نسمات باردة بدأت تداعب جسد الحزب الشيوعي، أصبح الحديث ممكنا وبصوت مرتفع، ربما أخيرا اهتدى الكثيرون إلى حقيقة أن الصراع الفكري الحر خير وأبقى، فصار كل بما لديهم فرحين، يعرضون بضاعتهم في هواء الأسافير الطلق وفي الصحف السيارة والملتقيات وما يذكر فيه اسم الحزب، وما يكتبون، كان الحديث محرما خارج القنوات الحزبية، ولا شيء يمر إلا عبر المواعين الحزبية، لكن فيما يبدو أن المواعين قد ضاقت تماما وصارت كأنها قد صممت لخدمة تيار معين، وبعد أن كان الرفاق يؤدون صلاتهم سرا، الأن انتقل الكثير منهم إلى صلاة العلن باحثين عن مخرج وعن إجابة عن سؤال "ما العمل"؟!. تحقيق: علاء الدين محمود بيان رقم (1) أتينا في الحلقة السابقة على ذكر "بيان اللجنة التمهيدية لمقاومة تصفية الحزب الشيوعي"، وهو البيان المسمى بالبيان رقم (1) من عجب أن بيان رقم (1) أو البيان الأول ارتبطت على الدوام بالانقلابات العسكرية فهل كان الأمر انقلابا داخل الحزب الطليعي.؟!. تلك المجموعة المجهولة شنت هجوماً عنيفاً على قيادة الحزب- آنذاك- واتهمتها بطريقة مباشرة بالسعي إلى تصفية الحزب، وانتزاعه من جذوره الطبقية، "ليصبح واحداً من أدوات البرجوازية والرأسمالية الطفيلية"، وحذّر ذلك البيان من أنها لن ترضى بمسعى "القلة المتحكمة في أمر الحزب لتنفيذ سياسات الأمبريالية لتصفية الحزب الشيوعي بدعاوى التجديد"، وقال البيان رقم «1» للجنة: إن اتجاه التصفية بدأ باقتراح بتغيير اسم الحزب، ثم طرح لائحة جديدة «أقل ما يمكن أن توصف به أنها أكثر تخلفاً من دستور "الاتحاد الاشتراكي" وأضاف البيان- المجهول النسب- أن القيادة الحالية بدأت هجوماً محموماً على المركزية الديمقراطية للقضاء على المبدأ التنظيمي الذي يحمي جسد الحزب ويمنع الفوضى والتكتلات، وكانت هذه اللجنة المجهولة قد نجحت في اختراق أسوار بيوت معظم قيادات اللجنة المركزية للحزب الشيوعي ورمت بيانها هذا داخل بيوت قيادات الحزب في توقيت واحد، وهو الأمر الذي كان مدعاة للتساؤل عمّا هي الجهة التي تمتلك هذه الإمكانيات التي تستطيع الوصول إلى قادة الحزب الفاعلين ولو كانوا في بيوت محصنة أو تخفوا وراء جدر؟!. بعض قادة الحزب وجهوا أصابع الاتهام صوب الأجهزة الأمنية وأعداء الحزب" بكتابة ذلك البيان لزعزعة وضرب الحزب الشيوعي، ويشير أخرون من دونهم إلى أن احتمالا آخر أن يكون البيان (صنيعة) جهة خارج الحزب تتعجل لحظة المفارقة بين الحزب ومرجعياته الفكرية. الأشباح تتجول طليقة!.. وربما كان من المصادفة- وحدها- أن يكون الأستاذ الحاج وراق أول الذين علقوا على هذا البيان، وقد يكون غير ذلك بذات الدرجة. وراق- وقتها- كان قد فارق الحزب معلنا انهيار الماركسية وأفول شمسها بسقوط ما أسماه ب (عظم ظهرها المتمثل في "دكتاتورية البروليتاريا")، الحاج وراق بجانب تنسمه موقعا قائدا في حركة (حق) التي أبصرت النور في النصف الأول لتسعينيات القرن الماضي كان يكتب عمودا راتبا في صحيفة (الصحافة) وقد تناول أمر تلك المجموعة المجهولة وبيانها في زاويته (مسارب الضي) تحت عنوان "بعاتي يحوم في سماء الخرطوم" استدعى الحاج وراق- الذي كفر بالماركسية كما أسلفنا- مقولة فيلسوف الشيوعية كارل ماركس في "البيان الشيوعي" "هنالك شبح يجول" ليحاجج الشيوعيين بما