قبل قمة الأحد.. كلوب يتحدث عن تطورات مشكلته مع صلاح    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    مستشار سلفاكير يكشف تفاصيل بشأن زيارة" كباشي"    وفاة "محمد" عبدالفتاح البرهان في تركيا    شاهد بالصورة والفيديو.. فنانة سودانية تحيي حفل غنائي ساهر ب(البجامة) وتعرض نفسها لسخرية الجمهور: (النوعية دي ثقتهم في نفسهم عالية جداً.. ياربي يكونوا هم الصاح ونحنا الغلط؟)    شاهد بالفيديو.. الفنانة شهد أزهري تعود لإشعال مواقع التواصل الاجتماعي بنيولوك جديد وتقدم وصلة رقص مثيرة خلال حفل خاص بالسعودية على أنغام (دقستي ليه يا بليدة)    شاهد بالصور والفيديو.. حسناء سودانية تسخر من الشباب الذين يتعاطون "التمباك" وأصحاب "الكيف" يردون عليها بسخرية أقوى بقطع صورتها وهي تحاول تقليدهم في طريقة وضع "السفة"    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    شاهد بالصورة والفيديو.. (فضحتونا مع المصريين).. رجل سوداني يتعرض لسخرية واسعة داخل مواقع التواصل الاجتماعي بعد ظهوره داخل ركشة "توك توك" بمصر وهو يقلد نباح الكلاب    قائد السلام    واصل تحضيراته في الطائف..منتخبنا يؤدي حصة تدريبية مسائية ويرتاح اليوم    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    عيساوي: البيضة والحجر    دعم القوات المسلحة عبر المقاومة الشعبية وزيادة معسكرات تدريب المستنفرين.. البرهان يلتقى والى سنار المكلف    والي الخرطوم يصدر أمر طواريء رقم (2) بتكوين الخلية الامنية    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة حديثة تعلن بها تفويضها للجيش في إدارة شؤون البلاد: (سوف أسخر كل طاقتي وإمكانياتي وكل ما أملك في خدمة القوات المسلحة)    في اليوم العالمي لكلمات المرور.. 5 نصائح لحماية بيانات شركتك    جبريل: ملاعبنا تحولت إلى مقابر ومعتقلات    الأمن يُداهم أوكار تجار المخدرات في العصافرة بالإسكندرية    موعد مباراة الهلال والنصر في نهائي كأس الملك !    مسؤول أميركي يدعو بكين وموسكو لسيطرة البشر على السلاح النووي    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الخميس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الخميس    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الخميس    السوداني هاني مختار يصل لمائة مساهمة تهديفية    ستغادر للمغرب من جدة والقاهرة وبورتسودان الخميس والجمع    الغرب "يضغط" على الإمارات واحتمال فرض عقوبات عليها    العقاد والمسيح والحب    وزارة الخارجية تنعي السفير عثمان درار    شاهد بالفيديو.. حسناء السوشيال ميديا السودانية "لوشي" تغني أغنية الفنان محمد حماقي و "اللوايشة" يتغزلون فيها ويشبهونها بالممثلة المصرية ياسمين عبد العزيز    «الذكاء الاصطناعي» بصياغة أمريكية إماراتية!    مؤسس باينانس.. الملياردير «سي زي» يدخل التاريخ من بوابة السجن الأمريكي    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    السودان..اعتقال"آدم إسحق"    فينيسيوس يقود ريال مدريد لتعادل ثمين أمام البايرن    الحراك الطلابي الأمريكي    تعويضاً لرجل سبّته امرأة.. 2000 درهم    أنشيلوتي: لا للانتقام.. وهذا رأيي في توخيل    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عبدالرحمن علي طه (1901 - . . . ) المعلم الأول والمثقف العضوي (الحلقة الأولي)
نشر في الراكوبة يوم 12 - 01 - 2015


مدخل
اكتفيت بكتابة عام الميلاد فقط، لست لأنني اجهل سنة وفاته عام 1969 ولكن كان هذا تاريخ الموت الفيزيقي أو الجثماني، فأمثال الأستاذ (عبدالرحمن علي طه) لا تفني أعمارهم لأنها لا تقاس بالسنين الفلكية بل بالإنجاز والتحقق والأفكار التي لا تفني" هزمتك يا موت الفنون جميعها"-كما يقول درويش. فامثاله فعلا يهزمون الموت بفنون فكرهم. وتستشهد ابنته د.(فدوى) في استهلال سفرها عنه، بقول (علي بن أبي طالب): ". . . مات خازنو المال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وآثارهم في القلوب موجودة". ( فدوي عبدالرحمن، استاذ الاجيال،الخرطوم، 2004: 5) . وكثيرا ما نردد: "ليس من مات فاستراح بميت وإنما الميت ميت الاحياء". فقد ذهب امثال الاستاذ باجسامهم،وفي الوقت ذاته تمتلئ البلاد الآن بالرجال الجوف، حسب (اليوت)أو فصائل من قبائل ما نسميه"الهمبول". أو كما قال عنهم شاعر الشايقية-حسونة: يمشن القمصان بلا ناس. فالاستاذ في سجل الخالدين، وكن يخشي الكثيرون تذكره وذاكراه لأنه ينبههم بموتهم أحياء.
