يتصادف اليوم «عيد الأم» في عالمنا العربي ويدهشني دائما في تلك المناسبة أن البنات والأولاد هم الذين يقدمون الهدايا والحب للأمهات وليس العكس!! في نظري، الذي يجب أن يحدث هو أن تهدي الأم ابنتها/ ابنها هدية في تلك المناسبة شاكرة له أنه رفعها إلى «مرتبة الأم»، وعلمها بالتالي فن العطاء بالمعنى الحقيقي الإنساني للكلمة. لن أنسى يوماً اللحظة الأجمل في حياتي. لن أنسى تلك اللحظة السحرية التي قال لي فيها الدكتور فايز سويدان: مبروك، هذا طفلك.. شاهدت مخلوقاً شفافاً يشع مثل كوكب جديد وخفق قلبي كما لم يحدث لي يوما. مد الطفل نحوي أصابع هشة نحيلة كعيدان الكبريت ولكنه انتزع بها قلبي بيسر. لحظة لم أعرف مثلها ولن... وأعتقد أن كل أمرأة أنجبت تعرف ذلك اللقاء الأول المسحور مع طفلها، المخلوق القادم عبرها من كوكب آخر وهو من بعضها ومنها. فهي ليست النفق فحسب. لا ينتهي الأمر هنا بل يبدأ بعلاقة حب بالمعنى الحقيقي للكلمة: الحب غير المشروط. حب الآخر أينما كان وكيفما كان. حبه دونما محاكمة سواء كان مجرماً أو سيد قومه. حب لا تشوبه شهوة الامتلاك بل الرغبة في نمو المحبوب ضمن اختياراته الخاصة أياً كانت، بعيداً عن الرغبة في السيطرة. هذه الصفات سبق للكاتب «إريك فروم» في كتابه الشهير «فن الحب» سردها كجوهر للحب بين المرأة والرجل، وذلك جميل كخيال علمي عن الحب، وحقيقة الأمر أن الحب بين المرأة والرجل يشبه أحياناً العداوة والحرب والغزو ورغبة الامتلاك والانتصار في الغزوات أكثر من الصداقة الإنسانية، والمودة. والأمومة تعلمنا «فن الحب» أي العطاء والتسامح. الأم أيضاً مخلوق طريف لا منطقي، فهي ببساطة مقتنعة بأن أولادها الأذكى والأجمل والأنقى. ولعل والدة هتلر كانت تجده أكثر الناس رقة، ووالدة هولاكو تجده طيباً ومظلوماً كما والدة نيرون الذي قتلها ولعلها وهي تموت اعتقدت انه لم يتعمد ذلك فالأم تجد الأعذار دائماً للإبنة والإبن. إنها فنانة روائية في حقل اختراع الأعذار. وحدها الأم تجد ابنتها أجمل من هيفاء وهبة طبعاً وأكثر ذكاء بالتأكيد من مدام كوري وأكثر أبداعاً من فدوى طوقان.. وتجد ابنها أكثر وسامة من توم كروز وأكثر عبقرية من أينشتاين وأكثر إبداعاً من شكسبير. الأم هي الأكثر لاعقلانية في كوكبنا، وهي محبوبة لذلك: هذا هو الحب! أمومة الرجال تأسرني الأم تفرح حين تتجاوزها ابنتها/ ابنها في كل حقل، حتى في القوة الشبابية الجسدية وأمامي صورة لي وأنا أحمل ابني طفلاً لم يتجاوز السنة من عمره، وأخرى وهو يحملني في مراهقته.. صورتان ترسمان الحقيقة الجميلة لفرحة الأمومة حاملة أم محمولة. ولكن الأمومة لا تقتصر على النساء بل تطال قلوب الرجال على نحو إنساني جميل. ولأنني فقدت أمي وأنا طفلة لا تعي عرفت قدرة الرجل على الأمومة من خلال أبي الذي أسبغ عليّ أمومته الرجولية، وثمة الملايين مثله. في عيد الأم نحتفل فقط بفصيلة «بيولوجية» هي الأنثى