بات انفصال الجنوب والبحث عن الذهب حديث الساعة عند السودانيين في مقاهي الخرطوم. وفي مقهى «بابا كوستا» يجتمع سودانيون من أطياف مختلفة، لتجاذب أطراف الحديث ومشاهدة ما يعرضه الفنانون من لوحات تحمل بصمات إفريقية، وقد عادت الحياة إلى هذا المقهى منذ ،2005 بعد أن وقعت اتفاقية السلام بين الحكومة المركزية وحركة التمرد في الجنوب. ويحيي مطربون شماليون وجنوبيون حفلات غنائية، في محاولة للمّ الشمل بين الفرقاء وزرع بذور وحدة يبدو أنها بعيدة المنال. وبانفصال الجنوب سينقطع مورد الطاقة الرئيس للبلاد، لكن البديل، بالنسبة للبعض، سيكون في أقصى الشمال، حيث توجد «مناجم الذهب» التي باتت تغري الكثيرين. يعيش شمال شرق السودان حمى البحث عن الذهب منذ سنوات، حيث يقطع آلاف السودانيين من الخرطوم والمدن الأخرى مئات الأميال للوصول إلى صحراء النوبة، بحثاً عن المعدن النفيس. ويقول الباحث في علم الجيولوجيا عماد الدين، إن «بلادنا مشهورة بهذا المعدن النفيس منذ زمن الفراعنة. أتذكر كتبي خلال فترة الدراسة، والسؤال حول غزو محمد علي، مؤسس مصر الحديثة، للسودان، والجواب أن الغزو كان بهدف أخذ الرجال والذهب معاً». ويوضح أن «السودان يقع على الحزام الجيولوجي العربي - النوبي، الذي يمتد بين السودان ومصر وإثيوبيا، ويعتبر شريان مادة الكوارتز التي تحتوي على الذهب». تزايد البحث عن الذهب خلال الأزمة الاقتصادية، وتضاعف سعر المعدن الثمين، وفي ذلك يقول عماد الدين، إن المشهد أقرب إلى أفلام رعاة البقر الأميركية، إلا أن سعيد، الذي يملك محلا للمجوهرات، يقول إن عدد الأشخاص الذين يأتون إليه بغرض بيع الذهب تضاءل في الآونة الأخيرة، مشككاً في وجود الذهب بكميات كبيرة في صحراء النوبة. إلا أن رجلاً آخر كان جالساً في المقهى، برر تراجع البيع في الخرطوم إلى التهريب، ويعتقد أن كميات كبيرة يتم تهريبها إلى مصر والخليج. ويضيف «رسمياً بلغ الانتاج 20 طناً هذا العام، وعلى الأرجح أن الكمية نفسها هربت إلى الخارج». ذهب الصحراء من أجل قطع الشك باليقين قرر صاحب محل المجوهرات، سعيد، أن يذهب بنفسه إلى صحراء النوبة ليرى بعينه كميات الذهب المستخرجة من باطن الأرض. ووافق على أن يصطحب مراسل صحيفة «لوفيغارو» معه بمعية شخصين آخرين. وعندما وصل فريق الاستكشاف إلى المكان المنشود، التقى مجموعة من المنقبين، يستخدمون أجهزة الكشف عن المعادن، منهمكين في البحث عن الذهب. ومن بين هؤلاء، المهندس أحمد، الذي كان يعمل في السعودية، وقرر العودة إلى وطنه بعد أن سمع بوجود الذهب في هذه المنطقة. ويأتي أحمد باستمرار إلى المنطقة، مؤكداً أنه عثر في إحدى المرات على كتلة ذهبية تزن 30 غراماً، تساوي قيمتها 1300 دولار. ويمارس هؤلاء عملهم باستخدام وسائل بدائية في حفر آبار يصل عمقها إلى 70 متراً. ويواجه الباحثون عن الذهب ظروفا قاسية في قلب الصحراء. ويجري البحث بطريقة منظمة، إلى حد ما، حيث ينقسم الباحثون إلى مجموعات تقوم الأولى بالحفر في الوديان الوعرة، وتتولى الثانية الإمداد بالماء، في حين تتأهب مجموعة أخرى لاستبدال العمال المنهكين. ويعتبر الحفر في الصخور المليئة بالمعدن مهمة شاقة وخطرة. وعند حلول الظلام وصل فريق الاستكشاف إلى «جبل الذهب السحري»، الذي شهد بداية البحث عن الذهب، قبل ثلاث سنوات. وفي سفح الجبل نصبت نحو 10 خيام تؤوي كل واحدة منها 10 أشخاص، على الأكثر. ويقول محمد عثمان، الذي قدم من الخرطوم، إن مهنة التنقيب عن الذهب توفر مصدرا للرزق له ولعائلته. ويحفر محمد وغيره من الحفارين، آباراً تصل إلى عمق 70 متراً يتم الوصول إلى قاعها بوساطة حبال سميكة. ويقول محمد: «في العمق