كنت غارقا في محاضر مؤتمر الخريجين، والتي وثّقها-مشكورا- الباحث المثابر د. معتصم أحمد الحاج. فقد شرعت في تحليل مضمون هذه المحاضر بمناسبة ذكرى الاستقلال الأول لمعرفة كيف كان يفكر "آباء الاستقلال" ؟وما هي الإيديولوجية أو الإيديولوجيات التي تجمعهم أوتفرقهم؟وما الذي كان يشغل بالهم أثناء الاجتماعات وماهي أولوياتهم؟وما هو النتاج الفكري لتلك الحقبة كما تعكسه القضايا المثارة في الاجتماعات؟ وقد صعقت من مضمون تلك المحاضر التي رمتني في حزن بلا حدود. ولكن كتاب الأخ د. فيصل عبدالرحمن علي طه:"من أوراق عبدالرحمن علي طه – في التعليم والسياسة 1901-1969م"، أخرجني سريعا من مناخات الخيبة والحزن. فهناك خريجون من طراز آخر، جديرون بالاحترام والإجلال. فأمثال الأستاذ يقدمون صورة مختلفة للعمل الوطني الصادق والجاد والقومي حقيقة، بعيدا عن الأضواء والضجيج.
لكل أمة الحق في اختيار معلمها الأول بمقدار ما أسدي لها من فضل في العلم، والمعرفة، والأخلاق، والحكمة. لذلك، للعرب الحق في أن تري في (أرسطو) المعلم الأول، ولنا الحق نحن كسودانيين أن نري في الأستاذ (عبدالرحمن علي طه) المعلم الأول في وطنه. فهو لم يكن معلما بمعني مدرس أو خوجة، بل هو صاحب رؤية في التعليم الحديث، وفي التربية الديمقراطية والأخلاقية، وفي التنمية الريفية، والنهضة والتقدم. وقد شبهه العالم (التيجاني الماحي) بأبي نصر الفارابي في محاولته صنع المدينة الفاضلة، قائلا: "..لقد كان متسائلامن نعم الله وآلائه لهذا الوطن الكريم، فالحمد والشكر له علي ما وهب وما استرد". (فدوى، ص7) .
