صمت تام، وخلو من أي مفردة محركة للمشاعر تجاه الوطن، لا جديد لنفتح له الذاكرة والوجدان، ولا شيء يمكن أن يستعين به الشارع في حال أراد التغيير، أو التعبير، عن القهر والظلم والمشاعر، ما عاد باستطاعة أحد صناعة أغنية وطنية لها القدرة على إحداث الفرق في الشارع الذي يشعر بأنه يفقد حنان الوطن، ويفتقد ل(قلدة) البلد، وأجيال جديدة لا تعرف عن الوطن سوى النزوح والاقتتال والحروبات. أعوام عاشها الكبير أبو عركي البخيت في عزلة عالمية، وانزوى كالراهب المنقطع في غاره الصغير بعيداً عن المريدين والمحبين، واحتياجهم. ثلاث سنوات والقلب النابض بأفخم أغنيات الوطن محمد وردي تحت التراب، لا يمكنه صناعة التغني بألحان ومفردات تحرك الأحاسيس نحو السودان، ولم يستطع أحد من بعده الاقتراب منه ومن تجلياته الوطنية. فبرغم ازدياد عدد المغنين، وحركة التطور في الموسيقى والآلات، ودخول علم التوزيع الموسيقي كعلم وضرورة، والكثرة والتعدد النوعي والإبداعي للشعراء السودانيين، والطفرة التكنولجية في التقنيات المستخدمة، واستعداد المزاج السوداني للتعامل مع هذه النوعية واستقبالها، إلا أن الغياب يظل ملازماً للأغنية الوطنية وسمة أساسية من سمات الملامح العامة للغناء في السنوات العشرين الأخيرة. عدم وجود مغنين واحد من الذين كتبوا الأغنيات الجميلة في العاطفة والوطن (عبد القادر أبو شورة) تغنى له وردي بأغنية (حدق العيون ليك يا وطن) قال: (مين يغني ربنا يرحم وردي والشفيع، الساحة الآن فاضية وما فيها جديد). الشاعر يرجع السبب لعدم وجود فنانين لهم القدرة على التغني بالأغنيات الوطنية، ويؤكد على ذلك ما قاله في ختام محادثتنا له: (فنان الأغنية الوطنية له موصفات خاصة، {جمالية وأخلاقية وفنية}). إذن نقطة رأي أولى مفادها "عدم وجود فنانين لديهم موصفات التغني للوطن". محمد يوسف موسى الشاعر المعروف يرى من زاويته الشخصية أن: (هناك أزمة في البث، هناك رصيد كبير من القصائد الوطنية التي تغنت لكنها لم تجد حظها من النشر بسبب القنوات والإذاعات). وهذا رأي ثاني، يرى أن الأغنيات موجودة لكن وسائل الإعلام هي السبب في عدم نشرها لهذه الأغنيات. ومن بين ثنايا هذه المعركة المحتدمة بين التقاليد الرصينة للكلمة، ومفردات الهشاشة، اقتلعنا الحديث من واحد من الشباب الذين أوجدوا أنفسهم على المستوى العاطفي لكنه ما استطاع التغني للوطن سبيلاً، صفوت الجيلي يقول: (معظم الشباب الموجود في الساحة، يضعون كل همهم الأكبر في أن يكونوا نجوماً، برصيد في البنك، وسيارة، وهو ما جعل العديد من الفنانين الآن غير جادين حتى في طرحهم دعك عن الأغنية الوطنية). وصفوت يضيف أن هناك مخرجات كثيرة للأغنيات الوطنية التي كانت نتاج مهرجانات (ميلاد الأغنيات، مهرجان الجلالات العسكرية) لم تجد حظها من الانتشار والبث والنشر من الفضائيات والإذاعات. وهي نقطة ثالثة، قناعة المغنين بالأغنية الوطنية لا وجود لها، مع أن صفوت اتفق ومحمد يوسف موسى بأن لوسائل الإعلام السودانية اليد الطولى في غياب الأغنية الوطنية. وبعيداً عن صراع الأجيال، وتفاصيل ما يعيشه الواقع السوداني اقتصادياً، وسياسياً، واجتماعياً، تظل الأغنية الوطنية أكبر الغائبين، ويظل الفنان السوداني، غائباً عن صناعة الجديد والمواكب، في شأن التغني بالوطن، وتبقى العزلة المفروضة على أبو عركي البخيت واقعاً يعاني منه الوطن على مستوى الأغنية، أما الموت في دق آخر إسفين في نعش الوطن والمغني الملهم لحظة اختار أن يغيب الجميل محمد وردي