نشرت "العرب" بالاتفاق مع مجلة الجديد أربعة نصوص قصصية كتبها قاصون من سوريا وفلسطين والسودان والسعودية، مع مقدمة تتقد صراحة في غير غموض، قد كتبها الشاعر نوري الجراح تحت عنوان "في وصف ما يحدث في أرض العرب: الغزاة يبلغون عتبة البيت"، أشار فيها إلى بلاغة الخطاب القصصي ضمن هذه النصوص القصصية قائلا "ليس ثمة ما هو أبلغ من سطور يكتبها أشخاص بوصفهم أفرادا، ينقلون لنا بالكلمات تجاربهم الشخصية ويعبّرون من خلالها عمّا يجيش في نفوسهم المفردة". "العرب" تحاول في ما يلي أن تقوم بقراءة للقصص الأربع التي نشرت. العرب جميل الشبيبي في تقديمه للقصص التي نشرت مؤخرا بجريدة "العرب" أكد الشاعر نوري الجراح أن ما يجري في أرض العرب من مصائب وويلات "جعل العرب كلهم في مصيدة الأمم، ولم يعد قتلا منسوبا إلى الفظاعات التي أنزلتها الأقدار في بشر، ولا ثأر التاريخ من أمّة، ولا هزء الزمن من قوم. لم يعد قتلا، لم يعد مجرّد قتل أعمى يرتكبه بشر ظلمة نحو بشر مظلومين، أو كثرة متفاخرة نحو قلة مهيضة الجناح". ويخلص إلى أننا بتنا شعوبا يفترسها غزاة وطغاة وأمة تنهبها أمم. ولا خلاص من دون اعتراف نسلنا بقوة الحقيقة". إن الدخول إلى فضاء هذه القصص، سيفتح أمامنا إشكاليات الحياة العربية في أربعة أقطار عربية تمثل نموذجا للحياة في معظم أقطار الوطن العربي بين نظامين قارين أحدهما يتلبس اسم الدين ويتحكم في شعبه من خلال هذا الادّعاء، والآخر تحت وطأة الاحتلال الأجنبي أو "بيد المستبد الصغير المأجور عند أمم أخرى"، كما أشار الشاعر الجراح، وبهذا المعنى سنسعى إلى قراءة هذه القصص الأربع ابتداء من بنيتها وصولا إلى دلالاتها وإيحاءاتها. في هذه القصص يخيم جو من الريبة والخوف والسلبية والعزلة على معظم تصرفات الشخصيات القصصية، ويبدو الفعل بعيدا عن إمكاناتها، ومعظمها ينشد العزلة والوحدة، بهواجس عن موت أو إقصاء قريب أي أنها تحت مطرقة التهديد الدائم. بلاغة الانكسار في قصة "العريس" للقاصة حسيبة عبدالرحمن، وهي روائية من سوريا، تكشف لنا القاصة انكسار الزوج واتجاه نظرته إلى الأرض فيما تتطلع الزوجة إليه باستغراب "منذ اليوم الأول لم أر رأسك مرفوعا ولو مرة واحدة، طوال الوقت مطرق إلى الأرض" وتستطرد "تمشي ورأسك محني، تجلس.. وأنت غائب عن المكان.. ما بك؟". ويبدو الانكسار جليا في تصرفات العريس ومن صمته الدائم وعزوفه عن ممارسة حياته كعريس جديد، كذلك يكشف تشكل الضمائر كوجهات نظر مهمة في هذه القصة والقصص الأخرى بلاغة هذا الانكسار من خلال بناء دال لظهور الضمائر وفعلها في السرد والحوار للكشف عن الدلالة وعمق الأزمة في حياة إنسان مبتلى بالعسف اليومي ومصادرة الذات وتكبيلها بقيود محكمة. ثلاثة ضمائر تتناوب السرد في هذا الخطاب القصصي كي تعنى بالعالم الداخلي لشخوص القصة الحاضرين في السرد والغائبين عنه، وكل ضمير يفتح للقارئ عالما خاصا ومعاناة مختلفة. ينهض ضمير الأنا والأنا الجمعية بتشخيص عالم الخارج الضاج بالقسوة والإرهاب، من خلال تداعيات العريس الذي ينفجر فجأة في وجه العروس "أنت لا تعرفين شيئا!!"