ربما لم تعد مجدية كتاباتنا عن حياة الشاعر السوري الراحل نزار قباني، الذي رسم لنفسه قصة شهرة لن تنتهي طالما هناك من يبحث عن التغني بدمشق والحب والمرأة، هذا الثالوث الذي دمجه القباني بطريقة فريدة، فصاغ منه أعذب قصائده التي لا تزال حاضرة، ليس في ذهن السوريين فحسب، بل لدى كل من قرأ شعرا حمل توقيع القباني. لم تكن حياة القباني عادية على أي حال، وهنا نحن لا نبحث في ذلك الذي قرأناه في الكتب والمقدمات التي صاحبت الطبعات الأخرى من دواوينه التي تلت وفاته، حول كونه دبلوماسيا عريقا، أو حقوقيا لم يمارس المهنة واكتفى منها بشهادة تخرج جامعية، إنما نبحث عن تلك الحياة التي يمكن استنتاجها من بين سطور قصائده التي عكست بشكل واضح ما مر به الشاعر على مدى أكثر من سبعين عاما عاشها. فمنذ «قالت لي السمراء» أظهر القباني ملامح الظلم الذي يشعر به.. ظلم مفاده أنه شاعر من لحم وحبر، يظلمه من لا يرى قلبه على الورق، ليقدم نفسه إلى قرائه بأولى القصائد التي حملت رجاءه ب»سألتك بالله كن ناعما.. إذا ما ضممت حروفي غدا.. تذكر وأنت تمر عليها .. عذاب الحروف لكي توجدا». هكذا كان نزار واضحا مع قارئه منذ أولى كلماته، فلم يترك معه أي مجالا لفجوة ربما تبعد جمهوره عنه، بل كان بسيطا إلى الحد الذي أصبحت فيه أشعاره على كل لسان، بكلمات قريبة إلى القلب غير شائكة العبور في العقل، غزيرة الصور وواضحة المعنى. لم تكن المرأة لدى الدبلوماسي الدمشقي، وسيلة للهرب من أعباء عمل، أو مطية للوصول إلى غايات، بل كانت رسالة آمن بها وأدرك أن لا جدوى من أي تطور يصيب مجتمعه في ذلك الوقت من دون أن تكون المرأة عصبا أساسيا فيه. كان حبه لها أبيض، وواضحا من غير إنقاص في قدرها، فهو القائل في إحدى عباراته إنه حاول دائما أن يرفع المرأة في أشعاره من دائرة صنوف الأطعمة والمشروبات، إلى منصة الورود والأزهار. لم يكتب للقباني أن يعيش في دمشق التي عشقها طويلا، فهو الدبلوماسي في عهد الشباب الذي عاشه متنقلا بين عشرات الدول، من دون أن يستقر في إحداها، وهو المستقيل المبعد قسرا عن بلاده التي أكلها الاستبداد، إلا أن كل ذلك جعل من دمشق نفحة جميلة من الكلمات التي كتبها عنها في قصائده الدمشقية الشهيرة التي بين فيها حب الذباح لمدينة الأمويين. كان القباني عاشقا للمدن الجميلة.. «فهذي دمشق وهذه الكأس والراح..» وهذه بيروت ست الدنيا».. «وتونس الخضراء التي جاءها عاشقا» .. ومصر قصيدة المياه، والجسور والمآذن الوردية، وزهرة اللوتس وكتابة زرقاء فاطمية، الصابرة، الصامتة الطيبة، النقية. وأنت في دمشق، لا يمكن أن تمر في شارع إلا وتذكر شعرا لنزار تغنى فيه بمدينته الأصيلة، فما من بيت دمشقي إلى عانقه نزار بكلمة، وما من مئذنة شامية إلى بكت نزار عند وفاته، وهو القائل « مآذن الشام تبكي إذ تعانقني.. وللمآذن كالأشجار أرواح.. هنا جذوري هنا قلبي هنا لغتي... كيف نوضح هل في العشق إيضاح». عشق القباني دمشق فكانت ميسونه التي أحبها، وأرض الفل الأبيض والماء الذي يجري والحب الذي يبدأ ولا ينتهي عند أهلها الذين عشقوا الجمال فذوبوه وذابوا فيه، كانت دمشق عنده أرض الفتح، ف»الدهر يبدأ من دمشق... وعندها تبقى اللغات وتحفظ الأنساب»، كانت دمشق دوما أرض العرب الأولى التي تعطي للعروبة شكلها وبأرضها تتشكل الأحقاب. سبعة عشر عاما مرت على وفاة نزار قباني في لندن، ودفنه في دمشق، عملا بوصيته التي وصفها فيها المدينة ب»الرحم الذي علمه الشعر والإبداع وأبجدية الياسمين»، سبعة عشر عاما ومازالت قصائد القباني حاضرة فينا كأنها كتبت هذه اللحظة. شاعر سوري عبد السلام الشبلي القدس العربي