قبل أن ننظر فى خطاب الوثبة او الحوار الوطنى والصورة المبهمة التى جاء بها من الضرورى تقديم خلفية للكيفية التى تتعامل بها امريكا مع الأنظمة العميلة لها. أ) عمالة موبوتو لامريكا عمالة نظام موبوتو لأمريكا أمر معروف وموثق سارت به الركبان. كان السبب الأساسى فى عمالته لأمريكا هو معرفته بأن أستراتيجية امريكا وقتها إبان الحرب الباردة بين روسياوأمريكا تقوم على مكافحة التمدد الشيوعى فى أفريقيا جنوب الصحراء خاصة فى دولة أنجولا الغنية بالبترول حيث تعاون موبوتو مع أمريكا فى دعم جهود مقاومة تمدد الشيوعية هنالك. كان موبوتو يعلم أن امريكا تبحث لنفسها عن موضع قدم فى منطقة البحيرات الغنية بالموارد والغير مستقرة سياسياً مما يجعلها عرضة للنفوذ الشيوعى. يضاف لهذا أن موبوتو نفسه – مثله مثل الأخوان المسلمين - كان قابلاً لأن يكون عميلاً الأمر الذى يضمن له حماية أمريكا ومن ثم ضمان إستمراره فى السلطة وصرف النظر عن فساده وإسرافه ونهبه لموارد البلاد وانتهاكاته الواسعة لحقوق الإنسان. قابل موبوتو كل رؤساء امريكا من ايزنهاور حتى بيل كلنتون بعضهم أكثر من مرة. قال عنه الرئيس جورج بوش الاب إبان زيارة موبوتو لواشنطن فى يونيو 1989 " إنه واحد من أعز أصدقائنا فى إفريقيا". لكل ذلك ظلت أمريكا ترفض التخلص منه رغم انتهاكاته الفظيعة لحقوق الإنسان وفساده ورغم الضغوط الهائلة من حليفتيها بلجيكا وفرنسا بضرورة التخلص منه خاصة بعد أحداث 1991 وما تلاها فى العام 1993 ومقتل السفير الفرنسى بعد هجوم مسلح على السفارة فى كنشاسا. على كل هذه الفوضى والقتل الذى تسبب فيه موبوتو تمثل موقف إدارة كلينتون فى: " إنها تحث موبوتو على عدم إيقاف عملية التحول الديمقراطى وأن الأحداث ناتجة عن فشل موبوتو فى التعاون". وبينما كانت إدارة كيلنتون تقول ذلك الحديث كان جنود موبوتو يعيثون فساداً فى كنشاسا وانتشرت الفوضى والنهب المسلح والقتل العشوائى نتيجة لفشل موبوتو فى دفع مرتبات الجنود. وعلى كل تمسكت الولاياتالمتحدة بعميلها المخلص لآخر رمق حتى هروبه وسقوط نظامه فى مايو 1997. ب) عمالة نظام البشير لامريكا قبل أن نفصّل عمالة نظام البشير لأمريكا من الضرورى الإشارة لعمالة الأخوان المسلمين للغرب عامة وللإمبريالية العالمية بصورة خاصة. وكما نعلم فالتنظيم نفسه خرج من أحشاء مخابرات الإمبراطورية البريطانية: " Banna Muslim Brotherhood was established with a grant from England's Suez Canal Company". Dreyfuss, p 47. وقد أشرفت مخابرات الإمبراطورية البريطانية على رعايته حتى شب عن الطوق وقوىّ عوده وأشتد ساعده وأصبح يقوم بالدور المرسوم له لخدمة هدفين أساسيين هما: مكافحة الشيوعية، ومقاومة الصحوة القومية فى الشرق الأوسط. لن نفصل كثيراً فى هذا الأمر خاصة وأنه أمر معروف كما أنه ليس موضوعنا هنا، لكننا نحيل القارئ المهتم لكتاب صدر قبل ثلاث أعوام (2012) للباحث Mark Curtis بعنوان Secret Affairs وأيضاً كتاب Devil's Game للكتاب Robert Dreyfuss لقد فصل الكاتبان بتوثيق دقيق عمالة الاخوان المسلمين لمخابرات الإمبراطورية البريطانية التى كانت القابلة التى ولد على يدها التنظيم ومن بعدها المخابرات الأمريكية حتى الوقت الراهن. وطالما كان التنظيم العالمى للأخوان المسلمين عميلاً منذ ميلاده فمن المنطقى والطبيعى أن يكون نظام البشير عميلاً، إذ لا يمكن أن يختلف الفرع عن الأصل. يدير التنظيم العالمى للاخوان المسلمين حالياً كل قضاياه ومصالحه مع العالم من قطر وتركيا. والدولتان كما نعلم هما الحليفتان الاساسيتان لنظام الخرطوم. بعد إنتشار الاسلام السياسى المتطرف او ما تسميه بالارهاب إهتمت أمريكا باختراق هذه التنظيمات ومتابعتها، مستخدمة ما تسميه بملاحقة الارهاب كذريعة للتدخل فى الشؤن الداخلية لكثير من الدول لتمديد نفوذ إمبراطوريتها. وامريكا كوكيلة للإمبريالية العالمية حريصة على إيجاد آلية أو قوى تبرر لها التدخلات وممارسة السيطرة على الشعوب والموارد وإن لم تجد أمريكا تلك الآليه تخترعها كما سبقتها فى تلك الممارسة الإمبراطورية البريطانية. بعد انهيار المعسكر الإشتراكى حولت أمريكا إهتمامها للدول التى كانت تستعمرها الإمبراطورية