ظلت السكة حديد ولما يزيد عن السبعين عاماً هي الوسيلة الرئيسة للنقل في السودان. بدأ إنشاء السكة حديد بخطوط قصيرة أدخلها الجيش البريطاني- المصري عند غزوه وفتحه للسودان وإنشائه لدولة الحكم الثنائي. كان أكبر إنجاز حقيقي لذلك الحكم هو إنشاء خط حلفا – الخرطوم بحري وذلك بقضبان ضيقة العرض امتدت لأكثر من ألف كيلومتر (1068 كيلومتراً بالتحديد). شهد اليوم الأخير من القرن التاسع عشر الافتتاح الرسمي لذلك الخط، والذي خصص أساساً لنقل الركاب والمعدات. توالت بعد ذلك الخطوط الجديدة لمدن أخرى، فأنشئ خط لبورتسودان في عام 1906م، وآخر للأبيض في عام 1912م. وكانت لتك الخطوط الجديدة مآرب أخرى منها الاقتصادية والعسكرية. سكك حديد السودان كانت لها صولات وجولات عبر شبكة واسعة ومنتشرة في وطن مترامي الأطراف، ولكن يبدو أن لعنات الأغاني أصابتها فقد تغنى العشاق للحبيب ودعوا بأن يتكسر القطار الشال الحبيب "حتة حتة"، فتكسرت القطارات، وأصبحت الحبيبة تبحث عن تذكرة في السوق الأسود بالميناء البري، ولم تشهد محطة السكك الحديد يوماً ما بيع تذكرة في السوق الأسود، شباك التذاكر مفتوح والدرجات من النوم والأولى والثانية والثالثة والرابعة (قدر ظروفك)، على حسب رغبتك، بل وأن هنالك مجال لتحجز "قمرة" نوم أو أولى أو ثانية، لتجد اسمك مدوناً في مدخل "القمرة"، وإذا كنت لا تملك قيمة كامل التذكرة فأذهب إلى أي قريب لك يعمل في الدوائر الحكومية وتصريح سفر بربع الأجرة خصماً على جمهورية السودان ودرجة الركوب في القطار تحددها درجة الموظف، حسب التدرج الوظيفي، وتبدأ درجات القطار من الدرجة الرابعة ثم الدرجة الثالثة فالثانية فالدرجة الأولى، وأخيراً النوم، وظهرت أخيراً مسميات الدرجة الممتازة . بدايات التنمية عندما بدأ السودان يحكم ذاته في 1954م كان مجموع طول خطوط السكة الحديد فيه يبلغ نحو 3104 كيلومترات. وزادت عليها الحكومة الوطنية بدوافع تقوية لحمة الوحدة الوطنية والتنمية الاقتصادية ثلاثة خطوط أخرى: خط قصير من سنار للروصيرص والدمازين بغرض بناء خزان الدمازين، وخطين آخرين أكثر طولاً من عرديبة إلى نيالا في دارفور، وآخر من بابنوسة إلى واو في بحر الغزال، وبذلك زاد الطول الكلي للخطوط إلى 4588 كيلومتراً. وقامت فكرة انشاء السكة حديد لتحقيق تمويل للجهاز الحكومي للمستعمر من داخل السودان لنقل خام القطن بعد انشاء مشروع الجزيرة وارساله للمصانع البريطانية, والاستفادة من المنتجات المحلية من (صمغ ومواشي وخلافه من صادرات السودان) لتصبح بذلك من أهم موانئ الصادرات, وكانت لها مساهمات مقدرة في خزينة الدولة، وكانت ميزانيتها تفيض لتعود للخزينة العامة, هذا على الصعيد القومي، كما كانت للسكة حديد مساهمات اقتصادية في دخول الأسر في المدن الصغيرة والقرى من خلال اتخاذ سكانها لمحطات القطار أسواقاً لتسويق منتجاتهم من أغذية وأقمشة ومشغولات يدوية وخلافه من الأبعاد الاقتصادية غير المباشرة والتي تساهم في حل مشكلة الفقر للأسر البسيطة؛ كل هذه الجوانب والأبعاد لم تتم مراعاتها عند التفكير في خصخصة السكة حديد واهمالها . محطة أولى: كانت للقطار محطات يمر عبرها في طريقه من الخرطوم