الفريق أول ركن/ محمد بشير سليمان تأتي هذه الرسالة موجهة للحركة الإسلامية والمؤتمر الوطني لاعتبار أن الطرفين لا ينفصلان عن بعضهما البعض منهجاً وسلوكاً وقولاً وفعلاً، وإن كان للحركة الإسلامية حظ السبق وجوداً، إلا أن المؤتمر الوطني وإن ولد من رحمها وبشكل مشوَّه، فقد أصبح مع دوران الزمن في مكانها، وصارت الحركة جزءاً من أماناته، ومهتديةً بهديه في مبدأ القيم بالرغم من إنها المؤسس لذلك. وسياق الحديث هذا يقودنا وبأقصر الطرق لانقلاب الإنقاذ في 30 يونيو 1989م، والذي دبرته وخططت له الحركة الإسلامية، تنفيذاً وفق خدعة وضعت د.حسن عبد الله الترابي في السجن تضليلاً للشعب السوداني والبعد الدولي، لتبدأ أول هزيمة لمبدأ القيم الفاضلة، والتي مامن فكرة أو دعوة أو ثورة أو حكم أو عمل إلا وكان الفشل حليفه إذا لم يؤسس على هذا المبدأ أخلاقاً وسلوكاً، وعهداً ووعداً، ناهيك من أن الانقلاب قد تمّ وفق رؤية إسلامية، حيث جماع ومنبع القيم والمُثل العليا، أمانةً وصدقاً، وعدلاً، واستقامة وإلى ما لا يُحصى من الفضائل، وأعلاها كرامة الإنسان وحفظ حقوقه وحريته حقاً شرعياً، ثم تأتي هذه الرسالة ومن بين يدينا الأهداف التي حملها البيان الأول لانقلاب الحركة الإسلامية، دافعة بها إقناعاً للشعب السوداني بضرورة الانقلاب بل حتمية تغيير الحكم الذي كان قائماً حينها، مقروناً ذلك بما عليه حال السودان الآن وبعد خمس وعشرين عاماً من سيطرة المؤتمر الوطني على سلطة الدولة السودانية، من خلال مقارنة للحالة الوطنية ما بين انقلاب الحركة الإسلامية المسلح عند العام 1989م، وانقلاب المؤتمر الوطني الدستوري عند العام 2015م، والذي هو ربيب الحركة الإسلامية، التي لا استطيع أن أوكد على إسلامية ما قدمته من مشروع للحكم من خلال الممارسة والتي أوردت في البيان الأول أن الذي قادها لتدبير الانقلاب يتمثل في "التدهور المريع الذي تعيشه البلاد"، وهل من تدهور، بل سوء حالة وطنية كارثية كالتي يعيشها السودان الآن، حالة وطنية كاد يتلاشى فيها إحساس الشعب إنه يعيش في دولة سوية وعادلة، دولة تؤكد أنه مواطن فيها، دولة تفتقد سيادتها، وتتدحرج نحو الهاوية ليدفن ما تبقى منها في حفرة التأريخ المنسي، ثم يتحدث البيان عن "الديمقراطية المزيَّفة"، وليتهم لم يتحدثوا لأن الديمقراطية الآن في عالم اللا وجود، اللهم إلا إذا كان يتحدث المؤتمر الوطني عن الديكتاتورية لأن الديمقراطية حتى داخله مفقودة، إذ نجد أن جميع عضويته يعيشون في سجون الوهم، كما يعيش الشعب السوداني في سجن الخوف والرعب القاتل. ثمّ يُشير البيان إلى "فشل المؤسسات الدستورية"، والتي وأن كانت فاشلة في ذلك الحين فهل هي موجودة الآن؟