وننسى أمومة الرجال المؤثرة الصادقة التي لا تنقص عطاء وعاطفة وتضحية عن أمومة الأنثى.. وقد تفوقها أحيانا.. ثمة عيد للأب (في فرنسا على الأقل) لكنني أريد الاحتفاء بالرجل في «عيد الأم».. الاحتفاء بالملايين من الرجال الذين تدفقوا بحنان الأم على أولادهم حين غابت الأم، بل وخلال حياتها. أكرر: أمومة الرجال تسحرني وقلما يرصدها أديب أو شاعر ويخلدها في قصيدة أو عمل روائي. أمهات لم ينجبن ولكن... أريد أيضاً التذكير في «عيد الأم» بالنساء اللواتي لم ينجبن لسبب أو لآخر لكنهن تدفقن بالحنان نحو الأطفال كعمات وخالات أو نحو أطفال لا معرفة شخصية تربطهن بأهلهم بل معرفة إنسانية بالأطفال.. وبكل أمومة زاخرة بالعطاء. وأحب أن تتبنى المرأة سكب الحنان والعطاء دون محاولة احتلال مكان أخرى قصرت في واجبها كأم لسبب ما!! ثمة ملايين غمرن بالأمومة الأنسانية أبناء الآخرين كعاملة منزلية عاقر لدى جارتي تربي ابن (ضرتها) بحب لأن أمه مريضة بالسرطان وعاجزة عن ذلك... أمهات ونجمات استعراضيات عيد الأم أيضاً مناسبة أليمة يتذكر فيها الأولاد أماً فقدوها، في عيد ينكأ جرح فقدان الأم.. وكل فرحة في كوكبنا لدى البعض تقابلها غصة لدى آخرين.. «إنها الحياة» كما يردد الفرنسيون.. وبمناسبة «عيد الأم» أحب أيضا شجب استعمال بعض نجمات السينما والكليب (وغيرهما من وسائل الإعلام)، للأطفال كلافتات إعلانية استهلاكية، كنجمات يتصورن عاريات لإبراز بطونهن وهن حوامل في انتهاك لحرمة الأمومة لا يروق لي وفي صور في المجلات الغربية لبطون عارية حيث يقيم الطفل المسكين وكنكهة (إعلامية) جديدة.. حيث يتم استعمال الإبنة/ الإبن حتى قبل أن يولد كذريعة للظهور الاستهلاكي الإعلامي. وأنا امرأة الحرية ولكن في نظري للأمومة حرمتها وخطوطها الحمر. أمهات بلا أعياد أختم بوقفة أليمة مع فئة كبيرة من النساء العربيات يعني لهن «عيد الأم» مناسبة لفك قطب الجرح العميق حتى قاع القلب، وأقصد بذلك أمهات قتلى حروبنا المجنونة المحلية التي تفرح بها إسرائيل (ولا أنسى أحوان الأب أيضا المتحامل على جراحه بكبرياء التجلد).. وأحزان أمهات المخطوفين والمفقودين الذين لا نعرف مصيرهم والأمهات اللواتي يقفن على المفارق والساحات حاملات صورهم متسولات لخبر عنهم، وأصحاب مفاتيح السجون والقبور وأقبية التعذيب لا يشفقون ولا يبوحون بكلمة حق عن مصيرهم ولا تطلب الأم المسكينة غير حق معرفة مصير الإبن لدفنه مع الصلوات. وبمناسبة عيد الأم تذكرت بالحاح تلك المجروحة حتى قاع قلبها، والدة الطيار معاذ الكساسبة الذي أحرقوه في قفص ونشروا صورة ذلك الإعدام الهمجي في وسائل الإعلام لتراه الأم الثكلى والأب وبقية أفراد الأسرة.. أياً كان الذنب (المفترض) للشهيد معاذ، فإنه لا يبرر تلك الهمجية المتمادية باسم الإسلام. ذلك الذي أشعل النار، هل فكر بمشاعر أمه هو شخصياً حين ترى مثلاً من يشعل به النار؟ غادة السمان القدس العربي