، وبظهور ضمير المخاطب "أنت" في هذه الجملة، يتبدّى عالمان مختلفان: عالم الزوجة، وهي تكرس حياتها الجديدة بالألوان والبهجة والتطلع إلى المرآة، "تبدل قمصان النوم والثياب الداخلية المغرية، الأحمر، الأسود، البنفسجي علها تشد انتباهه واهتمامه، فينكسر الحاجز بينهما"، ثم التطلع في وجهه باستغراب واستنكار، باحثة عن اهتمام وإعجاب دون جدوى. فيما يبدو عالم الزوج عالما شائكا تحكمه رموز الإذلال والإحباط "الجدار، الطابور، الشراقة، الشرطي، الكرباج، والدكة الحجرية المميتة بانتظارنا، ونحن بانتظار قدومها المباغت لإنهاء حياتنا". ومن خلال تداعياته الصائتة في وجه عروسه، يتكشف ضمير الأنا والأنا الجمعية بانتظار هذا الموت على أنه "شيء عادي، كنا ننتظره كل لحظة وساعة ويوم. ننتظره بصمت الأموات، لا، الأحياء. الطابور يلاحقني، يسكن أعماقي، لازلت أصطف، وأعيش فيه". وتبدو تجليات الموت في السجن أو القلعة الحجرية، في أقصى حالاتها تعبيرا عن عسف لا مكان معيّنا له، إنه قرار مطلق يتجسّد في كل مكان من عالمنا العربي المهووس بالقتل والتعذيب والحرمان. تتجلى صورة العسكري المتجبر ممثلا لسلطة مطلقة لا رحمة فيها ولا إنسانية، وهو يتشدق بإنسانيته في يوم العيد "سأترك حرية اختيار طريقة التعذيب لكم! وما هي الخيارات: لحس ولعق البوط العسكري، تمديد السجين ووضع الحذاء فوق رأسه ورقبته، ثم البصاق عليه، بعد محاولة إكراهه على ابتلاع الفأرة. وفي الطرف الآخر للباحة مشنقة.. ومسدس جاهز للإطلاق". هناك أساليب مقرفة لإنهاء حياة إنسان أعزل، ليبقى ضمير المخاطب سلبيا "أنت لا تعرفين شيئا"، أو "ماذا يعني لكِ هذا الكلام، وهل تستطيع اللغة وصف ما حصل لنا! أو تخيله". وحين تكون نهاية القصة افتراق العروسين، فالدلالة عميقة وهي تكشف الهوة العميقة بين المناضل وبين من يناضل من أجلهم، كمعادلة خاسرة وجائرة في حق من يقدمون أنفسهم قربانا من أجل الآخرين، لتكون القصة تأبينا حزينا لأولئك المناضلين الحزانى من كاتبة تعرفت على حياة السجن والسجناء. جلد الذات وفي قصة "بهذا تحدثني رأسي: لا تتنكري للخطيئة" للقاصة السعودية سناء ناصر، نجد حوارا داخليا بين "الرأس" ممثلا لمركز الفكر والضمير ومركز الصدق والحقيقة، وبين الجسد، وهو يكابد مرارة العيش ويواجه سهام الآخرين، فيلوذ منها أو يجاملها ضريبة لاستمرار الحياة. ويمثل الحوار الداخلي بين الأنا "الرأس" وضمير ال"أنت" مجسدا بضمائر متنوعة، صراعا يوميا تعيشه الذات وهي تمارس حياتها اليومية، ويتجسد الحوار باستنكار وسخرية ولوم والدفع