لعطبرة من أهمها (شندي, المحمية، الدامر, وكبوشية) وكان لكل محطة ما يميزها من منتوجات؛ فكانت شندي تتميز بالطعمية والفراد (فراد شندي) وبعض الفواكه مثل الجوافة وتتميز مدينة الدامر بالمشغولات اليدوية وخلافه, هنالك قصة تحكيها إحدى النساء العاملات في البيع بمحطات القطار وهي من إحدى قرى كبوشية وتدعى حليمة تقول كنا نترقب حضور القطار لمدينة كبوشية من خلال سماعنا لصافرته المشهورة وكنا نحمل مبيعاتنا من الطواقي, وبيض الدجاج وهنالك ينادي الصبية والنساء على مبيعاتهم ومن أبرز العبارات (يقول الصبية: المح.. المح) وتعني البيض المسلوق, والترمس والكبكبي, لبيعها في المحطة وكانت مجموعة من النساء يعملن راتبات في محطة القطار, وتواصل بقولها إن إحدى النساء وتدعى أم سلمة تعمل معهن لفترة طويلة تتعدى العشرين عاماً ولما تقدمت سنها بعدما قامت بتربية ابناءها من ما توفره من دخل من بيع الترمس والبيض المسلوق الذي كانت تحمله على رأسها (في صينية) طلب منها ابناؤها أن ترتاح ولا تذهب لمحطة القطار، ولكنها لم تكُ راضية بالرغم من أن حمل الصينية قد ترك آثاره على رأسها, ولكن أم سلمة كانت تترقب حضور القطار من خلال سماعها لصافرته، وعندما تسمع وصوله تقول (دلن, دلن) بمعنى أن رفيقاتها قد أنزلن ما يحملن في رؤوسهن من مبيعات وبعد أن تسمع صافرة المغادرة (تقول صرن, صرن)؛ وتعني أن النساء بعد أن يبعن ما يحملن يقمن (بصر أو ربط المبالغ المتحصل عليها من البيع في طرف ثيابهن وهي عادةً تدرج عليها النساء) وتختمها بعبارة (رفعن, رفعن) أي تقوم كل واحدة برفع أدوات بيعها على رأسها لتعود لقريتها. محطة ثانية : يقول الخبير الاقتصادي محمد قيلي خليفة تعتبر سكك حديد السودان من أطول وأقدم خطوط السكك الحديدية في أفريقيا، إذ يبلغ أطول خطوطها الرئيسية حوالي 4578 كيلومتراً وباضافة الخطوط الفرعية فإن طول الشبكة يصل حوالي 5901 كيلومتراً وهي خطوط مفردة غير مسفلتة باتساع ثلاثة قدم و6 يوصة أي ما يعادل1067ملم, ويواصل بقوة الله بدأ انشاء السكة حديد عام 1897 أيام الاحتلال الانجليزي المصري، وتمتد خطوطه الريئسية من بورتسودان مروراً بعطبرة وإلى الخرطوم وغرباً إلى نيالا والتي وصلتها خطوط السكة حديد في 1959 وامتدت من بابنوسة جنوبا حتى واو في عام 1962, وتمتد شبكة السكة حديد شمالاً حتى حلفا وكريمة, ويوضح إن هنالك خطاً آخر يمتد عن طريق سنار كسلا إلى هيا ومن ثم إلي بورتسودان وهو خط تم اهماله تماماً ودمر خلال حكم الإنقاذ, ثم تأتي الخطوط والامتدادات المرتبطة بمشروعات البترول من المجلد إلى أبوجابرة (52كيلو متراً) وخط المصفاة الذي يربط محطة الأبيض بالمصفاة (10كيلو) ومصفاة الخرطوم حوالي 12 كيلومتراً الذي شُيِّد في عام 2000وفي عام 2003 تم تشييد خط مروي من محطة البان جديد إلى موقع السد بطول قدره 16كيلو متراً . بداية التدهور ويقول إن أداء الهيئة تراجع وعن الامكانات الحالية يقول إن هنالك تدهوراً مريعاً صاحب الاداء في هذه الهيئة العملاقة والتي كانت نسبة ما تنقله سنوياً يبلغ أكثر من 80% بالنسبة للنقل البري وأصبحت الآن لا تستقطع من سوق النقل إلا ما يترواح ما بين 10 