، إن الحقيقة البائنة تقول: إن الوطن دولة بلا مؤسسات دستورية، بل وقومية، لأن الموجود عند الانقلاب قد أصابه الهدم والتدمير وسوء الاستغلال الحزبي، وأصبح كله في خدمة دولة حزب المؤتمر الوطني، ويكفينا مأساة إجازة التعديلات الدستورية الأخيرة من قبل المؤسسة التشريعية التي يمتلك أسهمها المؤتمر الوطني، وأسس من خلالها لانقلابه الثاني، ليؤسس لانتخابات يناقض بها كل ما ذكرته سابقاً عن أسباب الانقلاب الأول. ثمّ يتحدث البيان عن "إرادة المواطنين المزيفة"، ونتساءل الآن أين هؤلاء المواطنين الذين تمّ تزييف إراداتهم منذ خمس وعشرين عاماً، حتى باتوا لا يدركون من هم في ظل مفهوم "لا أريكم إلا ما أرى"، حيث زيف المؤتمر الوطني إرادتهم، وغيَّب عقولهم من خلال حملة إعلامية مضللة، ومنابر خطابية كاذبة، وانتخابات ضاربة، ومغشوشة، فأي تزييف يتمّ الحديث عنه من بعد هذا، وما زالت المأساة في حالة تكرار مفضوح يتم عبر الإصرار على قيام انتخابات دون وحدة الصف السوداني وبحوار يأخذ معه من حضر، فإن تزييف لإرادة الشعب السوداني من بعد هذا ؟، ونأتي من بعد ذلك للكارثة الوطنية الكبرى في ما أسماه البيان الأول بتزايد "النعرات العنصرية والقبلية" وهل من مأساة يعيشها الوطن أكبر من الذي أحدثه المؤتمر الوطني في نسيج المجتمع السوداني تجزئةً وتفكيكاً؟، وتمييزاً سالباً وتسيساً للقبائل والإدارة الأهلية، ليبني على أنقاضه ركائزه السياسية، وفوزه الانتخابي في أسوأ تجربة سياسية سودانية، بات يأكل لحم جيفتها الآن، بعد الإحساس بالخطر الداهم على الوحدة السودانية، والذي استبان له عند فترة البناء التنظيمي للحزب في العام 2014م، وما أدى به لأن يفكر في تعيين الولاة دون انتخابهم في خطوة ما كانت لتتم لو أن المؤتمر الوطني يؤمن بالحرية والديمقراطية، بهدف التمكين ولو أن المؤتمر الوطني كان يؤسس لحكمه بمبدأ القيم الفاضلة من خلال حسن إدارة التعدد والتنوع الثقافي قيمة وطنية وإنسانية، لما حدث هذا الشرخ الكبير في نسيج المجتمع السوداني، وتأتي ثالثة الأثافي في جعل "ضياع الوحدة الوطنية" أحد دوافع الانقلاب" ويتحسر المرء هنا عن هذه الخدعة الكبرى، والتي لا تعني غير ذرف دموع التماسيح على "الوحدة الوطنية" ونقول: من أضاع الوحدة الوطنية غير الحركة الإسلامية ومؤتمرها الوطني، بتوقع إتفاقية نيفاشا؟، أسوأ اتفاقية عرفها تأريخ السياسة عالمياً لحل مشكلة جنوب السودان، تم بناءً عليها انفصال جنوب السودان، وتمّ التأطير فيها لقضيتي جبال النوبة، والنيل الأزرق، وأُهديت من خلالها أبيي ببروتوكولها بدون مقابل، وهي التي ما كانت يوماً جزءاً من الجنوب حتى في اتفاقية أديس أبابا في العام 1972م، وتم التجاهل بدون تقديرات وقراءة سياسية استراتيجية لبداية حريق مشكلة دارفور حتى تحولت لأزمة عجزتم عن احتوائها، ثم أين حلايب؟، وأين نتوء أرقين؟، وأين الفشقة؟، وأين الخط الصفري؟