً مثل ما فعل النميري الذي مناهم الأماني في العدل الذي اشرأبوا له. وسنصف دراما صراع النميري والقضائية في إضرابات القضاة التي جرت في 1980 و1981 التي ختلهم بعدها النميري بإعلان الشريعة قانوناً للبلاد وأحل محاكمه الناجزة محل القضائية "الاستعمارية" القديمة. وعرض على الجمهور في بيانه في المناسبة وتائر وقوع جرائم "اقتصاد الباطل" في المال والجسد وفشوها بالدقيقة والساعة واليوم. وأوحى لمحاكمه أن تنشر على الجمهور إنجازها يوماً بيوم في محو القضايا المتراكمة عن القضائية القديمة. وكانت أحكامها بالجلد والقطع والقطع من خلاف والتغريب تذاع يومياً عند الثامنة مساء على جمهور عطش للعدل بغض النظر.
أهمية البحث في ظرفنا
يأذن لنا تنزيلنا عدالة النميري الناجزة إلى محاضنها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بنظر يتجاوز فنطازيا الصفوة لها: نطاح التقليد والحداثة. فغفلة تلك الصفوة، المحصنة في ثنائياتها المستوهمة، عن تلك المحاضن صور لها أن الأمر إما أمر دين أو تقدم. ولم يطرأ لها أن الواقع أخضر من ذلك بكثير. فبالوسع النظر إلى فرار العامة لدينها، العمدة في علم سياستها، كتقوى التي هي حساسية للدين كحاكم وليس كحكومة. ولم يكن عسيراً إنفاذ العدل بإصلاح القضائية القائمة إصلاحاً حالت دونه ثنائيتها المتباغضة. فبقي الشرخ وتراخى العدل. وكانت تلك سانحة اهتبلها ديكتاتور شعبوي ماكر. وربما انتفعنا في حروب الربيع العربي الثقافية بهدنة فكرية ترد نجوى مطلب العدل الحقوقي والاجتماعي وتقواه إلى محاضنه الاقتصادية الاجتماعية قبل الخندقة والإسراف.
المراجع
An-Na'im, Abdullahi Ahmad. "Can Religion be to all as Well?" Sudanow (November 1970):14.
————. "Sudan's Republican Brothers: An Alternative Islamic Ideology." Middle East Report (July–August 1978): 40–42.
————. "Before It's too Late." Sudanow (November 1980): 24–25.¬
————. "The Islamic Law of Apostasy and its Modern Applicability: A Case from Sudan." Religion 16 (1986): 197–224.
————. Toward an Islamic Reformation: Civil Liberties, Human Rights and International Law. Syracuse: Syracuse University Press, 1990.
Brenner, Louis. Muslim Identity and Social Change in Sub-Saharan Africa. Bloomington: Indiana University Press, 1993.
Davidson, Basil. The Black Man's Burden: Africa and the Curse of the Nation-State. New York: Times Books, 1992.
Fanon, Frantz. The Wretched of the Earth. New York: Grove Press, 1968
Fluehr-Lobban, Carolyn. Islamic Law and Society in the Sudan. London: Frank Cass, 1987.
Ibrahim, Abdullahi A. al-Sharia wa al-Hadatha [Sharia and Modernity]. Cairo: Dar al-Amin, 2004. A second edition is in press.
---------------------------. Manichaean Delirium: Decolonizing the Judiciary and Islamic Renewal in Sudan, 1898-1985. Leiden: Brill, 2008.
Al-Kabbashi, al-Mikashfi Taha. Taṭbīq al-Sharīʽa al-Islāmiyya bayn al-Ḥaqīqa wa al-Ithāra. Cairo, 1986.
————. Al-Ridda wa Muḥakamat Mahmoud Muhammad Taha fī al-Sudan. Khartoum, 1987.
Khalid, Mansour. Ḥiwār maʽ al-Ṣafwa. Khartoum, 1974.
————. Nimeiri and the Revolution of Dis-May. London: KPI, 1985.
————. Al-Fajr al-Kādhib. Cairo, 1986.
_________. The Government They Desereve: The Role of the Elite in Sudan's Political Evolution. New York: Routledge, 1990.
————. Al-Nukhba al-Sūdāniyya wa Idmān al-Fashal, Vol 1. Cairo, 1993.
Lincoln, Bruce. Review of Talal Asad's Genealogies of Religion: Discipline and Reasons of Power in Christianity and Islam. Baltimore: Johns Hopkins University Press, 1993. History of Religions 35, no. 1 (1993): 83–86.
O'Fahey, R.S. "Islam and Ethnicity in the Sudan." Journal of Religion in Africa 26, no.3 (1996): 258–267.
Salman, Salman M. Judicial Administration and Organization in the Sudan. Ph.D Dissertation, Yale University, 1977.
Scott, David. "Colonial Governmentality." Social Text 43 (Fall 1995): 191–220
Scribner, Bob. Review of James C. Scott's Domination and the Arts of Resistance: Hidden Transcripts. New Haven: Yale University Press, 1990. The American Journal of Sociology 97, no. 3 (1991): 886-862
Sidahmed, Abdel Salam. Politics and Islam in Contemporary Sudan. New York: St. Martin's Press, 1996.
Simmel, Georg. Essays on Religion. New Haven: Yale University Press, 1997..
Smith, Lind Tuhiwai. Decolonizing Methodologies: Research and Indigenous People. London: Zed Books, 1999.
Zein, Ibrahim M. Religion, Legality and the State: 1983 Sudanese Legal Code. Ph.D. Dissertation, Temple University, 1989


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.