نهاية السكة حديد: عصر تشييد الطرق البرية والجسور في السودان (1980 – 2009م) - الجزء الأول بروفسور: مصطفي محمد خوجلي ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي تقديم: نشر هذا المقال بالإنجليزية في مجلة "دراسات السودان" التي تصدر في بريطانيا في عددها رقم 42 في يوليو 2010م ، وهو بقلم الأستاذ الدكتور مصطفي محمد خوجلي، والذي سبق له العمل أستاذا بقسم الجغرافيا بكلية الآداب في جامعة الخرطوم، وبالمملكة العربية السعودية، ثم بكلية التربية بجامعة الخرطوم. يتحدث المقال عن نهاية (أو فناء) السكة حديد في السودان مع بداية ثمانينات القرن الماضي وبدء عصر النقل البري وبناء الجسور. يؤكد المؤلف أن السكة حديد لعبت دورا حيويا في تنمية السودان، ويؤرخ في إيجاز لقيام وسقوط "امبراطوريتها". رغم قيمة ما قدمه الكاتب (والذي نترجم بعض أجزائه بتصرف) من حجج وبراهين على فضل النقل البري على "السكة حديد" (على الأقل في السودان، وليس سواه) إلا أن حبنا القديم للسكة حديد وعمالها وورشها وقطاراتها يبقى كما هو! بيد أنه من الواجب القول بأن تدهور خدمات السكة حديد (بفعل فاعل معلوم) قد جعل الناس ييأسون من إصلاح حالها ولسان حالهم يقول: اعتيادي على غيابك صعب واعتيادي على حضورك أصعب مقدمة: عندما بدأت في التفكير في كتابة هذه الورقة، طافت بذهني وخاطري ذكريات من أيام الطلب في مدرسة وادي سيدنا الثانوية بأمدرمان، حين كنت أسافر متنقلا من "دنقلا" للخرطوم بالباخرة إلى "كريمة" التي أستقل منها القطار للخرطوم. كانت تلك الرحلة تستغرق أياما ثمانية تبدأ صباح الأربعاء وتختم مساء الأربعاء الذي يليه! وتزداد أيام تلك الرحلة إلى نحو ثلاثة عشر يوما كاملا في موسم الأمطار التي تجرف خطوط السكة حديد. اختصرت تلك الأيام الطويلة هذه الأيام بفعل النقل البري الآن إلى ساعات قليلة. لقد فاقم فشل شبكة السكة حديد في تقديم خدمات سريعة ومناسبة في شعور الإحباط الذي ساد في أوساط الجمهور المستخدم لتلك الخدمات. بيد أن السياسة (التي وضعت خططها الأولي في الثلاثينات من القرن الماضي) والقاضية بأن تكون الطرق البرية هي الوسيلة المثلى لنقل البضائع والركاب إلى أقرب محطة للسكة حديد، لم تجد طريقها للتنفيذ إلا في بداية الثمانينات. لم يتم فعليا تنفيذ تلك الخطة إلا في 1986م مع تغيير نظام الحكم الذي كان سائدا آنذاك. رغم كل ذلك إلا أنه من الواجب القول بأن شبكة السكة حديد قد أسهمت وبفعالية في تنمية السودان، ويجب البدء بها. شبكة السكة حديد ظلت السكة حديد ولما يزيد عن السبعين عاما هي الوسيلة الرئيسة للنقل في السودان. بدأ إنشاء السكة حديد بخطوط قصيرة ادخلها الجيش البريطاني- المصري عند غزوه وفتحه للسودان وإنشائه لدولة الحكم الثنائي. كان أكبر إنجاز حقيقي لذلك الحكم هو إنشاء خط حلفا – الخرطوم بحري وذلك بقضبان ضيقة العرض امتدت لأكثر من ألف كيلومتر (1068 كيلومترا بالتحديد). شهد اليوم الأخير من