، وبعد كل هذه التداعيات على الوحدة الوطنية، أيوجد لدى المؤتمر الوطني لسان وشفتين يتحدث بها عن الوحدة الوطنية قيمة بات يمثل أكبر مهدداتها، وتجاوزاً لترتيب الأسباب التي صاغها بيان انقلاب الحركة الإسلامية الأول، ودون الخوض فيها لأبعادها الوطنية لا أقول الحمراء، لكن أقول الوطنية، أدلف للحديث عن ما أسماه البيان الأول ب"التدهور الاقتصادي المريع، وانهيار الخدمات، وتعطل الإنتاج" والذي بسوء الإدارة، والتخطيط، والرؤى الآحادية ولعدم وجود مشروع حقيقي للاحتواء والإصلاح مع خراب الأنفس والذمم تحول التدهور والانهيار إلى أزمة، ثم كارثة ذاق الشعب السوداني فيها الفقر والمسغبة، جاع وعطش، ومشى عرياناً وحفياناً، وذاق فيها ذلة النزوح واللجوء وفقدان الكرام، وأصبح فيها الشعب السوداني يُعاني فيها من نظرات الاستحقار والاستهجان أين ما ذهب، ثم كان توزيع الخدمات غير المطابقة للمواصفات والجودة قسمة ضيزى بين مناطق السودان، ومع كل هذا يتحدث المؤتمر الوطني عن إهمال تنمية الأقاليم التي عندما أصابها الغبن وعدم العدالة حملت السلاح من أجل نيل الحقوق، وهكذا زرع المؤتمر الوطني قيماً فاسدة تشعل النار أين ما كان ووجد، ثم كان ذكر البيان ل" انهيار الخدمة المدنية بأسباب الولاء الحزبي، والمحسوبية ليتقدم الفاشلون"، ليكون البديل ذلك المفهوم الإصلاحي للإنقاذ التي باتت تستحي وتنزوي خجلاً أن تنطق بكلمة الإنقاذ أو الاحتفاء بها، أن أسست لسياسة التمكين وتعيين أصحاب الولاء والأقارب من الفاشلين تدميراً لطموح الشباب السوداني من أهل التميز والإبداع، وإن أشار البيان للفاشلين في بيانه الأول إلا أن الحقيقة تؤكد أن المؤتمر الوطني قد هدم الخدمة المدنية وعطَّل التنمية في السودان باختياره لأهل الولاء من الفاشلين الذين أوصلوا الوطن إلى أضعف حالاته وأدى لتصنيف السودان عالمياً بالدولة الفاشلة والفاسدة والتعيسة، وذلك نتاج لمبدأ القيم الفاسدة الذي أدار به المؤتمر الوطني دولة الحزب وما أنفك يتحفنا بأهازيج مشروعه الحضاري غير المعلوم، وأن وصف البيان الأول "العلاقات مع دول الجوار والمنظمات الإقليمية والعالمية والدول العربية بالضعف"، إلا أن المتابع والقارئ لمسار ما أورده البيان الأول في هذا الشأن لا يرى لها تحسناً وقوة في إطار المصالح القومية للوطن، ومنذ أن تكشف للعالم قيمية الكذب التي أرادت الحركة الإسلامية أن تخفي من خلالها حقيقيتها التي أدركها العالم في حينها، فتحوَّل في علاقاته حرباً وحصاراً ومقاطعة لدولة المؤتمر الوطني، وما اليوم بأحسن من الأمس في ما يتعلق بهذه العلاقات، بل باتت هذه العلاقات تلقي بظلالها الخطيرة على البلد وعلى الوحدة والوطنية، نتائجاً طبيعية لعدم الرؤية الاستراتيجية السليمة التي يتم من خلالها التخطيط المرن، والمتوازن، والمبادر والمدرك لمطلوبات البيئة الدولية، دون عنتريات أو رجالة وبعيداً عن المحاور، تداركاً للمهددات القريبة والمتوقعة، والتي يمكن وبتأجيل الانتخابات وفقاً لمخرجات الحوار الوطني احتواء الكثير منها، وذلك لمن يسمع ويدرك لأن السودان في بيئة دولية وإقليمية لا تتعامل بالمفاهيم الفطيرة ولا بالعنتريات التي لم