المربي الإنسان أو دفع الافتراء
مارست الانتلجنسيا السودانية رياضتها الاجتماعية الماسخة والمفضلة، في أن تعز من تشاء وتهمل من تشاء بغير حساب. وهي تمارسها دوما علي عظماء يرفضون نهحها المعوج ويختلفلون عنها في أصالة وإبداع، ويتمردون علي سلوكياتها الهابطة. ولأن الأستاذ (عبدالرحمن علي طه) لم يكن أم درمانيا، ولا من الهاشماب، ولا أبروفي، وظل قرويا ريفيا نقيا يتنقل بين بخت الرضا وأربجي. ولم يشترك في مؤسسات العاصمة من جمعات قراءة أو مجلات النهضة أو الفجر.واكتفي من مؤتمر الخريجين بالمشاركة في المهرجان الأدبي في (مدني)،دون الولوج في صراعات الديكة حول اللجان. ولكنه لم يكن متلجلجا وكان خياره واضحا، ولم تجذبه الزمرة الغالبة المتناقضة في سلوكها و فكرها، والتي كان (المحجوب) يصف لياليها وأزمنتها المتخيلة متسائلا : " أتلك ليلة في مجلس الرشيد أم تلك نفحة من نفحات العصر العباسي، حيث ترقص الحور العين ويطوف الولدان المخلدون. وكنت استغرب كيف يجمع أؤلئك القوم بين المجون وتدبير أمر الدولة ولانقطاع إلي العبادة". (موت دنيا، بدون تاريخ، ص20) . ولقد أصاب (حسن نجيلة) حين سمي تلك الحياة : (بين الجد واللهو) وأفرد لها ست حلقات في كتابه (ملامح من المجتمع السوداني) (من صفحة 149 حتي صفحة 196) أو هي:
يقظة نفسية خمدت هل سيحيا ذلك الرمق؟
ولم يعش الاستاذ مثل أجواء:
ياجميل يانور الشقايق أملأ كأسك واصبر دقايق
مجلسك مفهوم شوفو رايق عقده ناقص زول ولا تام؟
لم تجذبه ليالي الافندية الحمراء –وكان الأزرق الداكن الأنسب لوصفها- ولم يكن يملك ظُرف الافندية المطاميس ليكون "فلفل قعدات" أو يحوز علي رتبة مارشال، ولم يغن معهم: "نسكر نغيب من دلهُ من حسن الحبيب"ولا نادي: "إئتني بالصبوح يابهجة الروح ترحني إن كان في الكأس باق". ولم يردد معهم الدكاكينيات في ختام القعدات: "ياأستاذ بالقزاز ياستاذ والبيجينا نديهو عكاز". وذلك لأنه كان استاذا نهاريا مستنيرا حقيقيا. يقول عنه (عبدالله الحسن) : " كان لايري متنقلا في قرية العلم بخت الرضا إلا وهو متأبطا ملفا من الأوراق أو مرجعا من المراجع، وكان لا يُري جالسا إلا وهو منكب علي عمل يكتب أو يناقش مع رئيسه أو مرؤوسيه شأنا من شؤون التربية والتعليم". (فدوى، ص77) .
كان ذلك المعلم الأول، إنسانا يفيض بالحب للعمل والناس، وهذا سر نجاحه وصعوده ورقيه،صناعته الحب والعمل. ولم تكن (بخت الرضا) بالنسبة له مجرد مؤسسة بها موظفون ومباني، بل قطعة من روحه وقلبه وعقله. ففي مناسبة العيد الفضي، نطالع ما سُمي: تحية الأستاذ (عبدالرحمن علي طه) ، والتي يستهلها بمقدمة عن كيف يجد المرء التنفيس حين يشعر بالضيق؟فيقول عن ذاته: "أما أنا فيكفي في مثل هذه الظروف أن أذكر بخت الرضا، لأن ذكراها تغمرني بقدر من السرور لا سبيل لتصويره، وتجعلني أستقبل الحياة من جديد فأراها مشرقة باسمة لا ضجر فيها ولا ضيق. أذكر يا سيدي السكرتير أني نزلت مع النازلين في تلك الرقعة من الأرض نلتمس البعد المعقول من المدن الصاخبة بالحركة ليتوفر الهدوء، فنتوافر علي العمل المنتج". (أوراق. . ، ص174) . ويختم بمقاطع العشق الصادق، قائلا: " فإني عندما تقسو الحياة أوتجفو، ألتمس الخلاص من ضيق الحياة وقسوتها في ذكرى بخت الرضا (. . . ) والذي يزيد من فخري حتي ليكون زهوا، ومن اعجابي حتي ليكون كبرياء، هو ما ألمحه في زيارتي المتباعدة من ابتكار بل من إنشاء، في جوانب كثيرة من حياة المعهد. فسيروا بالمعهد قدما في مدارج الرقي ومعارج الكمال. ثم بعد ذلك فلتضق الحياة ما شاءت أن تضيق، فأنتم ملء سمعي وملء بصري، وحسبي هذا من مسرة باقية، وبهجة غامرة". (أوراق...، ص176) . ويلاحظ أنه يحرص علي دقة الكلمات لأنها دليل علي دقة المشاعر وعمقها. فيقول :الفخر مقابل الزهو، والاعجاب يقابله الكبرياء، والابتكار سقفه الانشاء.