نحو الإفصاح "يخيفك الثبات، تتقنين لعبة الاختفاء حين تباغتك السكينة، تنصبين الضجر أشرعة تأخذك في اتجاه الصخب، عن التبدل والتقلب وأمزجتك التي تعتنن بها كالفساتين، عن تصنع الاكتراث عن سؤال يرافقكِ كالظل: لِمَ أنا هنا؟" ويتخذ جلد الذات المبتلاة بالتقلب ولعبة الاختفاء من قبل الأنا الساردة، التي تمثل شخصية الرأس هنا، شكلا لغويا ملفتا للنظر في ظهوره، على شكل حرف الكاف المجرور دون مقاومة كملحق بالاسم، أو على شكل مفعول به، بالتحاقه بالفعل، وفي كلا الحالتين تبدو الذات مسحوقة، صامتة، تتقبل العسف دون احتجاج. ويتجه الحوار الداخلي بين الذات المنشطرة على نفسها اتجاها صراعيا، يشي بهدم الذات أو ضياعها، حين يتخذ ضمير الأنا، مركز الإرادة والحقيقة، شكل الضمير المجرور أيضا. يبدو الخارج محايدا لا شأن له بما يجري، وكل ذلك يكشف ستارا من الخوف حتى من الصمت في مجتمع القصة الذي يؤشر على خارج معاد للتفكير يعيش ضمنه الرأس المتمرّد بتحريض من المؤلف (سناء ناصر) الذي يدير ويوظف هذا الحوار نحو احتجاج مبطن. الضياع والتشرذم محمود شقير يذر في قصته "لم أغادر البيت هذا اليوم: مطر غزير على قباب القدس من الاستسلام واستشراء الخلافات العشائرية والسياسية وتكشف قصة القاص الفلسطيني محمود شقير "لم أغادر البيت هذا اليوم: مطر غزير على قباب القدس"، يوميات الكاتب من عام 2000 إلى بداية عام 2001 يبدأها بجملة افتتاحية "سأواصل حياتي في القدس، وأفكر في وجعي الخاص"، ويوميات القاص ترصد حياة رتيبة لا جديد فيها، وهي خالية من الحوار مع آخر سوى حوار قديم بينه وبين الشاعرين محمود درويش وحسين البرغوثي، يرتكز على الشكوى من أمراض وقلق بالغ منها، وتستمر اليوميات إلى بداية العام الجديد -عام 2001- الذي تمّ فيه تفجير برج التجارة العالمي وكأنه ردة فعل على رتابة أيام القاص. في يوميات محمود شقير، رصد لحياة كاتب، لا يستطيع أن يكتب، يحمل تمنياته فقط، يحلم بسفر خارج أسوار مدينته القدس، فكي يتخلص من أوجاعه يلجأ الكاتب إلى الطبيعة ممثلة بحديقة الدار "أول شيء فعلته هذا الصباح تقليم شجرة العنب الواقعة في ساحة الدار. قلّمت كذلك نبتة الياسمين التي امتدت أغصانها كثيرا، وقلّمت شجرة المندلينا التي كسر الثلج نصفها قبل أسبوعين. تشعرني الأشجار بأن للحياة طعما نضرا رغم كل الصعوبات". أما ما يجري من أحداث سياسية فإنها سرعان ما تقصى، دون تفصيل "كنت في مهرجان سياسي داخل قاعة مغلقة في مدينة البيرة، أخت مدينة رام الله. خرجت قبل انتهاء الحفل، وذلك بسبب كثافة الدخان المنبعث من سجائر الحضور...". وحين يذكر قراءته لمذكرات إسحق رابين يكتب "كان إسحق رابين يخطّط للحرب، وكنا آنذاك نحلم بنصر لم تتوافر أسبابه، ولهذا امتدّ شقاؤنا، وإسحق رابين واحد من أبرز الذين تسبّبوا لنا في الشقاء". وهو