علموه من الكلم، ليستبدل وراق الشبح ب (البعاتي) على طريقة الميثولوجيا السودانية، قائلاً: "وكما في الأحاجي فإن الجثة التي لا توارى الثرى تقوم ك (بعاتي)"، ويرى وراق أن البعاتي المسمى «لجنة مقاومة التصفية» كان تعبيرا صارخا عن مهمة لم تنجز بعد داخل الحزب الشيوعي، وهي مهمة مواراة الميت في أفكار وبرنامج ونظم بناء الحزب الشيوعي، ويشير إلى إن (البعاتي) هذا لا يستعين بالاكليشيهات الدوغمائية السابقة- وحسب- وإنما كذلك يرفع أكفان الموتى بيارق حرب! دماء الشهداء!، صيحة الخائفين من الجديد في شتى الضفاف!،.. ولكن دماء الشهداء تجدد، والحياة تمضي، رغم أنوف الخائفين" . لم يكتف وراق بذلك- فقط- لكنه يتهم سكرتير الحزب الشيوعي- وقتها- محمد إبراهيم نقد بعدم الإسراع في إنجاز هذه المهمة!. نقد متردداً تأويلات وراق تلك أشارت بطرف خفي إلى أن محمد إبراهيم نقد كان مؤمنا بضرورة التغيير، ويوضح وراق تلك النقطة بالقول متحدثا عن نقد: "لكنه مع ذلك يتردد ولا يحزم.. فبدلاً من الشروع في تحويل حزبه من حزب شيوعي إلى حزب ديمقراطي اجتماعي «اشتراكي»، بما يعني إعادة توجيه عضويته فكرياً وتربوياً، بدلاً من ذلك ظل الأستاذ نقد يراوح ويتردد!- وإن برر لنفسه ذلك بضرورات «التكتيك»- أي ضرورة الحفاظ على وحدة الحزب - فأظنه لم يطرح على نفسه قضيتين أساسيتين، الأولى أن الأسس التي يتوحد عليها الحزب أهم من الوحدة- في ذاتها- والثانية فكرية وأخلاقية، وأعني قضية الصدق مع النفس ومع الآخرين، أو ما يعرف في المصطلح المعاصر بالشفافية، ويُعرف في العامية السودانية ب «عدم دس الذمة". وراق في الكلمات السابقات يرى أن نقد توصل- فعليا- إلى ضرورة تحويل الحزب من شيوعي إلى اشتراكي إلا أن التردد وعد الصدق مع النفس حسب وراق حالت دون أن يسير نقد في هذا الاتجاه"!. ويكيل وراق لنقد الاتهامات ولكأن نقد قد توصل- فعليا- إلى ما توصل إليه وراق، وجعله يخرج عن الحزب الشيوعي، ويقول وراق:" لقد توفرت للأستاذ نقد وعلى مدى عشر سنوات أن يواري جثة الشيوعية التي توفيت الثرى، وفرصة أن يعيد توحيد اليسار والقوى الحديثة على قاعدة الديمقراطية الاجتماعية، لكنه لم يفعل، تردد ولم يجد العزيمة الكافية". تلك كانت كلمات الحاج وراق، وتشير بلا مراء الى أن نقد كان يقف الى جانب من يريدون تغيير طبيعة الحزب ومن المؤمنين بسقوط الماركسية الا انه كان مترددا في تغيير الحزب الشيوعي إلى حزب ديمقراطي اشتراكي أو اشتراكي ديمقراطي.. الخ، المهم ألا يستمر حزبا ماركسيا، ويرى وراق أن ذلك البيان يدشن عملياً نشوء مركز قيادي موازٍ ومعارض لقيادة الحزب الشيوعي القائمة حالياً، بل ويذكر وراق محمد إبراهيم نقد بما كان عنه يحييد عندما قال: "إن الواقعة التي ظل الأستاذ نقد يحاول تفاديها طوال السنوات السابقة" قد وقعت، فوراق يحكم على نقد بأنه على عكس «لجنة مقاومة التصفية»، الذين يقول عنهم وراق: "يبدو أن هؤلاء من الناشطين السياسيين والنقابيين، جذبتهم الشعارات الماركسية العامة، ولم يتوفروا على اطلاع عميق بها، إضافة إلى ضعف إلمامهم بالتجربة الواقعية لتطبيق الماركسية في المعسكر الشرقي السابق وما جرته من جرائم ومآسٍ إنسانية، ولضعف إلمامهم بالمتغيرات التأريخية وبتطور الفكر العالمي، لكل هذه الأساب فإنهم لا يستشعرون أزمة الشيوعية، وما زالوا يهنأون في «تعسيلة» الدوغمائية اللذيذة"، بينما يرى وراق أن محمد إبراهيم نقد على عكس هؤلاء فهو يعلم أن ضحايا التجميع الزراعي والقمع الوحشي في الاتحاد السوفيتي السابق يقدرون بنحو 20 مليون ضحية!