نحن أمام رجل رسالي تحمّل من أجل رسالته الكثير، وهذا ديدن أصحاب الرسالات. تعرض لهجوم شرس فور البدء في مشروعه التنويري التجديدي- بخت الرضا- المنطلق من منصة التعليم والتربية من أجل التغيير والتحديث. ويكتب بنفسه: " وما كدنا نشرع في إصلاح المناهج من استظهار رتيب إلي متعة حافزة، ومن جمود يميت القلب إلي تحلل من القديم القاتل، ومن ركود في الفكر السقيم إلي تفكير مستقيم. ما كدنا نشرع في هذا وفي غير هذا حتي واجهنا بعض الناس بالنقد الهادم". (أوراق...،ص174) ويعدد التهم والافتراءات التي تعمدت وأد المشروع، واغتيال شخصية صاحبه: "قال بعضهم أن الاستعمار اختار تلك البقعة الجرداء النائية لينفذ خطة مرسومة مقدرة ويحقق نية سوء مبيتة". كما قال آخرون: " إن إدخال اللغة الانجليزية في منهج مدرسي المدارس الأولية لم يقصد منه إلا قفل كلية غردون، والاستغناء عمن تخرجهم من كتبة ومحاسبين".
كما سخر بعض الجهلة من قيمة العمل اليدوي وربط اليد والبصر لدي الاطفال، فقالوا: "إن اللعب بالطين والقصب أريد به ضياع الوقت في عبث لا غناء فيه". ولكن يشرح أحد التربويين الحقيقيين فلسفة هذا النشاط والمقرر في مناهج بخت الرضا: " يتطلب التعليم إلي جانب المعلومات النظرية الحصول علي قدر معلوم من الخبرة والدربة علي القيام ببعض الأعمال التي تتطلب مهارة في اليد وقدرة خاصة علي التحكم في بعض الحواس كالنظر واللمس والتنسيق بينهما في انجاز عمل خاص في مستوى مقبول. والغرض من إدخال الأعمال اليدوية في المقررات، هو تدريب الحواس وتقييمها وتهذيبها حتي تتكون عند الطالب الخبرة والمهارة". (سيرة ومسيرة المرحوم الأستاذ سرالختم الخليفة، الخرطوم، 2012ص96) .
ويستمر الاستاذ متابعا فضح جهود المغرضين في تبخيس كل فكرة جديدة له ولرفاقه، فيكتب: " وذهب الكثيرون إلي القول أن كتاب (الجغرافيا المحلية) هو النواة لأقلمة التعليم، وآيتهم في ذلك كلمة محلية الواردة في اسم الكتاب". وبالمناسبة تُرجم كتاب الجغرافية للانجليزية، ونُشر في ديسمبر1939 تحت عنوان (Beginning Geography in Africa and Elsewhere) . وقدم له استاذ الجغرافيا المعروف (جيمس فيرقريف) (J. Fairgrieve) . ويواصل تفنيد ترهات النقد الهادم، قائلا: "وتندر غير هؤلاء بما لا يصلح موضوعا للتندر، فهم يجادلونك في قيمة الفرق التجديدية (الكورسات) وفي قيمة الرحلات المدرسية، لأنها في حسابهم ضياع للوقت وحرمان من الدرس والتحصيل، وهم يؤكدون أن ما يسمعونه من نقاش حر في اجتماعات النادي الزراعي مثلا سيدرب الشباب علي اللجاج والخروج علي التقاليد". (ص4-175) .فهم لم يروا في الكورسات إنعاشا مستمرا لعقول المعلمين،ولا في الرحلات دراسية ميدانية لوطنهم.أمّا الجمعيات والاجتماعات فقد كانت تدريبا عمليا علي الديمقراطية المباشرة،والتمرين علي الحوار والاختلاف وقبول الآخر.ولكن الناقدين يخشون الحرية والتنوع ويدافعون عن الثبات والأمر الواقع.