أمر معروف للجميع وليس فيه جديد للقارئ، الأمر الذي يعني أن القاص يتعمّد مراكمة العادي والمهمل والرتيب في الحياة اليومية بمدينة القدس وما يحيط بها ليكشف، ضياع الهدف والتشرذم، والقبول بالأمر الواقع، مقارنة بسبعة أعوام سابقة حين عاد بعد غياب ثماني عشرة سنة من المنفى، "وجدنا آلاف المواطنين والمواطنات في انتظارنا. حملونا على الأكتاف وانطلقت في فضاء الاستراحة الهتافات المطالبة بدحر الاحتلال وبحرية الوطن". أما الآن "فالأخبار لا تسرّ البال" ويبدو الأفق السياسي "مسدودا حتى الآن" في وجه انتفاضة الأقصى بينما تستمرّ المشاجرات العائلية كل يوم نتيجة خلافات عشائرية. إن في قصة القاص محمود شقير، تحذيرا من الاستسلام واستشراء الخلافات العشائرية والسياسية والتشرذم في مجتمعنا المحكوم بالتخلف، والاحتلال الإسرائيلي مسؤول بالدرجة الأولى عن هذه الظاهرة غير الحضارية. غير أن كل ذلك سيبقى مجرد أحلام كاتب، ويوميات تؤرخ لواقع ساكن لكنه ملغوم، بتوقعات سنوات جمر يتقد تحت الرماد. متعة السخرية في قصة "جوني المشاء يتسكّع في الخرطوم" للقاص السوداني حسام هلالي، يتداخل السرد والحوار مع المقالة والشعر وحكايات تراثية دالة، لبناء قصة ساخرة متمرّدة على أوضاع سائدة خارج المتن، يعمد القاص على تخطيها مرة بالاستفادة من تمرّدات السلف على القوانين القارة التي تكبل الذات وتحدّ من حريتها وانطلاقها، ومرة بتمرّد ضمير الأنا متمثلا بالسارد ضدّ قوانين سائدة وقارة لا يمكن تغييرها. في هذه القصة، وعلى عكس ما جرى في القصص السابقة سيكون ضمير الأنا هنا فاعلا متمرّدا راسما أفقا ساخرا يخالف النسق الذي تتحكم فيه أعراف وعادات لا فكاك منها بهذه الحيل التي يبتكرها الناطق بضمير الأنا لتحقيق "المتعة" فهي "فضيلتي الأسمى على أيّ حال" وخلال ذلك يسرد مغامرات بريئة وساخرة، لإشباع هذه المتعة. تتحدّد متعة السارد في خرق قوانين الممنوعات، وبالخصوص قوانين تحريم الخمرة والمخدرات في البلدان التي تسودها أنظمة دينية سلفية كالسعودية والسودان ومصر في عهد حكم الإخوان، وتأتي تمرّدات الذات الساردة بضمير الأنا على شكل مغامرات بريئة بل تبدو ساذجة للإفلات من قبضة سلطة متربصة لهذا الغرض بالذات. أما شعاره فهو "الممنوع مرغوب" خصوصا مع صرامة قوانين المنع السائدة. وهو يوضح سبب هذا التمرد حين يقول "متجذر في نفسيتي ليس فقط لكوني سودانيا أنتمي بحكم النحس لدولة يحكمها نظام إسلامي. بل يُضاف إليه أنني سعودي المولد والنشأة". ولكي يسند هذه النزعة يلجأ إلى تقليب صفحات التراث العربي المعاصر أو القديم وكل ما يسند تمرده على صرامة قوانين التحريم بقصائد وحكايات معاصرة وتراثية منها قصيدة "شاعر نهج البُردة" لأحمد شوقي "وهو ينظم في قافيَّته الشهيرة التي لطالما حسبتها إحدى هرطقات أبي نواس.