شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    شاهد بالفيديو.. وسط حضور مكثف من الجيش.. شيخ الأمين يفتتح مركز طبي لعلاج المواطنين "مجاناً" بمسيده العامر بأم درمان    د. مزمل أبو القاسم يكتب: جنجويد جبناء.. خالي كلاش وكدمول!    محمد وداعة يكتب: الامارات .. الشينة منكورة    السوداني في واشنطن.. خطوة للتنمية ومواجهة المخاطر!    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    الخارجية الروسية: تدريبات الناتو في فنلندا عمل استفزازي    مصر تنفي وجود تفاهمات مع إسرائيل حول اجتياح رفح    مدير شرطة شمال دارفور يتفقد مصابي وجرحى العمليات    "تيك توك": إما قطع العلاقات مع بكين أو الحظر    عن ظاهرة الترامبية    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    حدد يوم الثامن من مايو المقبل آخر موعد…الإتحاد السوداني لكرة القدم يخاطب الإتحادات المحلية وأندية الممتاز لتحديد المشاركة في البطولة المختلطة للفئات السنية    منتخبنا يواصل تحضيراته بقوة..تحدي مثير بين اللاعبين واكرم يكسب الرهان    سفير السودان بليبيا يقدم شرح حول تطورات الأوضاع بعد الحرب    المدير الإداري للمنتخب الأولمبي في إفادات مهمة… عبد الله جحا: معسكر جدة يمضي بصورة طيبة    طائرات مسيرة تستهدف مقرا للجيش السوداني في مدينة شندي    هيثم مصطفى: من الذي أعاد فتح مكاتب قناتي العربية والحدث مجدداً؟؟    ترامب: بايدن ليس صديقاً لإسرائيل أو للعالم العربي    تواصل تدريب صقور الجديان باشراف ابياه    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    للحكومي والخاص وراتب 6 آلاف.. شروط استقدام عائلات المقيمين للإقامة في قطر    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على ناشفيل    لجنة المنتخبات الوطنية تختار البرتغالي جواو موتا لتولي الإدارة الفنية للقطاعات السنية – صورة    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بين الانفصام والانسجام والثورة على الشكل
خطاب الشباب في القصة الحديثة السودانية
نشر في الصحافة يوم 12 - 04 - 2011


«الناس في بلاد السودان تشيخ سريعاً
ولكن الشباب يحملون الحكمة والنضج مبكراً»
الشاعر الفرنسي رامبو في خطاب إلى والدته عام 1981م».
«انطفاءة ظل» هي المجموعة القصصية الفائزة الثانية بعد مجموعة «العزلة» في مسابقة الشباب للقصة القصيرة التي يقيمها مركز عبد الكريم ميرغني تحت اسم «مسابقة الطيب صالح للقصة القصيرة»، وهي تحت سن الثلاثين، والحق يقال إن هناك تقدما كبيرا وفرقا ملحوظا بين المجموعتين، فالنصوص التي في مجموعة «العزلة» تميل إلى الكتابة الواقعية بمكانها وزمانها، فقد ركز الشباب في المجموعة الاولى على استدعاء ذاكرة الطفولة بامكانها الريفية، والصراعات التي تحدث في المجتمعات، المدينية الجديدة على النازحين من الريف. وهذه الذاكرة تعتمد على المحمول التراثي والفلكلوري. أما في المجموعة الجديدة «انطفاءة ظل» فتشتمل على عشرة نصوص لعشرة كتاب شباب بعضهم كان فائزاً أيضاً في المجموعة الاولى وبعض المسابقات الاخرى غير التي يقيمها مركز عبد الكريم ميرغني «قرشي صالح» «ياسر فائز» احمد مبارك، الهادي عز الدين. وهذا ما يدل على أن هؤلاء الشباب أخذوا يتلمسون طريقهم بثقة كبيرة مثل هذا الضرب من الكتابة الصعبة التي يقول عنها جورج لوكاش إن الاقصوصة ليست جنساً ادبياً صغيراً، بل هي فن ينزع الى أن يكون اكثر الاشكال السردية رقياً فنياً.