، ويعلم أن ضحايا الثورة الثقافية الصينية 5 ملايين نفس، وأن الأستاذ نقد يعلم ذلك وأكثر منه، يعلم بأنه أينما طبقت «المركزية الديمقراطية»-، أينما طبقت دون أي استثناء- أنتجت طغياناً قيادياً. ويعلم أن الاقتصاد البيروقراطي المركزي- رغم الإنجازات الاجتماعية التي حققها،- فإنه بكبحه للحوافز الفردية وللمبادرة والإبداع قد أجهض التطور العلمي والتكنولوجي، وأهدر الموارد، ولوث البيئة، وفرض خيارات قلة بيروقراطية متميزة باعتبارها خيارات المجتمع، وأنه بدلاً عن وعود «لكل حسب حاجته» أقام في الواقع اقتصاد الصفوف". إتمام المهمة ويخلص وراق مما سبق إلى دعوة محمد إبراهيم نقد بالسير في اتجاه دفع الحزب إلى التخلي عن مرجعياته النظرية والفكرية وإتمام مهمة مواراة الميت في أفكار وبرنامج ونظم بناء الحزب الشيوعي حتى يذهب "البعاتي" الذي يلوح به بعيدا عندما يقول: "نقد يعلم كل ذلك، وأظن أن له من سلامة الوجدان ما يجعله يأنف أن يجرع شعبه وصفة ثبت أنها غير فعالة في علاج الأمراض التي وصفت لها، وأن آثارها الجانبية عالية الكلفة الإنسانية، وأنها تقادمت وفقدت صلاحيتها منذ زمن". ومن الواضح أن وراق وجد في ذلك البيان ضالته ليطلق أفكاره التصفوية مجدا ومن أجل المسارعة في هذه العملية بل إن وراق لم يتورع من أن يقول إن السكرتير السياسي للحزب- حينها- محمد إبراهيم نقد كان يدعو إلى ذات ما دعا إليه هو من قبل- أي أن وراق وضع محمد إبراهيم نقد ضمن التيار الداعي إلى أن يتخلى الحزب الشيوعي عن الماركسية التي- حسب وراق- لم تصنع غير الطغاة في كل العالم، فوراق يدعو إلى "دمقرطة" الحزب، غير أن وراق- ذاته- خاض تجربة سياسية فيما بعد جافى فيها كل تلك الدعوات الديمقراطية النبيلة، عندما أعمل سيف الفصل في رقاب الكثير من عضوية حركة "حق" الوليدة بتهمة "التعاون مع جهاز الأمن"!. ادّعاء تصدى الراحل فاروق كدودة- في حوار أجرته صحيفة الصحافة حينها- لما خطه الحاج وراق رافضا لما جاء فيه ويقول كدودة: "إن (البعاتي)- كما نعلم- يأتي بعد الموت فيبدو من عنوان المقال أن وراق يفترض أن هذه الدعوة قام بها أعضاء في الحزب الشيوعي، بقوله: إن قيادة بديلة قد نشأت أو في طور التكوين وأيضاً يعتمد على افتراض- لا أتفق معه فيه- وهو أن (بعاتي) يحوم في سماء السودان بعد موت الحزب الشيوعي، وقد يكون الاشتراكية- ذاتها- فكراً.. وأشكره على هذا الاجتهاد لكنني أطلب منه أن يعيد قراءة البيان المقصود فقد تساعده تجربته في الحزب الشيوعي لاكتشاف أن لغة البيان ليست هي اللغة التي يعرفها، والطريقة التي أعلن بها البيان موقف، ليست طريقة أعضاء الحزب الشيوعي؛ لذلك قد يتفق معي وراق أن هذا البيان هو "البعاتي" الذي يأتي بعد موت الادعاء بأن الفكر الاشتراكي قد انتهى إلى غير رجعة، وأن الأحزاب الاشتراكية والشيوعية لا مستقبل لها، والواقع أن الدعوات المحلية والعالمية بانسحاب الفكر الاشتراكي من معترك الصراع العالمي الفكري الذي نشط بعد انهيار أوروبا الشرقية "النظم