كل الأمور تسير نحو الهاوية، وتتمايل كأحجار الدومينو. هكذا يبدو الحال في السودان، حيث كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن الانفصال والانشطار في السودان، وبات السودانيون يتخوفون من أن يستيقظوا بعد شهور قليلة على وطن كانوا يتفاخرون به وقد انقسم الى دولتين: جنوبية عاصمتها جوبا، وشمالية عاصمتها الخرطوم. الذين جلسوا للتفاوض، من النخبة الحاكمة، لم يدرسوا الأمور جيدا. فمع قبول هؤلاء بدولة ذات نظامين شبه مستقلين في الشمال والجنوب، قبلوا أيضا بحق تقرير المصير لشعب جنوب السودان في استفتاء مقرر نهاية الفترة الانتقالية ومدتها ستة سنوات. وعوّلت الاتفاقية على أن يعمل طرفا المعادلة (المؤتمر الوطني والحركة الشعبية) على جعل وحدة السودان جاذبة لشعب الجنوب عن طريق تحسين المؤسسات، والأنظمة التي أنشئت بموجب ذلك الاتفاق. نفرة الوحدة يقول منتقدو الاتفاقية إن الطرفين اختزلا الشعب السوداني في كامل أقاليمه، واعتبروا الشمال كتلة واحدة في مقابلة الجنوب، ولم يستشيروا المواطنين، كما لم يستفتوهم في مسألة حق تقرير المصير. في حين أن حجة السلطة في عدم استشارة المواطنين هي أن المعارضة موافقة على حق تقرير المصير، حسب مؤتمر القضايا المصيرية في اسمرا عام 1995. والآن بعد انقضاء الفترة الانتقالية، هل طرأ ما يجعل الوحدة جاذبة؟ كانت الانتخابات الأخيرة (ابريل الماضي) نقطة فارقة في الاتجاه نحو الاستفتاء الذي رفض قادة الحركة الشعبية، وعلى رأسهم زعيمها سلفا كير، تأجيله ولو ليوم واحد. كما أن الفريقين (الوطني والحركة) قبلا نتيجة الانتخابات على علاتها. لكن الرئيس عمر البشير فجر المستتر أمام شورى حزبه مؤخرا، معترفا بأن الجنوب لم تجر فيه انتخابات، وأن تجاوزات كثيرة حصلت مثل التلاعب بعدد المقترعين وحالات الترهيب وغيرها. وقال البشير إنهم قبلوا نتائج الانتخابات في الجنوب لتجنب المشاكل ولضمان تنفيذ بقية بنود اتفاقية السلام، محذرا من أن حزبه لن يقبل تكرار هذه التجاوزات في الاستفتاء، «..وإلا سنعمد الى تجميده»! وتجميد الاستفتاء هو ما تخشاه النخبة الجنوبية المتطرفة والمهرولة نحو الانفصال. ورغم ذلك، تمنى البشير أن تحدث «معجزة» في الفترة المتبقية. وأعلن «نفرة الوحدة» لاستمالة قلوب الجنوبيين وإقناعهم بالتنازل عن وزارة النفط وإعطاء الحركة حق الإشراف على إنتاج البترول وتصديره وتقسيم عوائده. إنقاذ الوحدة الحركة الشعبية من جانبها تقول إن الوقت قد فات على إمكانية جعل الوحدة «جاذبة»، وتؤكد أن معظم الجنوبيين سيصوتون لمصلحة الانفصال. وأظهرت الانتخابات الأخيرة انكفاء الحركة نحو الجنوب. وما جرى من مقاطعتها للانتخابات في الشمال يؤكد ما ذهبنا إليه في موضوع سابق، بأن الحركة ليست مستعدة للتعامل مع أي لاعب آخر على الساحة السياسية غير شريكها المؤتمر الوطني. ضربة البداية الاندفاع نحو الانفصال من جانب الحركة تعبر عنه مجموعة «شباب من أجل الانفصال» في جوبا في التاسع من كل شهر. وكان الأمين العام للمجلس التشريعي في الجنوب، بيتر غباندي، دعا الأسبوع الماضي نواب البرلمان والموظفين والقطاعات المختلفة للتبشير بمزايا الانفصال، مما اعتبره القيادي في الحركة، توماس واني، بأنه ضربة البداية والصفارة الأولى لنفرة الانفصال. وبحسب نائب رئيس البرلمان عن الحركة الشعبية، أتيم غارانغ، فان «نفرة الانفصال» التي قام بها الشباب الجنوبي تقابل «نفرة الوحدة» التي دعا لها الرئيس البشير. وحمل تنظيم «منبر السلام العادل»، الذي يتزعمه الطيب مصطفى، وزير الدولة الأسبق في وزارة الإعلام والاتصالات، وخال الرئيس البشير، مسؤولية تنامي المطالبة بالانفصال لدى الجنوبيين. وكانت مسيرة شباب الجنوب تزامنت مع لقاء سلفا كير ونائب الرئيس الأميركي جو بايدن في نيروبي. وكانت نتيجة اللقاء أن وعد بايدن بتهيئة دول الجوار الإقليمي لتقبل وجود دولة جديدة في المنطقة حال الانفصال. الغطاء الدولي ولم تكتف الحركة الشعبية بالعرض السخي الذي قدمه بايدن، بل سعت الى {غطاء دولي}، فبعثت بوفد رفيع الى نيويورك برئاسة باقان آموم، الذي أكد الحصول على وعد من مندوبي بريطانيا وفرنسا بالاعتراف بدولة الجنوب حال ولادتها. الجدير ذكره هنا أن معظم دول القارة الأفريقية (باستثناء أوغندا) تعارض فكرة انفصال الجنوب، تخوفا من انفجار أوضاعها من الداخل. وكان الإرث الإفريقي منذ تأسيس منظمة الوحدة الأفريقية وحتى إنشاء الاتحاد الأفريقي- هو معارضة المساس بالحدود الموروثة من الاستعمار. وشذت عن ذلك الحالة الاريترية. مجلس الأمن أعرب عن قلقه لضيق الوقت المتبقي للاستفتاء في الجنوب ومنطقة آبيي وما يتطلب ذلك من عمل طويل وشاق في مواضيع تتعلق بالاستفتاء، مثل ترسيم الحدود. وأكد المجلس ضرورة أن يكون الاستفتاء في موعده، وتكون نتائجه موثوقا بها. هكذا يبدو الوضع السوداني من الداخل والخارج، بانتظار الاستفتاء. فمصير البلاد الذي بات معلقا بين السماء والأرض، كالمسافرين على متن طائرة تعرضت لعطل فني، فلا يدرون أن كانت ستنجو بمعجزة، أم تواجه مصيرها المحتوم. الخرطوم الطيب إكليل