القرن التاسع عشر الافتتاح الرسمي لذلك الخط، والذي خصص أساسا لنقل الركاب والمعدات. توالت بعد ذلك الخطوط الجديدة لمدن أخري، فأنشأ خط لبورتسودان في عام 1906م، وآخر للأبيض في عام 1912م. وكانت لتك الخطوط الجديدة مآرب أخرى منها الاقتصادية والعسكرية. عندما بدأ السودان يحكم ذاته في 1954م كان مجموع طول خطوط السكة الحديد فيه يبلغ نحو 3104 كيلومترا. وزادت عليها الحكومة الوطنية بدوافع تقوية لحمة الوحدة الوطنية والتنمية الاقتصادية ثلاثة خطوط أخرى: خط قصير من سنار للروصيرص والدمازين بغرض بناء خزان الدمازين، وخطين آخرين أكثر طولا من عرديبة إلى نيالا في دارفور، وآخر من بابنوسة إلى واو في بحر الغزال، وبذلك زاد الطول الكلي للخطوط إلى 4588 كيلومتراً. بالإضافة لذلك تقوم مصلحة السكة حديد بتنظيم وإدارة رحلات نهرية طوال العام من دنقلا لكريمة ومن الخرطوم لجوبا، وبصورة موسمية من مشرع الرنك وعبر نهر سوباط. وللسكة حديد كذلك خدمات نهرية من وادي حلفا في السودان إلي الشلال جنوبأسوان في مصر. كان لتلك الخدمات تأثيرات هامة على الاقتصاد والسياسة و الوحدة الوطنية: 1.لعبت السكة حديد دورا هاما في تنمية السودان، إذ أنه بدونها لم تكن المشاريع الكبيرة مثل مشروع الجزيرة (والذي يزرع فيه ربع مليون فدان قطنا طويل التيلة) أن تقوم. كذلك شجعت السكة حديد المزارعين التقليديين في مناطق السافنا للجمع بين المحاصيل التي يزرعونها للاستهلاك والمحاصيل المخصصة للإنتاج التجاري. 2. وفرت السكة حديد – وكثيرا- وسيلة نقل عصرية للجمهور، وجعلت الحركة والتنقل أكثر سهولة نسبياً، وربطت الأقاليم إلى حد كبير بمركز القطر وبأجزائه الأخرى. بيد أن مناطق أخرى لم تدخلها السكة حديد (كدارفور وجنوب السودان) أحست بالعزلة مما صار مصدرا وسببا هاما لعدم الرضاء والكثير من التبعات السياسية الضارة. 3. كان للسكة حديد دور فعال (لكنه غير مباشر) في تأخير بناء الطرق المسفلتة في الأيام التي بدأ فيها النقل البري في منافسة السكة حديد في نقل البضائع والركاب. لم يعجب (بالطبع) إدارة السكة حديد ظهور منافس جديد لها، وسعت بنجاح في إقناع حكومة السودان بضرورة "كبح جماح" ذلك المنافس الجديد‘ إذ أصدر الحاكم العام في عام 1934م لائحة أعطيت بموجبها السكة حديد حق الاحتكار الكامل لنقل الركاب من الميناء إلى داخل البلاد. وشمل هذا عمليا أيضا احتكار نقل الركاب من داخل البلاد للميناء. منعت تلك اللائحة بناء أي طرق مسفلتة، بيد أن المنع لم يطل إقامة الطرق المؤدية (لمحطات) السكة حديد، والتي ظلت طرقا ترابية أو مرصوفة بالرمل أو الحجارة الصغيرة. 4. كنتيجة لاحتكارها لنقل البضائع والركاب، جنت السكة حديد أرباحا معقولة، تحولت لخسائر هائلة في السنوات الأخيرة. 