هذه قدرة عجيبة لدي المغرضين علي أن يحولوا كل فضائل المشروع الجديد ومحاسنه، إلي نقائص وشكوك ومؤامرات محتملمة. ولكن يرد عليهم صاحب الرسالة التربوية بثقة: " ان مثل هذا النقد الذي سُقت أطرافا منه ، لم يثن عزيمة القائمين بالعمل، فمضوا فيما مضوا فيه يصلحون المناهج علي ضوء التجارب العملية، ويضعون الكتب والكتيبات الشارحة، ويستقبلون الفوج بعد الفوج للفرق التجديدية (الكورسات) ، ويضعون النواة لتعليم الكبار، ويهيئون السبل للرحلات المدرسية، ويتفقدون العمل في المدارس للارشاد والتأكد من سلامة التطبيق". (أفردتُ حلقة قادمة لمناقشة تفصيلية عن تجربة بخت الرضا الرائدة) . وعن كثرة الأعداء كتب (بشير محمد سعيد) في إحدي المرات: "حاجة السودان لخدمات عبدالرحمن علي طه تفوق حاجة عبدالرحمن للوظيفة. ولعبدالرحمن خصوم داخل حزبه وخارجه سيبعدونه عن الداخلية". فقد كان مرشحا للوزارة. (الأيام25/3/1958 عن فدوى هامش صفحة321) .
كان المعلم (عبدالرحمن) في تصوره التربوي والفلسفي مزيجا من (غاندي) و (تولستوي) في البدايات، ولكنه تطور ليقف في مصاف المفكر البرازيلي الكبير( باولو فريري)(Paulo Freire) (1921-1997) . ويتقارب مع (جوليوس نايريري) صاحب: "التربية من أجل الاعتماد علي الذات"، ومن (ماري مونتيسوري) مُنظرة: "التعليم من أجل السلام". (وسوف أفصّل في المقارنة في حلقة قادمة) . ففي البداية ، كان بعض من فكر بخت الرضا ، قد جاء به ( قريفث) من الهند حيث عمل هناك لمدة أربع سنوات في كلية (سانت أندروز) . وعمل مع زملاء في السودان تكييف تجربة الهند مع واقع السودان.وحسب ما جاء في نعيه عند وفاته في جريدة التايمز: "أنه ومعه اثنين آخرين اسكوت وعبدالرحمن علي طه كانت لديهم الموهبة الفذة للاهتداء لخير ما يعمل في أسوأ الظروف، إذ قادتهم بصيرتهم إلي برنامج لتدريب المعلمين في بيئة ريفية، مع إصلاح مستمر للمناهج وطرق التدريس، ولذا كانت البداية في عام1934 في أكواخ من الآجر بالقرب من الدويم". (فدوى، استاذ الاجيال. . . ، ص73) .
وقد بيّن (قريفث) في كتابه (تجربة في التعليم) رؤيته وخبرته، حين كتب: "ووجدت نفسي منسجما إلي حد كبير مع جو الرأي العام البريطاني في الرغبة بان يكون التعليم، ولا سيما التعليم القروى الأولي، موجها بشكل أكثر فعالية نحو النشاطات الريفية. كنت قد قضيت ثلاث سنوات ونصف السنة في تعليم المواد الكلاسيكية للطلاب القرويين المتشوقين في كلية هندية. تلك كانت تجربة غير مريحة. لكن الزيارات التي قمت بها إلي شنتينيكثان، بلدة طاغور، وإلي المدرسة الامريكية في اوشاغرام، المبنية علي غرار قرية بنغالية، أوحت لي بامور كثيرة. وكنت آمل أن استفيد مما رأيت". (أورده ناصر السيد، ص146) . ويكتب عنه (محمد عمر بشير) سيرة ذاتية تبين خلفيته وتكوينه التربوييين: " كان يعمل من قبل في الهند، حيث اطلع علي فلسفة غاندي التربوية، التي كانت تؤكد علي الطابع الريفي والقروي للحياة. وشارك هناك في الحركة الكشفية وتأثر بتيار عدم الثقة في الاساليب القديمة التي كانت احدي الخصائص المميزة للفترة التي أعقبت الحرب العالمية الأولي1914-1918". (تطور التعليم في