إلى25% برغم من ميزتها الاقتصادية المعروفة وهي تتميز بأنها الأقل تكلفة, الأكثر أماناً, الأقل ضجيجاً وضوضاء, المصالح الذاتية لبعض الفئات أن مرد ذلك يعود للاهمال المستمر من الدولة لهذا المرفق إذ أن كل الأنظمة الشمولية استهدفت السكة حديد باعتبارها رأس الرمح لمقاومة الأنظمة الشمولية إذ تمثل أكثر مناطق الوعي تجمعاً وتنظيماً, بالاضافة إلى أن هنالك مصالح ذاتية عند بعض الفئات لشجيع النقل البري بالعربات الأرضية واعطاء كل الامتيازات لهذه الوسيل من اعفاءت جمركية وغيرها كل ذلك على حساب تطوير السكة حديد. ويواصل بقوله إن امكانات الهيئة يبلغ متوسط العامل منها (22 وابوار و12مناورة,2330 عربة بضاعة وفنطاز) ويبلغ الطن المنقول حالياً 1,2مليون طن بينما كان في العام 1970(3,4مليون) طن ويبلغ عدد الركاب في ذات العام 3,417,000والآن يصل عدد الركاب حوالي 63,000 . ويقول إن الدولة لم تعد تقوم بالتزاماتها تجاه تطويرالسكة حديد فحسب، بل حاولت أيضاً أن تروِّج لسياسة الخصخصة ولما كان القطاع الخاص والذي يرفع دائماً وأبداً شعار زيادة ربحيته لا يحبذ الاستثمار في البنيات الأساسية لتكلفتها العالية ولقلة مردودها فقد أطلقت سياسة خصخصة التشغيل مع الزام الدولة بتوفير احتياجات البنيات الأساسية والتي تتمثل في الخط الحديدي, ومما لاشك فيه فإن السكة حديد تقوم بدور فعال في البناء الاجتماعي والتماسك والتمازج وتحقيق أأأأهداف التوحد الوطني وبالتالي فإن هذه ليست أهداف القطاع الخاص ولا مسؤوليته، بل هي مسؤولية الدولة أولاً وأخيراً, في ذات السياق يقول المهندس معاوية صالح والذي كان يعمل يالسكة حديد سابقاً أن السكة حديد انشأها المستعمر واختار لها خيرة الكفاءات من الجامعات البريطانية وأحدث أنواع المقطورات لربط السوق السوداني بالسوق الخارجي وكانت إدارة السكة حديد بالاضافة للنقل النهري وهيئة المواني البحرية مرتبطة بمشروع الجزيرة وتمتد حتى الأبيض لنقل منتجات الصمغ العربي, ويعود ليقول إن قيام السكة حديد ونشأتها جاء مع جيش الفتح من الحدود المصرية لاسقاط حكومة المهدي وبعد أن استقر المقام وسقطت الدولة المهدية اتجهت إدارة الحاكم العام وجهازه لتحقيق مكاسب مادية لتمويل جهاز الحكم من داخل البلاد وربط السكة حديد بمشروع الجزيرة لنقل خام القطن لمصانع لانكشير ببريطانيا؛ وكان لابد من وجود ناقل بالضرورة أن يكون كفئاً. من ذلك الاتجاه تم تأهيل السكة حديد كميناء للصادر يمتد لوسط وغرب السودان ولتنظيم العمل تم انشاء إدارة للموانئ تتبع للسكة حديد وجهاز نقل نهري يربط بحري بملكال وشبكة محطات وجاو للنقل النهري بابورات لنقل البضائع للشمال والجنوب مابعد الاستعمار: ويواصل مهندس معاوية بقوله بعد حكم الاستعمار جاء الحكم الوطني عهد عبود(1958_ 1960) وقام بعمل امتدادات للسكة حديد من بابانوسة إلى نيالا، ويقول في ذلك الوقت كان هنالك ميزة وخاصية للسكة حديد إذ كانت تتبع جميعها لوزارة النقل وأقصد بذلك بالاضافة للسكة حديد النقل النهري والموانئ وكانت ميزانيتها موحدة وكانت تفيض عن الحاجة ويتم ارجاعها للخزينة العامة, ويقول إن بداية التدهور كانت في عهد نميري بعد قرار قانون