وما يميز هذه المجموعة الجديدة أن الغنائية فيها طاغية، اي ان الضمير السردي في كل هذه النصوص هو ضمير المتكلم «الأنا»، وهذه الغنائية ليست غريبة على القصة القصيرة. فهي قد اكتسبت غنائيتها منذ نشأتها كما يقول الناقد جمال محمد عطا، فقد جاءت من كونها نوعاً بينياً يقع بين النثر والشعر الغنائي والملحمي والدرامي، الذاتي والموضوعي، فالقصة القصيرة تبدو جامعة للنقيضين في وقت واحد، موغلة في الذاتية موغلة في الموضوعية كما يقول الدكتور شكري عياد في كتابه «القصة القصيرة في مصر دراسة في تأصيل فن أدبي» إن القصة القصيرة باعتبارها نوعا أدبيا تجمع ما بين الذاتي والموضوعي، فهي فن اجتماعي في أحد جوانبه، وفن شخصي في الجانب الآخر. والموقف الذاتي الغنائي في القصة القصيرة يأتي عندما يسعى القاص إلى رؤية الواقع الخارجي من منظور ذاتي أقرب الى النفس، وهو ما يميز هذه المجموعة «انطفاءة ظل» وبما للقصة القصيرة وخاصة الحديثة من مقدرة على التكثيف والاتكاء على الرمز والايقاع والمجاز والبلاغة، فهي بذلك تكون أقرب الى الشعر ثم الغنائية، وهذه الشعرية والغنائية هي الميزة الثانية لهذه المجموعة أيضاً. وهذه «الأنا» او الغنائية التي كتبت بها كل هذه النصوص ليست أنا مريضة او أنا نرجسية أنانية، وإنما هي المعاناة من الآخر، «السلطة، او قيود المجتمع، او الجسد المقهور، او السؤال الذي لا يجد الجواب». فهي كتابة الموقف الذي يعكس ازمة الداخل على حساب الخارج.
فالأنا في القصة الأولى والفائزة والتي حملت اسم المجموعة «انطفاءة ظل» للطيب عبد السلام، فهي أنا هاربة ومنفية باختيارها، وهي تبحث عن الفردوس المفقود، ففي الوطن لا تجد من يجاوب على اسئلتها والتي لم يشاورها احد في تحميلها الامانة، وتمثل طلائع الجيل المنهزم، فهي الأنا المهزومة من الوطن، ولا تستطيع ان تعاقبه الا بالفرار منه.
والغنائية في قصة «وثيقة وجود» لمأمون الفاتح حسن عثمان، هي غنائية حزينة، حيث الأنا ذات عاهة جسدية ولكنها حرة رغم تألمها من نظرات ورأي الآخرين فيها، البعض شفقة والآخر سخرية واستهزاءً، «لأن حياتي كانت قصيرة، وقد انتهت بذات الصورة التي حددها الاطباء منذ نعومة اظافري، فلم اضيعها في المحاولات المضنية لأكون انساناً طبيعياً»، اما في النص الثالث «هروب الذاكرة» لابراهيم عبد الغني محمد الماحي الذي فاز نصه الجديد هذا العام بالجائزة الاولى لنفس هذه المسابقة، فالأنا في نص «هروب من الذاكرة» هي أنا خائفة وهاربة، ومتهمة، وليست من فرد واحد ولكن من مجموعة، «المشكلة تلك النظرة العجيبة، التي رأيتها في أعينهم نظرة جامدة لا تتغير تبدو وسط ملامحهم الرمادية الشفافة وكأنها لوحة تعبر عن الحزن وانعدام الحيلة».. والمعاناة تأتي من أن الاتهام هو اتهام صامت تعبر عنه العيون التي تكاد تلمع في الظلام. والنظرات التي كلما حاول تحويل بصره عنها يحس بها تكاد تخترق جسده. فهي أنا «مراقبة ومرصودة ومتابعة» والمأساة أن هذه الانا لا تعرف ادلة الاتهام او حيثياته ضدها. وفي نص ياسر فائز عن الزمن الآخر فإن الغنائية هنا هي اشد تكثيفاً، حيث الذات اشد انطفاءً واحتراقاً لدرجة الكتابة في بعض المقاطع بتقنية السريالية المخيفة، «حريق حولي، حريق»، والمكان حولها مقرف وفظيع، ومأساتها، انها