على نحو، لم يكن متوقعاً لدى كثيرين، تصاعد الخلاف بين الأمين العام للمؤتمر الوطني – وقتها - الدكتور حسن الترابي الأمين، وبين الرئيس البشير.. تصاعدٌ جعل عجلة الشقاق تدور سريعاً لتصل إلى محطة مفاصلة الرابع من رمضان. وعندها توقف كلُ شيء، وبدأ كلُ شيء.. توقف المشروع السياسي والفكري المرتكز على كاريزما وشخصية الترابي. وبدأ مشروع سياسي آخر يرتكز على سطوة البزة العسكرية ومدرعات الجيش. ظهور غير متوقع وعلى ذات النحو المفاجئ، خبت شموعُ بعض الفاعلين في المشهد السياسي، وخفت صوتُ بعض النافذين حتى استحال إلى همس، كإفراز طبيعي للصراع بين تياري القصر والمنشية. وهو ما أدى لاحقاً إلى ظهور شخصيات لم تكن جزءاً من سيناريو الصراع، ولم تكن في دائرة التأثير أو صنع القرار. وبنظرة خاطفة إلى تلك الأيام، سنكتشف أن أكبر المستفيدين من مفاصلة الإسلامين، هم أصحاب مذكرة العشرة الذين جهروا بصوتهم، في وجه الدكتور الترابي، حينما لم يكن أحد ليتجرأ على فعل ذلك. فيومها خرج فتية في المؤتمر الوطني وجهروا برأيٍّ مخالف للمزاج العام الذي كان نزاعاً لتقديس الترابي، والانصياع إلى آرائه وتنفيذ رغائبه وتوجيهاته دونما مناقشة. هذا الرأي الجهير المخالف للرأي العام في الإنقاذ، جعل كثيرين يشفقون على من مهروا أسماهم في مذكرة العشرة. وبالمقابل هناك من أرسل إليهم الحُنق واللعنات. لكن ما هي إلا عام ويومان فقط من إشهار مذكرة العشرة في وجه الترابي، حتى حدثت المفاصلة الشهيرة، ودانت السيطرة – بصورة أو بأخرى – إلى مجموعة العشرة، التي تنفذت بصورة كبيرة، وأحكمت قبضتها على مفاصل الحزب والدولة، قبل أن يقوم البشير بتفكيك تلك القبضة مؤخراً من خلال تعديلات تنفيذية وحزبية مباغتة طالت ركائز الإنقاذ. لكن ذلك لن يلغي القول بأن أصحاب مذكرة العشرة حصدوا ما زرعوه بمجاهرة الترابي في أيام سطوته المطلقة، برأيٍّ يجافي ما تشتهي نفسه. مكافأة الجرأة ما أن اُخرج الترابي من دائرة الفعل السياسي حتى اندغم فيها، وانسرب إلى مفاصلها بعض تلامذته، مثل الدكتور نافع علي نافع والدكتور غازي صلاح الدين والراحل البروفسور أحمد علي الإمام، وإبراهيم أحمد عمر وسيد الخطيب ومطرف صديق. وهناك من عاد إلى الأضواء مجدداً مثل القيادي التاريخي عثمان خالد مضوي. هذا على مستوى السياسيين، أما أصحاب البزة العسكرية فكان شأنهم عظيماً بعد المفاصلة، وخصوصاً العميد – حينها – بكري حسن صالح الذي مهر توقيعه في مذكرة العشرة، حينما تم تسليمها له لعرضها على البشير. ويومها لم يتردد الجنرال بكري في إلحاق اسمه بكشف الموقعين على المذكرة الداعية إلى تقليص الصلاحيات المطلقة للترابي. وهو ما اعتبره أصحاب المذكرة نصراً كبيراً – وفتحاً لم يكن متوقعاً - على اعتبار أن وجود العميد بكري حسن صالح سيُضفي على المذكرة رمزية القوات المسلحة. ولعل هذا سيجعل الجنرال يستفيد من هذه المزية كثيراً، وسيجعله يتدرج في الرتب ويترقى في المناصب التنفيذية، بل وسيُمكنه – بعد خمسة عشر عاماً – من الجلوس على كرسي النائب الأول لرئيس الجمهورية في إزاحة جديدة للفاعلين السياسيين من المخضرمين والقدامى. وجوه جديدة تلا صعود أصحاب مذكرة العشرة إلى كابينة التأثير، بروز بعض القيادات ممن كانوا يُوصفون بأنهم قيادات وسيطة، إلى العلن، وأضحوا بالتالي جزءاً فاعلاً في المشهد السياسي، سواء كان في المؤتمر الوطني أو المؤتمر الشعبي، الذي أنشأه الترابي بضاحية المنشية، بعدما تم ابعاده من النادي الكاثوليكي بشارع المطار. وهنا تبرز قيادات مثل كمال عبد اللطيف وأسامة عبد الله وحتى مصطفى عثمان الذين يُشاع أنه دفع باستقالته إلى الترابي من منصبه كوزير للخارجية، صبيحة المفاصلة، لكن الترابي رده بلطف، وحرضه على الخطوة بذكاء، حينما باغته بقوله: "إنه – أي الترابي- ليس الجهة التي تُقدّم إليها الاستقالات". في إشارة إلى أنه ينبغي أن تكون الاستقالة على طاولة الرئيس البشير، على اعتبار أن مصطفى عثمان إسماعيل يتسنم منصباً تنفيذياً وليس حزبياً. هذا على مستوى المؤتمر الوطني، أما في دوائر المؤتمر الشعبي، فهناك شخصيات كثيرة صعدت إلى الأضواء بصورة سريعة جداً، بعدما استفادت من هبوط أسهم الكثيرين في بورصة الفعل السياسي. وهنا تشير الأصابع بحماس طاغٍ نواحي أبو بكر عبد الرازق، وكمال عمر. والأخير طار بسرعة الصاروخ في سماء المؤتمر الشعبي وفضاء السياسة العريض، حتى أضحى أحد ثوابتها. ومن الراجح – بل من المؤكد - أن أسماع كمال عمر قد طرقها – كثيراً - الحديث حول أنه لم يكُ شيئاً مذكوراً قبل المفاصلة. لكن كمالا يرد بلطف، بأنه ضمن قلة قليلة قادت سفينة العمل الحزبي والتنظيمي أثناء المفاصلة وقبلها بكثير. بل إن كمالاً يُنكر على هؤلاء قولهم، إنه استفاد من تراجع القيادات التاريخية، ويقول إن كل من ظهر نجمه بعد المفاصلة، يستحق أن ينال لقب الصامد، ذلك أن مغالبة التضييق الكبير الذي مارسه جناح القصر على جناح المنشية، لم يكن أمراً سهلاً، وجعل كثيراً من قيادات الشعبي تقفل راجعة إلى النادي الكاثوليكي حيث السلطة والمال والجاه، وحيث اللا مطاردة. وكثيراً ما أشار كمال إلى أن تلك الأيام العصيبة عجمت عود الكثيرين، وقدمتهم لمنصة القيادة. الصيحة