توسيع الهيئات فصل هيئة الموانئ والنقل النهري من السكة حديد وهي بداية سلبية مالية على قطاع السكة حديد وعلل ذلك بقوله إنها عندما كانت هيئة واحدة كان فائض الدخل من العملة الحرة من الميناء يمكن استخدامه للابدال والاحلال والتجديد لباقي المرافق وكان للسكة حديد صلة مباشرة مع المنتجين وسوق الصناعة والرأسماليين لجلب احتياجاتها ولديها صلة بالمنتجين الداخلين للقطن والصمغ العربي وبالفصل الذي تم أصبحت الصلة معقدة وذلك باستغلال هيئة الموانئ بدخلها من العملة الصعبة الحديث للمهندس معاوية ويواصل إن عهد نميري تمت فيه الخصخصة والتي أضرت بدورها في نمو السكة حديد وأضاعت استقلاليتها, يقول بعدها جاءت خطة تطوير السكة حديد وكان السؤال هل يتم تطويرها على أساس أنها ناقل وطني رئيسي وتأتي الطرق ليتم بناءها على شبكة السكة حديد ويواصل مهندس معاوية حديثه ويقول جئنا بخبراء روس وكان مقترحنا أن تعتمد شبكة السكة حديد كناقل ريئسي للتجارة الخارجية، صادرات واوردات وثانياً على أن تنشأ شبكة الطرق القومية على هذا الأساس, يقول إن ذلك ولد صراعاً بين حكومة مايو والعاملين بالسكة حديد (وهو ما عرف بالخطة الخمسية) وتم مخالفة رأي مهندسي وإدارة السكة حديد وتم عدم اعتماد الخطة وبناءً على ذلك تم انشاء طرق موازية للسكة حديد وأحدث ذلك تضارباً معها وعلى سبيل المثال طريق الخرطومبورتسودان, ويوضح بقوله إن انشاء طرق موازية هو شأن سياسي وجزء من صراع الرئيس نميري مع اليسار السوداني؛ ويقول الدليل على ذلك أنه عندما جاء تشييد طريق الخرطومبورتسودان اعترض مندوب وممثل السكة حديد موضحاً رأيه الفني فتم طرده من الاجتماع، ويقول وليس ذلك فقط فقد كانت هنالك مبالغات من قبل الرئيس الراحل نميري والذي قام بجلب ضباط وجنود من سلاح المهندسين وفرض على المهندسين بالسكة حديد تدريبهم على قيادة القطارات وتسييرها وإدارتها ( تمت تسميتهم بالكتيبة الاستراتيجية)، وذلك في حال أي اضراب يقوم هؤلاء الضباط باستلام السكة حديد لتسيير القاطرات, ويواصل بقوله إن ذلك أدى لكوارث من خلال الكثير من الحوداث بسقوط مجموعة كبيرة من القاطرات وحدوث ربكة في العمل وولد ذلك غبن في نفوس العاملين, وبعدها توالى التدهور وجات الانتفاضة وانشغل الناس واستمر التدهور حتى العام 1989 إلى أن جاءت حكومة الإنقاذ بسياسة واضحة وهي سياسة الخصخصة للسكة حديد وأول بادرة كانت فصل القياديين بالسكة حديد في الجهاز الأعلى من مهندسين وموظفين وعمال، وذلك لأنها تمثل معقل القوى الوطنية والسياسية وربما تتعارض مع نظامهم لأنهم جاءوا بسياسة التمكين, وبدأ ذلك باهمال المنقول من خام القطن من مشروع الجزيرة واهمال كافة الصادرات فضلاً عن اهمال قطاع الغابات ومواطن الصمغ العربي, اهمال للمراعي وتدهور حال المنقول وأدى ذلك لتدهور الناقل؛ وهي سياسة متعمدة قصد بها المجئ بشركات النظام للسيطرة على قطاع النقل وتم بيع جزء من الوابورات الجرارة لرأسماليين عبر عطاء مطبوخ، وشُردت الكوادر الادارية المؤهلة للسكة حديد وقُلص عدد العاملين وتم فرض قيادات مسيسة على العاملين لتكسير النقابات وهو ما أوصل السكة حديد للتدهور الحالي . التغيير