ليست مجنونة، ولكنها لا تستطيع ان تكون عاقلة في نفس الوقت. والحريق يطاردها دائماً «فجهنمها هي الآخرون» «أقرفني السوق العربي بظهيرته الموبوءة بالزحام والضجيج، وانتابني شعور بأن حولي حريق، فهي انى تتجه تجد جداراً من النار يصدها. فهي تحترق من الآخرين وبالآخرين. وفي نص «العبق الهوية» لسحر ميرغني محمد عثمان، والتي كتبته بتقنية الواقعية الاجتماعية، فالأنا مدانة منذ الميلاد، في جريمة لم تشارك فيها او تسببها، فهو من اطفال «المايقوما» حيث المكان اكثر ضيقاً من رحم امه. وحيث يتحول الى قاتل في النهاية بنفس الصفعات والركلات التي كانت تأتيه من زوج مربيته نفيسة بت جبر الدار، كأن المجتمع هو الذي يدفع للجريمة، بادانته للبرئ.
وفي نص الهادي عز الدين الذي يميل في نصوصه الى كتابة الواقعية، «العائدون»، فالذات هنا غارقة في قاع المدينة، ولكنها تتشبث بالخروج منه والعودة الى السطح. اما في قصة احمد مبارك آدم بعنوان «خروج» فهو النص الأقرب لتيار الوعي، حيث الأنا تتداعى بحرية، فهي تفكر وتسأل وتتساءل «جمجمتي منتفخة باسئلة صرصورية» وهي تنشد الحرية والانعتاق من الزمان والمكان «هفهفة الاجنحة المشرعة والتغاريد لامست عصبي، جعلتني أنشد خلاصي أن اسمو بذاتي خفيفاً كالريش كما الهواء المتسكع في الفضاء». وجحيمه هو الآخرون الذين يعتبرونه «لا شيء» «انت لا شيء» بكل تراث الوقاحة، «انا لا شيء !! نعم لا شيء، كلكم سترون كيف هو اللا شيء يسحقكم» والقاص قرشي صالح يكتب في نص «ديدان الارض.. مطر السماء» الأنا المنسية، والمتشائمة، وقانونها قبل الأوان، فليس لها من تعيش له، او ما تموت من اجله، واستطاع قرشي صالح في هذا النص أن يتحدث عن الواقع بلغة اللا واقع، وهي مقدرة لغوية يحمد عليها.. يقول «الجميع هنا بلا ذاكرة، وقد يعيشون بذاكرة لا تحمل اية تصاوير لرهق ازقة منتصف العمر، فقط وفي ركن قصي من الذاكرة يتناثر رماد حرائق لا يقفون عندها كثيراً، ليس لديهم ما يموتون من أجله، ولا ما يعيشون به، جمعتهم هذه الرقعة من الارض، كبقعة للعبث قانونها الاوحد هو الموت قبل فوات الاوان !!». وعادل بدر علي محمد يكتب في نصه «قلبي على حدود 65» الأنا التي تعتبر وطنها هو المكان الذي ولدت وتربت وتكلمت لغته. يقول «انني املك في شارع النيل هذا اكثر من أي احد، لقد قضيت شبابي هنا وعبرته الف مرة معك راجلين الى الجامعة، فليأخذوا نصف قلبي ويعطونني شجرة فيه، كيف سيقسم هؤلاء حياتنا وذكرياتنا ويرسمون الحدود في قلبي؟ ألا يهتمون بحرب جديدة ستشتعل في قلوبنا وبنزاعات نفوسي الى حيث ولدت وعاشت؟ أعلينا أن نحمل جوازات لدخول دار كانت دارنا؟» والقاصة أريزه أحمد الامين أحمد تكتب ايضاً حوار النفس او حوار الأنا مع نفسها، تلك الأنا المسجونة في عالم قبيح وتتوق وتتشوق للانعتاق من المكان وفي الجسد بالموت.. تقول في نصها «ليلة الموت» «انني حبيس هذا الجسد! يا له من نكد! أطفال الموت يرقصون على حافة الحياة واطفال الحياة يرقصون على حافة الموت: هبني بعض ما لديك من حياة لاهبك بعض ما لدي من موت، انتظري.. سأجيء اليك، لا أريدك ان تأتي هنا فعالمي ملئ بالقبح عالم زائف لا صدق فيه، ولا خير، يأكل القوي الضعيف ويمتزج الحزن بالحسن ويغتال ضوء النهار النهار..».