تقتل ذبابة. هذا ما كان من البيان الأول لانقلاب الحركة الإسلامية، الذي تحدث عن استشراء فساد المسؤولين الذي يعيشه السودان الآن دولة كاملة، إذ أين ما وردت مورداً، أو حللت بمكان، أو نظرت في الأفق القريب، أو البعيد إلا وسدت البيانات الشاهقة والفلل الفاخرة الرؤيا أمامك، وبذخ الحياة المتحرك أمامك يستهزئ بفقراء وجوعى الوطن من شعب السودان الذين ما بات لهم إحساس بالوطن، حتى أصبح التنازل من الجنسية السودانية خبراً عادياً، شعب لم يرع فيه المؤتمر الوطني الفاسد إلا وذمة. هكذا كانت نتائج اغتصاب الحركة الإسلامية للسطلة في 30 يونيو 1989م، ولتنتقل بكل سوئها وفسادها، ومهدداتها الوطنية الأمنية تبديلاً في إدارة سلطان الدولة لصالح المؤتمر الوطني الذي سار بها على ذات الطريق دون تغيير في الفكر والأهداف والمنهج فأنتج أسوأ أنموذج لسلطة الحكم الوطني. سلطة قاهرة وباطشة بشعبها ومدمرة لوطن عظيم، وما حدث كان متوقعاً لإنقلاب استلم السلطة دون الاستعداد لها، حيث انعدام المشروع والرؤية الاستراتيجية لكيفية إدارة الدولة، وعضَّد ذلك حالة الصراع بين أطرافه "مدنيين وعسكريين" اختلافاً بينهم في فترة التحول لحكم مدني طبيعي، إذ انتصر الذين يرغبون في استمرار استلام السلطة عسكرياً لمدة ثلاثين عاماً على شيخهم الذي يرى غير ذلك، ولذلك تحوَّلت سلطة حكم المؤتمر الوطني إلى دولة قابضة ،مما أدى لأن تكون مسؤولية السلطة الحاكمة غير التي يعيشها المواطنون في دولة الديمقراطية التي تُبنى مسؤولية الحكم فيها على تحقيق الأمن القومي والأمن الاجتماعي للدولة، أما الأمن في ظل النظام الديكتاتوري والدولة الأمنية فيتركز مفهومه الخاص للحاكم وحزبه السياسي مسقطاً بذلك أمن الفرد والجماعة في حال تعارضه أو تهديده لأمن النظام، . هذا هو كتاب الإنقاذ الذي بشرت به في بيانها الأول تحدثت عنه بكسبهم الذي كان تحت درجة الصفر تقييمياً وواقعاً، البيان الذي بما طرح أدى لأن يقف الشعب السوداني مؤيداً، ومؤملاً، فما وجد شيئاً، بل بات يتمنى أن يعود التأريخ القهقري إلى الحال الوطني عند العام 1989م، وحين كان ومن ربع قرن من الزمان تائهاً، كانت الوثبة الحوارية وبصفاء معدنه وصدقه صدق وآمن فإذا بالوثبة تتحول إلى خدعة تكتيكية تمهيداً لانقلاب ثانٍ، اكتملت حيثياته بإجازة التعديلات الدستورية، تمكيناً للمؤتمر الوطني لفترة قادمة يُحكم بها السودان بانتخابات أعد وخطط لها منذ العام 2010م، ودون استيعاب وإدراك للمخاطر والمهددات التي تُحيط بالوطن، والتي لن تُعالج إلا خلال إجماع وطني ديمقراطي حر في رأيه، وتفكيره، وإعلامه، وتنظيمه، يتواثق بكلياته على استراتيجية وطنية يتم عبرها صون الوحدة الوطنية وحكم السودان حفاظاً على أمنه القومي، وذلك ما لا يعقله المؤتمر الوطني رغم خيبة الفشل وفقدان القيم الوطنية والسياسية التي فشل فيها حكماً للسودان، فإلى أين ستقودنا هذه الخيبة وعدم القيم؟