5. شجعت السكة حديد على زيادة الإنتاج الزراعي، ولكن مع مرور السنوات، وخاصة بعد إنشاء خط السكة حديد لنيالا، تزايد طلب الركاب على خدمات السكة حديد، والتي عجزت عن مقابلة ذلك الطلب وعن نقل كميات البضائع الهائلة التي تنتظر النقل. شكلت موسمية الإنتاج الزراعي مشكلة عويصة للسكة حديد، إذ خلقت ارتفاعا حادا في طلب نقل كمية كبيرة من البضائع في الفترة من نوفمبر إلى مارس. رأت إدارة السكة حديد أن زيادة قدرتها الاستيعابية وخدماتها قد تنجح في حل مشكلة الزيادة الموسمية الحادة في الطلب، بيد أن ذلك سوف يخلق فائضا معطلا في قدراتها لمدة تتراوح بين ستة إلى ثمانية أشهر في العام، مما سيترتب عليه خسائر اقتصادية جمة. لم يكن ذلك المنطق مقنعا لرجال الأعمال الذين كانوا يكرهون بالطبع أن يروا أموالهم الطائلة التي أنفقوها في شراء المحاصيل تظل "مجمدة" أمام ناظريهم لما يقرب من نصف عام وهي تنتظر الترحيل في محطات السكة حديد أو في المخازن. كان رجال الأعمال يرون أيضا أن سياسية السكة حديد السائدة (آنذاك) من شأنها أن تقلل من قدرتهم على المنافسة في داخل القطر، أو خارجه مع البلاد التي تنتج ذات المحاصيل التي ينتجها السودان. توالت شكاوى أخرى مشابهه من التجار المستوردين. ليس لهؤلاء مواسم يزداد فيها الإنتاج أو الطلب، لكن السكة حديد فشلت في نقل البضائع المستوردة وظلت تقبع في الميناء لشهور عديدة مما تسبب في خسائر وازدحام لا مبرر له. لم تنجح الحكومة ولا إدارة السكة حديد في إصلاح هذا الوضع رغم المحاولات الكثيرة. يمكن تلخيص الأسباب التي أدت إلى تلك الإخفاقات في الأتي: 1.سوء الإدارة: أشار البنك الدولي في أحد تقاريره (عن طريق شركة استشارية هي سوفريل) لهذا الجانب كعامل أساس وذلك في عام 1974م، وتم بالطبع وضع ذلك التقرير "على الرف". 2. انعدام الصيانة للوابورات والقطارات والآلات الأخرى. 3. الفساد المستشري الذي سرى في جسد السكة حديد، والذي غذاه شعور عند إدارة تلك المصلحة بأن هنالك الكثير من الطلب على خدماتهم من قبل رجال الأعمال. وبما أن الطلب هنا يفوق العرض، ويستحيل تلبية طلبات الكل في ذات الوقت، فإن باباً كبيرا للفساد قد انفتح، ولم تعد الخدمات تقدم بعدالة حسب الأسبقية، وانعدمت المراقبة والمحاسبة والمراجعة الدقيقة. 4. الإضرابات المتكررة: ظلت المرتبات متدنية، وطفقت النقابات العمالية تتصرف بعدم مسئولية وتتسبب في كثير من التأخير. (لابد من التحفظ الشديد على وصف النقابات بعدم المسئولية وهي تدافع عن حقوق أعضائها والكاتب نفسه يقر بتدني المرتبات. المترجم). 5. المشاكل السياسية مع الولاياتالمتحدة الأميركية: كان نحو 80% من الآلات التي تستخدمها السكة حديد منتجة في الولاياتالمتحدة الأميركية، وعندما أعلنت تلك الدولة المقاطعة الاقتصادية للسودان تأثرت بتلك المقاطعة السكة حديد كأشد ما يكون التأثير. ضاعفت تلك الإخفاقات من الضغوط الشديدة على سلطات السكة حديد وعلى الحكومة، ودعا بعض الخبراء لحل مشكلة النقل عن طريق بناء الطرق البرية المعبدة، ليس فقط من أجل خدمة الاقتصاد، بل لأن الطرق تعد مظهرا من مظاهر الدولة العصرية. نقلا عن "الأحداث"