ومن هنا نلاحظ ان هؤلاء الشباب قد اختاروا دون اتفاق بينهم ضمير المتكلم ليتولى العملية السردية كلها، وهذه الأنا داخل هذه النصوص تجعلها اقرب الى ذاتية الكاتب، وكما يقول الناقد السوري محمد كامل الخطيب في كتابه «السهم والدائرة» «ان صوغ القصة عبر ضمير المتكلم، يكون غالباً معادلاً لاسقاط الذات على الموضوع، اي النظر الى الموضوع، أي النظر الى الموضوع ليس كما هو، وانما من وجهة نظر الذات فقط.. وهي حرة تحتكر السرد كله، تتداعى، وتتثاقف وتتشعرن وتفكر وتسخر، تختار لغتها وطريقة خطابها، تسأل وتجاوب، وتكتب اللغة المهجنة بين العامية والفصحى. وقد استطاع هؤلاء الشباب ان يتحرروا من قيود اللغة الواقعية التي تحكي مباشرة، فالأنا في داخل النصوص السردية تتيح للكاتب ان يؤكد مقدرته اللغوية والتعبيرية، خاصة اذا كان في سن الشباب. وهذه المجموعة تؤكد أن القصة العميقة والقوية تؤكد نضج عقلية كاتبها ووعي بالذات وبالآخر الذي تعيش معه، والوعي بالآخر لا يعني القبول، فقد يعني الرفض والتمرد. وقد وجد فيها الشباب في العالم العربي اداة التعبير الاولى للانعتاق من سلطة المكان الجغرافي بكل قهره وخطوطه الحمراء، ليكون المنطلق في أغلب هذه النصوص هو الداخل، حيث المكان هو المكان النفس الحر في افكاره، وسلطته وتداعياته. وهذا التحول يتيح واتاح لهؤلاء الشباب التحول من الخطاب والفضاء المباشر الى الرمزية الدالة والمفتوحة، التي أيضاً تتيح حرية الخروج من سجن الواقع الزماني والمكاني. فإذا كان المكان عند تيودورف الشكلاني الروسي «هو الذي يوفر الانطباعات الاولية، او القناعات الابتدائية، فهذه الانطباعات وهذه القناعات قد ظهرت في مجموعة «العزلة» فإن مجموعة «انطفاءة ظل» كانت ثورة على هذه القناعات وهذه الانطباعات، حيث المكان هو ما تجد فيه إنسانيتك الذي يؤكدها ويحترمها الآخر. والزمن هو ما يقودك الى الخلود بعيداً عن الممات والركود.