السودان1898-1956،بيروت،دار الثقافة،1970،ص200) . ومن الواضح أن ملهمته كانت الهند بلد ثقافة التأمل والصبر والمثابرة و عشق الجمال. وهنا ىؤكد (محيي الدين صابر) حقده وجهله المتعمد باصل تجربة بخت الرضا، حين يقول أنهم بدأوا في مراجعة "المناهج خاصة تلك المتعلقة بالكتب التي وضعها الانجليز فوجدوا أن معظمها جاء من نيجيريا وتتكلم عن الرق ولا علاقة لها بالواقع السوداني". (فدوى، ص130 عن جريدة الخرطوم15/10/1998) . كما جاء في أول تقرير عن إصلاح التعليم والذي أشرف عليه مستر ج. س. اسكوت، ذكر الهند وليس نيجريا. فقد كتب بأنه كان الفشل في تطوير الهند، يُعزي إلي حد كبير لقيام نظم للتعليم مماثلة للنظم بالسودان. (محمد عمر بشير: تطور التعليم في السودان. بيروت، دار الثقافة، 1970: 189) . وهذا يعني ان (قريفث) كان قد عرف تجربة مشابهة في الهند، ويُقال أنه كان يتردد علي زيارة الهند في العطلات بعد أن تركها ليتابع التجربة مع بعض روادها هناك. وكتب مستر (هودجكن) استاذ التاريخ المعروف، رسالة جاء فيها: "أن بريطانيا بعثت للسودان (استعماريين) معاديين للاستعمار هما: نيوبولد وقريفث". (أكتب من الذاكرة، فقد كانت لدي هذه الاستشهادات التي دونتها من ارشيف السودان من مكتبة درم، ولكن لم تعد أوراقي في متناول يدي بعد هجوم التتار علي مركز الدراسات السودانية نهاية عام2013. )
كان موقفه من الاستقلال قاطع ومبدئي، وهذا سبب ولائه للسيد (عبدالرحمن المهدي) . فهو لم يكن أنصاريا ولا حزب أمة بل كان استقلاليا صرفا. ويحكي قصة أول لقاء لهما، فقد جاء للأستاذ رسول في عام1943 يخبره بأن السيد (عبدالرحمن) بالدويم وسيأتي بعد ساعة لتناول وجبة الفطور معه. وكان ذلك دون سابق معرفة بالإمام، فأكبر الأستاذ هذا التصرف وعظم شخصه في نظره. فهو لم "يستدعيه" أو يطلب منه الحضور ليتحدث معه. وأثناء الجلسة ، قال له الإمام: " إن الشعب السوداني ناصر الإمام المهدي حتي انتصر وحتي انتزع استقلال السودان من الغاصبين. وهذا الشعب أنا مدين له بأشياء كثيرة أهمها نصرته للإمام ولا أدري مكافأة للشعب السوداني غير أن أعمل لاسترداد استقلاله، ولكني أريد رجالا أعول عليهم فهل أعول عليك؟"يقول الاستاذ: " يا مولاي لولا أن المسألة تخرج بي عن حدود الأدب واللباقة لقلت لسيادتك: إن استقلال السودان هو أملي الوحيد في هذه الحياة ولكنني أريد رجالا أعول عليهم فهل أعول عليك؟فضحك رحمه الله ولم يزد بكلمة واحدة. ومنذ ذلك الحين تبايعنا إلي أن أخذه الله إلي رحمته". (أوراق. . . ، ص244) . لاحظ أنه استخدم كلمة( تبايعنا) ولم يقل بايعته. ويورد قصة أخرى تؤكد حرصه مع آخرين لتحديد علاقة الإمام بالحزب، يكتب: " بعد أن إنتهينا من وضع دستور الحزب سأل السيد سرور رملي السيد عبدالرحمن قائلا: نريد يامولاي الإمام أن نعرف موقفك من هذا الحزب؟هل أنت رئيس هذا الحزب أم سكرتيره؟قبل أن نمضي في العمل ولابد أن نتبين الموقف". وجاء رد الإمام: " إني جندي في الصف ولكن الله سبحانه وتعالي وهبني بعض الامكانيات المادية ما لم يتيسر للكثيرين منكم فسأهب هذه الإمكانيات وسأهب صحتي وولدي وكل ما أملك لقضية السودان". (أوراق. . . ، ص244) .