الاشتراكية" هو الذي تراجع الآن وقد يكون مقدماً على الموت بدليل بقاء الحزب الشيوعي السوداني بعد كل ما تعرض له، واستعادة حيوية الأحزاب الشيوعية والاشتراكية في أوروبا، وفي الاتحاد السوفيتي- نفسه؛ لذلك الدعوة لكل القوى الاشتراكية للمساعدة في تجديد الفكر الاشتراكي- فكرا وممارسة- والأخ وراق له من القدرات ما يمكنه من المساهمة في ذلك". لكن وراق في غمرة انفعاله بذلك البيان ومؤاخذته نقد على عدم إكمال مراسم دفن الحزب بمنهجه القديم نسي أن يسأل نفسه سؤالا لماذا لم يتخذ نقد طريقه في هذا البحر سربا؟، هل هناك قوى داخل أو خارج الحزب وقفت حائلا أو سدا منيعا أمام تحقيق أمانيه التي طالما داعبت مخيلته- كما يشير وراق- وما الذي منعه من مطاردة الشبح أو (البعاتي) إلى خارج أسوار الحزب، ما الذي دفعه إلى التعايش معه حتى أغمض الجفن، ومضى بعيدا؟، تساؤلات شتى سنتطرق إليها لاحقا في حلقاتنا القادمة. دسيسة في أروقة الشيوعيين!.. كدودة يرى في بيان "لجنة مقاومة تصفية الحزب الشيوعي" بيان مدسوسا نافيا أية صلة لعضوية حزبه بالبيان، وأن البيان يأتي في سياق حملة معادية للحزب الشيوعي. ويحكي كدودة قصته مع البيان قائلا: في الرابع والعشرين من شهر مارس الماضي فوجئت بمظروف داخل منزلي يحوي البيان المشار إليه ممهورا بتوقيع مجموعة أطلقت على نفسها لجنة مقاومة تصفية الحزب الشيوعي. قرأت البيان فعرفت أن فيه نداء لأعضاء الحزب والمتعاطفين معه للعمل على مقاومة اتجاه تصفية الحزب الذي تقوده قيادة الحزب- نفسها، وأميل إلى اعتقاد راسخ بأن هذا البيان صادر من جهة معادية للحزب الشيوعي". المركزية الديمقراطية مرة أخرى.. يستعين كدودة بتصريحات الناطق الرسمي للحزب الشيوعي، الذي وصف البيان بالمدسوس، ويرى كدودة أن ما يعزز هذا التفسير هو أن قضية المركزية الديمقراطية التي تشكل جوهر البيان ليست أهم قضية تواجه الحزب الشيوعي الآن، واتجاه تغيير اسم الحزب ليس هو القضية المركزية في مسار تجديد الحزب.. ويرى كدودة أن الأمر كله يتعلق بتجديد الحزب- عموماً- وتجديد برامجه ورؤاه في ظل التحولات الكبرى التي يشهدها العالم والسودان، ويقول: هذه هي القضية ولذلك فإن من أصدروا البيان غير متابعين لما يجرى داخل الحزب الشيوعي، ورجح كدودة أن تكون هذه مجموعة من خارج الحزب وليسوا أعضاء فيه. ويرى كدودة- أيضا- أن صياغة البيان- نفسها- لا تشبه لغة الشيوعيين والبيان- ذاته- خروج على المركزية الديمقراطية التي يتباكون عليها ويتهموننا بالخروج عنها.. داخل الحزب متاح الحديث عن الإبقاء على مبدأ المركزية الديمقراطية أو تطويرها أو إلغائها لذلك ليس هناك مبررات أن يتخذ بعض أعضاء الحزب الشيوعي هذا الأسلوب، وأكد كدودة ترحيب الحزب بآراء كل الناس شيوعيين أو غير شيوعيين؛ لاعتقاد بأن الحزب الشيوعي ليس ملكاً للشيوعيين- فقط، إنما ملك للشعب السوداني بإثره، وقد أسهم عدد مقدر من غير أعضاء الحزب في مناقشة برنامجه الجديد، ولوائحه الجديدة، وكانت لهم آراء مقدرة انعكست في الوثائق الجديدة. لكن البيان المجهول الذي ظل بلا أب إلى يومنا هذا أحدث صدًى داخل الحزب للدرجة التي اضطر الحزب معها إلى تبني موقف رسمي تجاهه، وهذا ما سنأتي إليه تفصيلا لاحقا. الحلقة القادمة حرب التيارات.. [email protected]