تشهد الساحة السودانية منذ يونيو المشئوم 1989، مجموعة من الكوارث والأزمات المُتلاحقة والمُتزايدة بسرعة مُدهشة وبلغنا حدوداً غير مسبوقة من التراجُع، وأصبحت الكتابة في أي منها أمراً غاية في التعقيد! فجميعها موضوعات مُهمَّة وذات علاقة قوية بالسودان وأهله، وجميعها تتَّسم بالحِدَّة وانعكست سلباً على الوطن والمُواطنين، منها ما هو سياسي وأخطرها القتل والتشريد والاغتصاب والاعتقال، ومنها ما هو اقتصادي كأزمة الكهرباء والمياه وارتفاع الأسعار وغياب السلع الرئيسية، ومنها الثقافي/المعرفي والاجتماعي. وهي قضايا رغم قوَّتها وأثرها، يبقى تجاوُزها وعلاجها (مُمكناً) حتَّى ولو طال الأمَدْ، بعكس بعض ال(كوارث) التي يصعُب علاجها مهما طال أَمَدَها، لأنها نَشَأَت بال(تفريط)، الذي يرتقي لل(خيانة) كالتنازُل (طواعيةً) و(بمواثيق) مكتوبة عن أجزاء من الوطن والتفريط في سيادتنا الوطنية واستقلالنا، وهو ما دفعني للكتابة في الموضوع أعلاه. مقالة اليوم أساسها إعلانين غريبين أرسلهما لي أحد الأصدقاء المُقيمين في الخارج، لمشروع الكنانة للتنمية الأفريقية المُقام في أقصى شمال السودان (خارج مُثلَّث حمدي) على مساحة مليون فدان. الإعلان الأوَّل لمشروع الثروة السمكية (ضمن مشروعات الكنانة المذكورة)، تدعو إدارته مراكب الصيد (المصرية) للمُشاركة بصيد الأسماك والعمل في بُحيرة النوبة (السودانية) بال(تعاوُن) ال(كامل) و(بتصريحٍ) من حُكومة السودان، بهدف زيادة إنتاجية الأسماك من بُحيرة النوبة والسيطرة على ارتفاع أسعارها في الأسواق (دون توضيح الأسواق المعنية المصرية أم السودانية؟!)! في ما جاء الإعلان الثاني بترويسة شركة الكنانة أرابيان للاستثمار، تطلب فيه شباباً مصريين وسودانيين من الجنسين للعمل في مشروع زراعة مليون فدان بالسودان! والمُلاحظ أنَّ الإعلانين لم يُنشَرا في السودان بأي شكلٍ كان (صُحُف، فضائيات، إذاعة، بوسترات وغيرها)، ولم يسمع بهما أحد (في ضوء استفساري لعددٍ من الخُبراء الزراعيين والاقتصاديين والمُتخصصين والأهل والأصدقاء وغيرهم)! وقد تَذَيَّل الإعلان الأوَّل (الخاص بالأسماك) رقم هاتف محمول (مصري) دون وضع مفتاح الدولة، مما يعني (عملياً) حصره في مصر، وجاء الإعلان الثاني وفي آخره عُنوان بريد إلكتروني! وسواء كان هذا أو ذاك، فإنَّ هذا المشروع، في ظل التجاوُزات المصرية ال(واضحة) في حق السودان، يعكس استمرار خيانة البشير وعصابته الفاضحة للسودان وأهله، وانهزامهم وعدم أهلِّيتهم لإدارة البلد، وذلك استناداً لعددٍ من المُعطيات والمُؤشرات التي سنستعرضها في السطور اللاحقة. فالمعلوم أنَّ مصر تحتل حلايب، رغم مُحاوُلات تجميل هذا الاحتلال بالعبارات الانهزامية من مُتأسلمي الخرطوم، على غرار ما ذكره مُؤخَّراً مُصطفى عثمان اسماعيل، بصحيفة آخر لحظة السودانية الصادرة في 13 يوليو 2015، أنَّهم تمكَّنوا (بمُساعدة الأمير الراحل سعود الفيصل) من احتواء أزمة عصابتهم مع مصر عام 1995، عقب اتِّهام البشير بمُحاولة اغتيال حسني مُبارك في أديس أبابا، دون توضيح كيفية احتوائهم لتلك الأزمة وما قدَّموه لاسترضاء مصر، إلا أنَّ واقع الاحتلال المصري لحلايب يشرح ما فعلوه! ولعلَّ البشير وعصابته لم يكتفوا بالتنازُل عن حلايب الثرية بأهلها الكرام (دمنا ولحمنا)، ثم بثرواتها المُتنوعة من بترولٍ وغازٍ وذهب، وإنَّما تَبِعَ ذلك التنازُل عن العوينات السودانية لمصر، بخلاف آلاف الأبقار والمواشي والسيَّارات التي منحوها للمصريين دون رقيبٍ أو حسيب! مُقابل الصَمْت المُخزي للبشير وجماعته، انفتحت شهية المصريين وازدادت أطماعهم لابتلاع المزيد من الأراضي السودانية، فتَمَدَّدت في العُمق السوداني من جهة مُحافظة وادي حلفا والتهمت كل الأراضي الواقعة شمال المُحافظة بما في ذلك البوابة الحدودية التي أسموها (اشكيت)، وهي في الواقع تقع بمنطقة (دبروسة) على بُعد خمسة كيلومترات فقط من وادي حلفا. وعلى هذا، فإنَّ مصر احتلَّت (فعلياً) كلٍ من عُمُودِيات الصحابة واشكيت ودبيرة وسره (شرق وغرب) وفرص (شرق وغرب) وثلاثة أرباع أرقين، حيث احتلَّ المصريون غرب أرقين بالكامل ولا يزال زحفهم مُستمراً نحو الجنوب وشارفوا شمال دارفور! وأطماع مصر في السودان لا تحدُّها حدود، وستزداد لتشمل مناطقاً أخرى من السودان، سواء في أقصى الشمال (وهو ما يجري حالياً) أو الشرق الذي التهموا منه حلايب ويسعون لابتلاع المزيد! ولم يكن لهم تحقيق هذا الأمر، لولا انهزامية البشير وعصابته، الذين لم ولن يتوانوا عن بيع أي شيئ مُقابل بقائهم وإشباع شهواتهم السلطوية والمالية، ودونكم تصريحاتهم الرسمية التي تشجع مصر (علناً) لالتهام المزيد من أراضينا، كمُطالبة وزير خارجية البشير السابق بإزالة الحدود مع مصر وعدم الاعتراف بها من أساسه! لسنا ضد التعاوُن، بل والتكامُل، مع مصر أو غيرها إذا تمَّ بنحوٍ عادل يحفظ للسودان وأهله حقوقهم وكرامتهم وسيادتهم على أراضيهم التي دفع نفرٌ كريمٌ من أبناء السودان روحه لأجلها، ولكن ما يجري الآن احتلال مصري (فاضح) لأراضينا وسلبٌ لسيادتنا الوطنية ونهبٌ لحقوقنا، مع (خيانة) عُظمى من البشير للسودان وأهله، وهي جرائم إضافية لجرائمه في حق البلد وأهلها. فبعد كل هذا الصَلَف المصري، الذي بلغ درجة (مَنْعْ) الصيادين السودانيين (أبناء حلفا وما حولها) من صيد الأسماك بقراهم ومياههم، بل وفرض رسوم وعقوبات على من يخالف هذا المَنْع المصري كيف نَسْمَح للمراكب المصرية بأخذ ثرواتنا السمكية عياناً جهاراً وباتفاقيات مكتوبة؟! كم هَزَّني موقف الحاجة (طاهرة) التي رفضت (تَرْكْ) أرضها وأرض أجدادها في (قسطل) بالنوبة القديمة، استجابةً لمُغريات المصريين من مياهٍ وكهرباء، أو (انكساراً) لتهديداتهم أو مُضايقاتهم غير الأخلاقية على النحو الذي احتواه تسجيلها الشهير في الوصلة التالية وعرضته قناة الجزيرة الوثائقية باسم الحاجة طاهرة، والذي أكَّدت فيه (صمودها) وعزمها على البقاء في أرضها مهما حدث، وهي رسالة بليغة لنا كسودانيين بعدم التهاوُن في حقوقنا والدفاع عن كرامتنا وسيادتنا الوطنية، ومن ذلك مُناهضة الاحتلال المصري المُتزايد لأراضينا، والإسراع باقتلاع البشير وعصابته المُغامرة. . إنَّ دعوتي للسودانيين الشرفاء بصفةٍ عامَّة، وللقانونيين والإعلاميين بصفةٍ خاصة لمُناهضة هذا المشروع الداعم لتكريس الوجود المصري بأرضنا تمهيداً لنهبها وابتلاعها كما فعلوا في غيرها، وليتساءل الجميع بهدوء كيف ومتى وعلى أي أساس أتت هذه الكنانة لتطرح مشروعاتها الضخمة هذه؟ وأين ومتى تمَّت دراسات هذه المشروعات؟ ومن الذي أعدَّها وقام بتقييمها وما هي نتائجها والعوائد المُتوقَّعة ونصيب السودان منها؟ ثم ما هي بنود الاتفاقية التي بمُوجبها مُنِحَت هذه الأراضي لمصر؟ وأين أبناء السودان من كل هذا؟ والأهم من هذا لماذا يُمْنَعْ أهل البلد من الاستفادة من هذه المشروعات وتُتاح للغير؟ وسواء وجدنا إجابات أو لم نجد – وهو المُتوقَّع – فلنتحرَّك الآن قبل الغد، وهنا يأتي دور القانونيين لاتخاذ ما يجب من خطوات وإجراءات قانونية على كافة الأصعدة الدولية والإقليمية، بالتزامن مع جهود الإعلاميين لمُناهضة الأمر، بل وإيقافه ولو بالقوة، عبر الحشد الجماهيري والتوعية المُتواصلة والكثيفة بأبعاد هذه الكارثة الآنية والمُستقبلية. وعلينا ألا ننتظر خيراً من البشير وعصابته، الذين عملوا على تمزيق السودان وتفتيته عبر مُثلَّث حمدي الذي حدَّدوا فيه ما يريدونه من السودان وأهله، فكان أقصى شمال السودان من المناطق التي استبعدوها (أي خارج المُثلَّث)، وها هم الآن يُواصلون ويُنفِّذون خطتهم لجعلها أمراً واقعاً، عبر سيناريوهات مُختلفة سبق وشرحناها في مقالاتٍ سابقة، ويبدو أنَّهم شرعوا في الجُزء الخاص بأقصى الشمال والشرق، بعدما قطعوا أشواطاً لتحقيق مُبتغاهم في كلٍ من دارفور والمنطقتين، فاجتهدوا يا أهل السودان للحفاظ على ما تبقَّى من سوداننا.. وللحديث بقية. [email protected]