يري (محجوب عمر باشري) أنه بعد الحرب العالمية الأولي، بزغت طبقة الافندية وعلت علي طبقة التجار والمزارعين. فقد تميزت بمستوى معيشة مستقر بسبب المرتبات المنتظمة، ولكنها كانت خاضعة-بالضرورة- لسلطة الحكام، ويقول: "فالحكام لم ينظروا للأفندية إلا آذانا تسمع لهم، وعيونا تنظر لهم وأيدي تعمل لهم، فالأفندية مجردون من الفكر والرأي، يأتمرون بما يأمرهم به المستعمر، وقد فطن لذلك الشيخ عمر إسحق وسيدأحمد الفيل والشيخ أحمد أبودقن وأحمد عثمان القاضي فنبهوا الموظفين لذلك، طالبوهم أن يكون لهم رأي في الحياة السودانية، واستيقظ فكريا في تلك اللحظة جيل جديد قرع له الأجراس السيد حسين شريف، هذا الجيل بدأ بعبدالرحمن علي طه وعوض ساتي والشيخ مصطفي وحسين أحمد عثمان الكد ومكاوي يعقوب. فكان هذا الجيل هو مطلع الوعي الوطني والفكري لأنه أدرك الأمور من منظور سوداني، لا يميل نحو أيّ شق من شقيّ الحكم الثنائي، ويمثل هذا الجيل تاريخيا عبدالرحمن علي طه الذي شارك في كل ضروب الثقافة والمعرفة منذ ني الدراسة في كلية غردون". (رواد الفكر السوداني، بيروت، دار الجيل، 1991: 210) .
رجل عظيم واحد يساوي أمة فقد كان يعمل لاستقلال ونهضة السودان بطريقته. لم يكن (عبدالرحمن علي طه) "متعاونا مع البريطانيين" بل كان متثاقفا بصورة متقدمة مع الحضارة الغربية. وكان يدرك أن أيّ عملية تحديث لن تنجح لو دخلت في عداء عاطفي وانفعالي مع الغرب.ولم يدخل الجمعية التشريعية لأنه كان "تابعا" للبريطانيين ولكن لقناعته الخاصة بما يُسمي بالتطور التدريجي لتحقيق تقرير المصير،كما كان يريد البعد عن النفوذ المصري.وهو لم يخض انتخابات الجمعية لكي يدافع عنها،بل اكتسب عضويته بحكم منصبه كوزير للمعارف.وقد شاركت كثير من الشخصيات الوطنية في مؤسسات تلك الفترة االتي اقترحتها الإدارة البريطانية من :المجلس الاستشاري،والجمعية التشريعية،ومؤتمر إدارة السودان(1946).وهذا الأخير قُسم إلي لجنتين أحداهما برئاسة (مكي عباس) والثانية برئاسة(محمد أحمد محجوب).ومن بين الأعضاء:محمد علي شوقي،وعبدالله خليل،ومصطفي أبو العلا،والصديق عبدالرحمن المهدي،الدرديري محمد عثمان،نصر الحاج علي،ومحمد صالح الشنقيطي،مكاوى سليمان أكرت،محمد الخليفة شريف،يوسف بدري.كل هؤلاء لم يكونوا أذنابا للبريطانيين بل هي نخبة ذلك الوقت الوطنية التي اقتنعت بطريق آخر للاستقلال:التطور التدريجي،عوضا عن "الطفرة" كما كانوا يقولون.
******
واختم هذه الحلقة بقول ذوالنون المصري، وكأنه كان يصف حال السودان الراهن: "كان الرجل من أهل العلم يزداد بعلمه بغضا للدنيا وتركا لها، واليوم يزداد الرجل بعلمه حبا للدنيا وطلبا لها. كان الرجل ينفق ماله علي علمه واليوم يكتسب بعلمه مالا، وكان يُري علي صاحب العلم زيادة في باطنه وظاهره، واليوم يُري علي كثير من أهل العلم فسادا في الباطن والظاهر".
(نواصل)
e-mail: [email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.