ينخفض الضغط بحيث لا أستطيع البقاء في الأسفل طويلاً، ويصعد الواحد منا إلى عمق 40 متراً، ليتنفس قليلاً ويحل شخص آخر مكانه». مدينة دون اسم يتكتم المنقبون عن كميات الذهب التي يجدونها، ويحملونها إلى المدينة لبيعها، ومع تزايد الحركة في الصحراء نشأت مدينة صغيرة، لا تحمل اسما لحد الآن. وهي أشبه بمدن رعاة البقر في الغرب الأميركي، ويوجد في المدينة عدد كبير من الخيام والبيوت العشوائية، تتخللها ممرات عديدة. وفي حي من أحياء المدينة العشوائية، توجد معامل بدائية يتم فيها فصل الذهب عن الشوائب والصخور. ويقول صادق آدم سليمان (33 عاماً): «مجموعتنا تتألف من ستة أشخاص، وجئنا جميعا من ولاية الجزيرة، يذهب البعض للحفر، ويعمل الباقون هنا». ويضيف «نحن أصدقاء ونقتسم ما نحصل عليه بالتساوي». وترك هؤلاء الباحثون عن الذهب مهنهم الأصلية، بحثا عن المعدن الأصفر. ويروي صادق «كنت مزارعاً ولكن الأرض تعطي أحيانا وتمتنع أحيانا أخرى، أما الذهب ففيه الفائدة باستمرار». ويضيف «يمكن أن نجد ستة غرامات من الذهب في كيس من الرمل يزن كيلوغرامين». وعلى الرغم من أنه لم يفصح عن أرقام، إلا أن صادق أخبر فريق الاستكشاف أنه استطاع أن يبني منزلاً في بلدته، خلال عامين، واشترى سيارة، فضلا عن المستوى المعيشي الذي تحسن بالنسبة لعائلته. وتتم معالجة الرمل المحمل في الأكياس في أحواض مائية صغيرة، ويتم عزل المعادن التي تحتوي على الذهب في الغالب. ويتقاضى العمال الذين يقومون بغسل الرمل واستخراج الذهب أجورهم حسب كمية الكتل المعدنية التي يعالجونها. ويستخدم الزئبق لغسل الكتل للكشف عن الذهب. مجتمع منظم يصطف تجار الذهب الخام في أحد أحياء المدينة، وبحوزة كل منهم خزنة، وميزان الكتروني ملفوف داخل كيس بلاستيكي لحمايته من ذرات الرمل المتطايرة، التي قد تربك وزن الكتل الذهبية. ومن بين التجار الذين التقى بهم الفريق، ناصر (26 عاماً)، الذي حصل على كتلة كبيرة، من أحد المنقبين. ويقول الشاب الذي ترك مقاعد الدراسة، إنه التحق بالباحثين عن الذهب قبل فترة، حيث بدأ حفاراً لينتهي به المطاف تاجراً، يشتري ما يحصل عليه المنقبون. وكان ناصر يتفحص كتلة صفراء تزن 17.4 غراماً، حسب العداد الالكتروني، وتبلغ قيمة الكتلة 780 دولاراً. وتمتم سعيد (صاحب محل المجوهرات) أنه ذهب خالص 24 قيراطاً»، إلا أن نقاء الكتلة الصفراء لم تُثر دهشة ناصر، الذي فتح خزنته وإذا بها كتل ذهبية عديدة بدرجة النقاء نفسه. ويضيف ناصر «أن الوضع آمن هنا، حيث يمكنني أن أترك أموالي أمام أعين الناس ولا أحد يأخذها، نحن مثل العائلة الواحدة». ويذكر هذا السلوك السلمي الرائع بالتناقض الذي يعيشه هذا البلد الذي تتخلله الصراعات المسلحة. ويسود هذا المركز التجاري المترامي في الصحراء نظام اجتماعي يحترمه الجميع، حيث يمنع شرب الكحوليات أو وجود النساء أو امتلاك الأسلحة. ويبدو أن الجميع يتقيد بالقواعد، حيث حلت المساجد مكان الحانات، كما يمكن سماع أصوات تجويد القرآن في الخيام المنصوبة هنا وهناك. وفي المقابل توجد خيمة كبيرة بها شاشة تلفزيون تعرض أفلاماً غربية وهندية وعربية، إضافة إلى أن البعض يذهب إلى هناك لمشاهدة مباريات الدوري الأوروبي. وتوجد في المدينة أيضاً سوق توفر الحاجات الأساسية، وإمكانية الاتصال من خلال مركز للاتصالات، وهو عبارة عن غرفة صغيرة يجري منها الباحثون عن الذهب مكالمات عبر الأقمار الاصطناعية، للتواصل مع عائلاتهم. ويستأجر الشخص سريراً للنوم مقابل أقل من دولار لليلة الواحدة، في وقت بدأت فيه المطاعم تزدهر في المكان، وتتولى شاحنة خاصة تزويد السكان بالمياه الصالحة للشرب. الامارات اليوم