استهل السودان عامه الجديد بإجازة التعديلات الدستورية التي سعت الحكومة لإدخالها على الدستور المؤقت الحالي وهو دستور انتقالي يعيش أخريات أيامه في انتظار الاتفاق على دستور دائم وكان المبرر الذي قدمته الحكومة لهذه العجلة التي استبقت مشروع الدستور الدائم هو الصراعات الداخلية في الحزب الحاكم عندما شرعت قواعده في تحديد مرشحيها لمنصب ولاة الولايات الثمانية عشرة فظهرت التكتلات القبلية والعشائرية على أشدها. الواقع يقول إن الحكومة ما كانت في حاجة لأن تنزعج من تلك الظاهرة فهي تعلم بالممارسة أنها تستطيع أن تعدل وتبدل وتغير في ولاتها المنتخبين كيفما تشاء وبشتى التبريرات ولذلك فقد قلت في مقال سابق إنه بالنسبة للمواطن السوداني سيان أن ينتخب الوالي أو يعين فهو في كل الحالات سيأتي من حزب واحد وسيفقد منصبه متى رأت قيادة الحزب أن يغادر موقعه وسيأتي البديل بتعيين مباشر من رئاسة الجمهورية! لكن الحزب الحاكم اتخذ هذه الحجة كمجرد مبرر لصياغة دستور جديد عبر إدخال تعديلات نوعية أراد بها أن يزيد حكمه (تمكينا). على أن التعديلات التي أجيزت كانت أبعد كثيراً من مسألة تعيين الولاة وطالت قضايا أخرى كلها في نهاية المطاف تهدف لتقوية قبضة المركز السلطوية وتضعف بصورة كبيرة قواعد الحكم الراشد وتجهض الحكم الاتحادي الفيدرالي الذي أرست قواعده الأساسية اتفاقية السلام الشامل ونظرت إليه الاتفاقية كآلية لحل النزاعات والقضاء على المظالم التي ظلت تشكو منها أقاليم السودان المختلفة وكانت شكاوى الأقاليم من ضعف نصيبها في السلطة والثروة المبرر لكثير من الحركات الاحتجاجية الطرفية التي تطورت إلى نزاعات مسلحة في تلك الأقاليم دفعنا ثمنها بانفصال الجنوب وما تزال تهديداتها ماثلة في أقاليم أخرى. التحدي الذي يواجه أي نظام حكم ينشأ في السودان تحت ظروفه الحالية -حتى لو كان نظاما ديمقراطيا حقيقيا- هو كيف يوفق بين التطلعات المشروعة للأقاليم كي تحكم نفسها وأن تطور واقعها دون هيمنة مركزية وحاجة الوطن إلى حكومة مركزية قادرة على تحقيق الوحدة في التنوع وعلى بناء الوحدة الوطنية على أسس توافقية راسخة وعلى عدالة تامة ومشاركة فاعلة تحقق تنمية متوازنة وعدالة اجتماعية، وهذا أمر لا يتحقق بالقهر ولا بالهيمنة فالمطلوب بسط الديمقراطية لا تقليصها وأي حوار وطني جامع ينطلق لا بد أن يبدأ من هذه القاعدة ويدرك أبعاد الطموحات الإقليمية المشروعة ويستجيب لها دون أن يفرط في الوحدة الوطنية بأن يشارك الجميع في صناعة القرار الوطني ولا ينفرد بذلك طرف واحد ولآن الحزب الحاكم لا يريد شيئا من ذلك فهو أراد عبر تلك التعديلات أن يخلق واقعا دستوريا جديداً يلبي رغباته في إكمال سيطرته على كل أجهزة الحكم. التعديلات التي أجيزت قضت تماما على الحكم الاتحادي في السودان رافضة الاعتراف بذاتية الحكومات الولائية إذ كان أول تعديل إلغاء المادة (25أ) التي كانت تنص على الاعتراف (بذاتية الولايات) ونصت التعديلات على شطب جملة (ذاتية الولاية) أو (ذاتية الولايات) أينما وردت في الدستور بهذا يقوض التعديل أساس الحكم الاتحادي ويحوله إلى مجرد حكم محلي داخل دولة مركزية، وما دام الحكم قد عاد مركزيا والولايات قد فقدت ذاتيتها الدستورية فيصبح من الطبيعي أن يكون حاكمها بل كل الأجهزة الولائية تابعة للمركز تعيينا ونقلا وفصلا. ولذلك أنشأ المركز في تعديل آخر (ديوان للحكم الاتحادي) تحت إشراف رئيس الجمهورية يتولى حركة الحكم الاتحادي تنسيقا واتصالا وائتمارا بين الولاة والأجهزة الولائية مع الأجهزة الولائية ومع رئاسة الجمهورية. عدنا إذن إلى مفهوم الحكم المحلي قبل أن ينشأ في السودان حكم اتحادي، فقد كانت هناك مجالس حكم محلي يقودها موظفون يعينهم المركز ويحاسبهم وينقلهم وينهي عملهم وتشرف وزارة الحكم المحلي في الخرطوم على ذلك كله وهذا هو مفهوم ومدلول التعديلات التي أدخلت بالأمس وكان من الطبيعي انسجاما مع عودة الحكم المركزي وتحويل الحكم الاتحادي إلى حكم محلي أن تقوى قبضة السلطة المركزية على الأرض فتمنح التعديلات التي أجيزت بالأمس رئيس الجمهورية السلطة لأن يصدر (من وقت لآخر مراسيم بتحديد الأراضي التي تستغل كأراض استثمارية وكيفية التصرف في العائد من استثمارها وتحديد مستوى الحكم المعني لإدارتها وممارسة الحقوق عليها) دون اعتبار لتقاليد وأعراف حيازة الأرض في شتى الأقاليم. ثم عرجت التعديلات على قواعد أخرى للحكم الراشد حاولت اتفاقية السلام إرساء قواعدها وفي مقدمتها مبدأ الفصل بين السلطات فأنشأت محاكم موازية للهيئة القضائية لكل الأجهزة النظامية وحصنت نشاطها متجاوزة الحق في التقاضي أمام القاضي الطبيعي وعرجت على نص دستوري حدد مجال تفويض جهاز الأمن في جمع المعلومات وتحليلها وتخطيط وسائل التصدي لها كما شاء الدستور المؤقت فأحالتها إلى قوة نظامية ضاربة مسؤولة حصريا أمام رئاسة الجمهورية وهي بذلك تقنن لواقع فرضته منذ أن رفضت الالتزام بالنص الدستوري الوارد في الدستور الانتقالي. نحن لسنا أمام تعديلات طارئة ولكننا أمام دستور جديد تماماً خلقته هذه التعديلات التي لم تحظ حتى بنقاش حقيقي داخل البرلمان الذي يسيطر عليه الحزب فأجيزت التعديلات بأغلبية ميكاينكية دون أدنى حوار في المجلس.? [email protected]