البريطانية وبدأت تدرس مكوناتها. من ضمن هذه المكونات كان الأخوان المسلمين الذين توثقت العلاقة بهم بعد تعاونهم الممتد معها فى السابق ومن ثم فى افغانستان ضد روسيا. بعد إنسحاب الروس من افغانستان تفرق ما يعرف بالمجاهدين – أغلبهم من الأخوان المسلمين او على صلة مباشرة بهم - الى بلدان عدة، منهم من عاد الى بلاده ومنهم من ذهب الى بلدان أخرى. من هؤلاء ذهب عدد مقدر الى السودان (دولة الخلافة الإسلامية الجديدة) من بينهم كان أسامة بن لادن كما هو معروف. بين العام 1989 (إنقلاب الجبهة القومية الإسلامية) وعام 2001 (احداث سبتمبر فى نيويورك) وقعت عمليات إرهابية كثيرة حول العالم ضد أمريكا تورط فيها نظام البشير. منها على سبيل المثال لا الحصر ،الهجوم على برجيّى التجارة فى نيويورك عام 1993، الهجوم على سفارتّي أمريكا فى كل من نيروبى ودار السلام فى العام 1998، الهجوم على الباخرة الامريكية "كول" فى اليمن. ثم جاءت الطامة الكبرى فى 2001 الهجوم الإرهابى المزلزل فى نيويورك وواشنطن. بعد أحداث سبتمبر كانت الولاياتالمتحدة تبحث عن أى معلومات عن الإرهابيين ومجموعات الإسلام السياسى. بعد تصريحات الرئيس الأمريكى جورج بوش الإبن " إما معنا او مع الأرهابيين" جَثت حكومة البشير على ركبتيها تتوسل خوفاً من بطش المارد الأمريكى الذى حرك جيوشه وأساطيله من كل حدب وصوب. تبخّرت كل العنتريات السابقة من شاكلة " أمريكا قد دنا عذابها" وذهبت نسياً منسيا ولم يسمع بها أحد منذ ذلك العام. من وقتها أصبحت حكومة الأخوان المسلمين عجينة طيعة فى يد امريكا وجدت فيها الأخيرة ضالتها حيث وافقت حكومة البشير للمخابرات الامريكية بفتح مكتب لها فى الخرطوم (مايزال يعمل) ووفّرت لها بيوت آمنة لاستجواب الإرهابيين (إخوانهم فى الله السابقين) بعد أن قامت باعتقالهم، كما قدمت لها ماتنؤ بحملة العصبة من ملفات وتقارير عن كل ما تسميهم أمريكا بالارهابيين الذين آوتهم فى فترات مختلفة وسلمت العديدين منهم الذين سبق وأن ائتمنوها على حياتهم. ومنذ ذلك التاريخ وحتى اليوم بدأ تاريخ من العمالة والإستسلام المخزئ لم ولن ينته. وفى حقيقة الامر لم تعد عمالة نظام البشير لأمريكا بالأمر الخفى. فهى أمر يعترف به قادة النظام كما يعترف به الأمريكان (راجع صحيفة لوس انجلس تايمز 3 مايو 2005). وهكذا مع تغيّر إستراتيجية أمريكا من مكافحة الشيوعية الى ملاحقة ما تسميه الإرهاب، حلّ نظام البشير مكان نظام موبوتو فى العمالة لأمريكا وذلك ما يفسر بناء أمريكا لأكبر سفارة لها فى إفريقيا فى الخرطوم! أما ما نراه من لغة عدوانية فى الإعلام ضد أمريكا فما هو فى حقيقته إلا تضليل للعامة بقصد خداعهم بأن النظام قوى ومستقل وبإمكانه "مناطحة" أمريكا، وانه يملك قراره. مثل هذا القول واللغو فى الإعلام هو من شاكلة الخداع الذى يمارسة الأخوان المسلمين مثل " أذهب للقصر رئيساً وساذهب للسجن حبيساً" ومثل خداعهم إبان انتخابات 1986 حول دوائر الخريجين، فبينما كانوا يعارضونها فى الإعلام كانوا يعملون بكل ما يستطيعون مع المجلس العسكرى الانتقالى لتأكيد تخصيصها (تصريحات الدكتور على الحاج بعد الانشقاق المزعوم بين القصر والمنشية). إذن فإن التصريح بشئ والعمل لتحقيق ضده مخادعة ثابتة عن الاخوان المسليمن. فاللغة العدوانية ضد امريكا الآن مقصودة للإستهلاك السياسى الداخلى كما أنها لا تضير امريكا فى شئ طالما ظل النظام مخلصاً فى عمالته يقدم ما تطلبه منه أمريكا وزيادة عن يدٍ وهو صاغر. كمكافأة للنظام على عمالته، إتخذت أمريكا موقفاً رافضاً لاسقاطه وعملت على دفعه – مثلما فعلت مع موبوتو- لإجراء بعض الإصلاحات الشكلية بناءً على مقترحات التنظيم الدولى للأخوان المسلمين، حتى تتمكن من تطبيع العلاقة معه بالكامل. فالحكومات الأمريكية تعلم أنها تواجه إشكالات ومواقف صعبة فى الكونغرس ضد الحكومة السودانية لا تمكنها من تطبيع العلاقة مع البشير بالصورة التى ترغب فيها، لذلك توجه النظام بإتخاذ بعض الخطوات الإنفتاحية حتى تستطيع ان تذهب للكونغرس ببعض المبررات بما يحفظ لها ماء وجهها أمام الأعضاء. فى إطار هذه السياسة العامة تأتى مبادرة قطر/ كارتر للحوار الوطنى. [email protected]