++ جاءت هذه المقابلة مع الدكتور مضوي الترابي، لتنتزعه من صمت امتدّ لقرابة عامين، ظل خلالها الكثير من متابعيه يرجون الفتى النحيل.. لم يكن هؤلاء يدرون أن مضوي بمثلما يريد أن يهمس بالحقيقة في أرجائها كما اعتاد؛ بلا رداء أو لباس، يحب أيضا أن لا تخرج منه طلقة طائشة ويفضّل عليها صمت السنين.. جال معنا الرجل في ثنايا هذا الحوار في أحوال بلاد متلاحقة الأزمات؛ مضى هينا في ملامسة الجرح، مثل طبيب يشقّ بمبضعه موضع الألم، وأرعبنا بواقع اجترار التجارب الذي لازم حالتنا السياسية.. الحوار مع شخصية مثل مضوي الترابي تحتاج للكثير من التركيز لكي تحتوي إجاباته العميقة.. الرجل بحنكة معرفية يتسم بها، يعيد تركيب المكعبات المتناثرة هنا وهناك.. حسناً، السوانح القصيرة أيضا تكفيها إجابات وإن قلت كلماتها وزادت مدلولاتها إلى أعلى سقف تحتمله المعاني، ومهما يكن من قول فإن ابن الجزيرة الخضراء قد أجاب علينا كأنما لم يجب من قبل عن سؤال.. من جانبنا فقد ألححنا عليه حتى أشفقنا على قلبه المفجوع، فبادلنا الشفقة على وطن، بل على مبكى بلا دموع. * غياب كبير للدكتور مضوي عن الساحة السياسية والاجتماعية في البلاد، ماذا تفعل خلف الكواليس؟ - منذ سبتمبر 2010، أراد لي الله أن أبتلى بمجموعة من الأمراض، منها ما كان مقعداً لحركتي ونشاطي المعروف. (كالإنزلاق الغضروفي في فقرات الظهر القطنية، الذي شعرت به في قطر أثناء عودتي للخرطوم عبر الدوحة لزيارة شقيقي الدكتور النور، الأمر الذي ألزمني السرير الأبيض في مؤسسة حمد الطبية في قطر لمدة شهر، عدت منها لبريطانيا حيث واصلت العلاج لعدة أشهر في لندن، حتى استعدت جزءا من عافيتي ونشاطي، ولكن بحذر شديد، قللت فيها من السفر الداخلي والخارجي، وساعات جلوسي في الاجتماعات وأمام الحاسوب. وما زلت أخضع لعلاج طبيعي مطول، وأحمد الله استرددت عافيتي شيئا فشيئا. ومنها ما كان مهددا للحياة، ففي العام الماضي 2013، أثناء عودتي للسودان في الصيف من أحد المؤتمرات الدولية في كينيا، تم اكتشاف خلايا خبيثة تحت حلمة الثدي الأيمن (كارسنوما) وهو نوع من الخلايا السرطانية النادرة جدا (واحد في المليون) عدت بعدها وبسرعة لبريطانيا حيث أجريت لي جراحة، وجلسات إشعاع نووي نسبة لعدم الحاجة للعلاج الكيماوي حيث أن سرعة اكتشاف الإصابة أسهمت في عدم انتشار الخلايا في الغدد الليمفاوية ونموها المحدود (أكثر من سنتيمتر واحد قليلا في منطقة الزند الأيمن). خضعت بعضها لعلاج هرموني مطول، وأنا بحمده تعالى معافى تماما الآن من هذه الإصابة ولكن الحيطة والحذر بعد فضل الله ولطفه واجبة، ونصحني الفريق الطبي في مستشفيات الامبريال كولدج اللندني أن أبتعد عن الجهد العصبي والتوتر فكلاهما من العناصر التي تعمق وتزيد من احتمالات الاصابة بالأورام الخبيثة، (لكنهم لم يصفوا لى دواءً للتخلص من التوتر). * إذن أنت غائب بارادتك لا بفعل فاعل؟ - بعدت بنفسي قليلا من مسببات التوتر كما نصحني الأطباء، وبالتالي غيبني المرض ولم يكن هنالك فاعل غيره. ولأشقائي في التيار الاتحادي العريض، والأصدقاء في العمل العام أعلن عبركم بأن الله قد من علي بالشفاء وسأكون على الركاب كما هو دأبي خلال الأربعة عقود الماضية بنهاية هذا الشهر بإذنه تعالى، ومن عاش خيالا طول حياته سيقتله السير راجلا قبل المرض إن ابتعد عن ركابه وجواده. * التنقل بين مدن العالم الأول في هذه الظروف والنأي عن الوطن يحسبه البعض ترفا..؟ - "الما عارف يقول عدس".. لا أجد أبلغ من هذا المثل رغم صراحته المستفزة إجابة على سؤالك. مع ثورة الاتصالات هذه (التي ألغت المكان تماما) كيف تستطيع أن تنأى أو تغيب عن الوطن؟. وما الفرق بين أن تكون في ود الترابي أو لندن أو آلاسكا. ولو ما مصدق أسال صديقي د. البوني في اللعوتة ريفي المسيد. وله التحية من على البعد القريب. * بحكم ما تملكه من قدرات على الاستقراء، كيف تري الأوضاع الآن بالبلاد بصفتك خبيرا في هذا المجال؟ - عندما أقارن واستعرض الوضع خلال الأربعين سنة الماضية لا أجد وضعا مأزوما وخطرا يمكن أن يعصف بوجود الدولة نفسها وبتماسكها كما أراه الآن. وأعتقد أن العقلاء والواقعيين من أهل الحكم واصلون لمثل هذه الرؤيا. ولكن الإنسان بطبعه ميال لسماع ما يحب، وأحيانا يسود التفكير الرغبوي ويطغى على صوت العقل، ولأهل الحكم (في معظمهم) عقل جمعي يزايد على بعضه بحكم النشأة والتكوين في كنف التنظيمات السردابية، (وهي سمة ملازمة للتنظيمات العقائدية كلها). وأخشى أيضا أن معظمهم ومعهم أيضا بعض عناصر المعارضة التقليدية لا يرون أن في نهاية هذا النفق هوة سحيقة لا قرار لها، أو ثقبا أسود في النظام الكوكبي للسياسة، لابد أن يسرع الكل بتدارك الأمر. * الحوار الوطني تتقاسمه الآن ظنون الفشل والنجاح برأيك هل يمكن أن يحل المشكل الداخلي..؟ كيف تنظر لاستمراره أو توقفه..؟ - السياسة هي علم البدائل، والحوار ضرورة من ضرورات إيجاد البدائل إن توفرت له المقومات الصادقة والموضوعية، أرى أجندة بها قدر من الوضوح ولكني لا أرى منهجا متفقا عليه يقود على ما يود الفرقاء الوصول اليه بالحوار. تجربة الوطني مع فرقائه ومتواليه عمقت عدم الثقة في نخبة (التمكين) الحاكمة، هي تود أن تعطي المعارضين غرفة مفروشة في دار رحبة هم شركاء في ملكيتها محتفظين لأنفسهم بعداد الكهرباء ولوحة المفاتيح ومضخة المياه و(البلف) في الجانب الآخر من الدار. وهذا لن يؤدي إلى شيء سوى إعادة إنتاج الأزمة في ظل متغيرات إقليمية ودولية بدأت في الاصطفاف، وبدأت سحبها الداكنة في التشكل منذرة بعواصف هوجاء في الإقليم والمنطقة، ومجال المناورة أصبح محدودا. 43 اتفاقية وحوار مع حاملي السلاح وغير حامليه لم تنتج سلاما ولا استقرارا، وأصبحت الحرب الكبيرة تولد ثلاث حروب جديدة والأزمة السياسية تنتج أعاصير سياسية تؤذي البصر، وتدمر أزاهير ما زرع. مكتبي السابق (مجلس أحزاب الوحدة الوطنية) كان من أشرف وأعد أوراق وأجندة ومنهاج مؤتمر الكنانة. كان جهدا مضنيا للنخبة السياسية والأكاديميا السودانية (راجعوا الوثائق)، لكنه انتهي إلى حملة علاقات عامة ومحبس تنفيس فوق مرجل الحراك السياسي. كنت أنتظر أن تنشئ المرحلة اللاحقة في هيكلة الدولة والحكم جهازا للمتابعة برئاسة الجمهورية لمتابعة تنفيذ ما يتفق عليه سياسيا مع الرئيس وإبعاده ما أمكن من أهواء الغرض والسياسة في كواليس الكوادر الوسيطة في المؤتمر الوطني المنتفعة من الفراغ، والبيروقراطية العاجزة المرتبكة اللوائح في جهاز الدولة. أرى عقبات كبيرة ومتاريس أمام عجلة الحوار الوطني، وقد لا يتم التوافق حتى على بدئه، وأرى أن الإطار ما زال تقليديا، وأننا ما زلنا أسيري ثنائيتنا الحادة في المخيلة الجمعية، بين الخيانة والوطنية، وبين الكفر والإيمان، وبين الحوار وتفكيك النظام، وكل يغني على ليلاه. هذا على المستوى الرأسي، أما على المستوى الأفقي فأرى أن الشباب بدأوا في تجاوز قياداتهم (جيل أكتوبر 1964) في كل الأحزاب، وعما قريب سيفرضون واقعا جديدا من الصعب التنبؤ بمآلاته، وانا معهم دون تحفظ فقد آن لجيلنا نحن (جيل شعبان 73، ومن هم بعدنا جيل الانتفاضة 1985) أن يترجلوا ليستقيم ناموس الحياة. * ما هو آخر اتصال لك مع الحكومة من خلال نشاطك الوطني؟ وأين ظهرت بصمتك في العملية الوطنية وآخر إسهاماتك فيها..؟ - عندما اشترك الحزب في حكومة البرنامج الوطني (بعد مبادرة الشريف زين العابدين الهندي) في 2001، لم أشترك كما لم يشترك زميلي الشريف صديق الهندي في أي جهاز في الدولة، رغم أني كنت من صاغ الورقة الإطارية لاتفاقية دمشق 1997، ومن صاغ أيضا الورقة الإطارية لحكومة البرنامج الوطني 2001، وكنا نتمنى التريث لصياغة وعد مربوط بعهد مع أهل الحكم. ولكن زملاء لنا اشتركوا وبكلفتة شديدة مع الوطني، وكلهم ما عدا د. أحمد بلال كانوا من المعترضين على المبادرة جملة وتفصيلا. وكانت النتيجة تأجير لافتة الحزب الاتحادي للمؤتمر الوطني كاللافتات التي تؤجر على جدران المولات الكبيرة. من 2003 بعد مؤتمر الحزب – (الذي زيفت فيه إرادة جماهير الحزب، وتم تزييف دستوره وقدمت ورقة معيبة جدا بدلا من الدستور المتفق عليه) تفرغت للإسهام في تنظيم الحزب وإصلاح الدمار، ولم يكن لذلك الجهد أن يصيب النجاح في شيء لأنه صادف إنفاذ سياسة شرذمة الأحزاب وتقسيمها أو اختطافها، وبعد اتفاقية السلام 2005، اشتركت في حصة الحزب التي هي جزء من حصة الأحزاب الشمالية (14%) في المجلس الوطني، في لجنة الأمن والدفاع لإعادة صياغة قوانين الأمن والشرطة والقوات المسلحة لتتواءم مع الدستور الانتقالي ووثيقة الحقوق الأساسية التي كنت وما زلت أعتقد بأنها من أحسن الوثائق في دساتير المنطقة العربية والأفريقية وبعض دول العالم الحر. النجاح هنا كان نسبيا لأن شريكي السلام كان لهم في البرلمان 80%، تكفي لتعطيل أي مشروع وإجازة أي مشروع قانون حتى المواد التي تحميها الدساتير الجامدة. إضافة إلى المشاركة الفاعلة عبر لجان البرلمان، ومجلس أحزاب الوحدة الوطنية الذي استطعنا أن ندمج فيه جهد الأكاديمية السودانية وجهد أهل السياسة لتعديل 76 قانونا لتتواءم مع الدستور الانتقالي من 182 كنا نرى ضرورة تعديلها أو إعادة صياغتها، ولكن كان للأغلبية البرلمانية لشريكي السلام والصفقات الآنية بينهم، والمماحكات الأثر في تعطيل الكثير من عمل البرلمان. والهدف الاستراتيجي لي ولبعض أشقائنا في الحزب وقوى مستنيرة أخرى كثيرة في البرلمان حتى داخل المؤتمر الوطني من المشاركة كان هو العمل على تحقيق أهداف اتفاقية السلام الشامل عبر إنهاء الحرب المنهكة، وتعزيز ثقافة السلام والتعايش، والعمل الجاد للوحدة الطوعية الجاذبة، بالإضافة لإكمال عملية التحول الديمقراطي. لكن للأسف كانت النتيجة أن الحرب الواحدة صارت ثلاث حروب جديدة، وبدلا من تعزيز ثقافة السلام تعززت ثقافة الحرب والتناحر، وتحقيق الوحدة انتهى بانشطار الدولة لدولتين. وقطع الطريق على التحول الديمقراطي بتزوير انتخابات 2010، في جميع مراحلها بصورة ليس فيها فطنة أو كياسة، ولم يحترم من قام بهذا العمل فطنة وذكاء القوى السياسية الأخرى، الأمر الذي دفع بي وبأخي الشريف الصديق الهندي، وأغلبية ناشطي الحزب، لأن نعقد مؤتمرا صحفيا في نادي الخريجين أعلنا فيه هذا الأمر وأعلنا فيه أن المبادرة وإعلان دمشق قد تم قبره نهائيا بما تم، وولد تيار الإصلاح في الحزب الاتحادي الديمقراطي في ذلك اليوم ليكمل مشاوير مؤتمرات الإسكندرية الأول 1992 والثاني 1993 وتطور التيار ليصبح مع كل قوى الإصلاح الاتحادية الأخرى (الحركة الاتحادية). لكن عطائي وواجبي الوطني لم يقف وهو غير مرتبط بوجودي أو عدمه داخل جهاز الدولة، لدي عمل كثيف مع منظمات دولية، مع مراكز بحوث إقليمية ووطنية وعربية، ومع الإعلام الإقليمي والعالمي، بحيث أخدم معتقداتي في الأجندة الوطنية لبناء دولة ديمقراطية مدنية منفتحة مستقرة تسود فيها قيم العدالة الاجتماعية وسيادة القانون. اليوم التالي