إن المرجعية الاولى لهؤلاء الشباب هي مرجعية الذات وانفعالها الداخلي، سلباً أو ايجاباً ثائرة على المكان الجغرافي لأنه نارها وجحيمها وظالمها، او على الجسد الذي أصبح سجناً للروح وانطلاقها نحو الخلود. ولذلك جاءت هذه «الانوات» يائسة وفارة ومنتقمة ومتقوقعة. ولانها «أنوات» داخلية، فقد كتب هؤلاء المكان البلاغي وليس المكان الجغرافي، هذا المكان البلاغي، والمكان الشعري، حيث سبقهم اليه سامي يوسف ونبيل غالي وعيسى الحلو وابو كدوك وغيرهم. وهي ثورة على الشكل التقليدي في القصة القصيرة. ولعل ما ميز القصة الأولى الفائزة هو أنها استطاعت ان تكتب في نص واحد عدة امكنة وازمنة، فالسارد شخصية حية موجودة في مكان واقعي وانثروبولوجي، والدته هي السرة بت عبد المحمود، ووالده صحراوي القسمات، والمكان له عمدة وسلطة، وله عم سكير اسمه «برمة». وليس معنى ذلك أن الأنا او الذات المتكلمة في هذه النصوص تعيش في اللا مكان، وإنما حاولت أن تمزج الواقع المجرد، مع الواقع النفسي الأليم، مع الخيال المبدع. وهذا ما كان مجسداً في نص الطيب وأغلب النصوص جرّدت المكان من الاسم واللقب الجغرافي، بحيث يكون ممتداً اكثر واكثر في الفضاء الانساني. ولعل التواصل الالكتروني قد الغى الحدود الجغرافية والغى التمييز العرقي والجنسي. وهذا التحرر من المكان الجغرافي قد أتاح لهم قراءة الدواخل حتى في الواقع اليومي المعاش، مما جعل الواقعية في بعض النصوص تنتج إيحاءاتها الدلالية أيضاً. والتعمق في هذه النصوص ومضامينها هو درجة الانفصام أو الانسجام بين «الأنا» والآخرين. سوى في الوطن او الاسرة، او المجتمع الاصغر حيث الجيران والحي القريب. فاغلب «الأنوات» في هذه النصوص هي ذات رؤية وحالة شبه انفصامية وليست انسجامية تامة مع الآخرين، فرغم هذا الانفصام فهو انفصال مؤقت وليس انفصاماً كاملاً، لأن المنفصم كاملاً لا يستطيع أن يسرد علاقته مع نفسه او مع الآخرين. فهو انفصام مؤقت وليس طلاقاً بائناً، ولانهم شباب فطاقة الامل لم تنطفئ جذوتها في اغلب هذه النصوص. ففي القصة الاولى الفائزة فالتوبة مفتوحة للوطن وسيعود آدم جديد «رأيت حبيبتك الغيبية» تمشط شعرها لتدخل عليها عريساً ملحمياً.. رأيت أمك تنهض في تلك الليلة مفزوعة مضطربة، وقد شخصت نظراتها نحو الحائط الجالوصي وهي ترى ظلك يتسلل منه دامعاً.. ثم يدخل غرفتك ليطفئ قنديلك الذي لم يطفئوه قط منذ رحيلك.. لحظتها علت «كواريكها» حتى فاض النيل على ارضك البكر لينبت منها آدم جديد بنفس تفاصيلك المفصلة على مقاسك اللا متناهي، فالقنديل لم ينطفئ منذ الرحيل، والنيل ما يزال يفيض. والمرأة تعود سليمة ويصبح شرفها «جزءاً من العالم» كما في نص «وثيقة وجود». وتعود الابتسامة الواسعة لدرجة الانفجار ضحكاً كما في قصة «هروب الذاكرة». وفي نص «عن الزمن الآخر فإن الحبيبة تقف شامخة كعنفوان شجرة سنط، وهذا الشموخ يعني الأمل واستعادة الحياة. ورغم أن المحكوم عليه سينفذ فيه الاعدام في قصة «العبق الهوية» ولكنه يردد بايمان عميق «لقد خلقت في كبد ولكن سيشرح الله لك صدرك ويضع عن وزرك، الذي انقض ظهرك». وفي نص «العائدون» والذي يحمل دلالة العودة بعد الأوبة، والاتصال بعد الانفصال «انا الآن في أحسن حال، الا ترى بطني المتفيل هذا، تعشيت لحماً، وشربت حليباً، وادخرت خمسة جنيهات، انظرها هي في يدي، ولم اعد اسرق، اعمل غاسل صحون في احدى المطاعم، امي معلمتي، وسجن ام درمان مدرستي، وما تعلمني اياه امي يظهر في سلوكي العام».. اما في قصة «خروج» الاكثر سوداوية، فالدنيا لا تزال بخير، طالما ان هناك من يسأل عن الطيب صالح بوصفه شخصاً يكشف شخصية من يعرفه «أين اجد الطيب صالح». ورغم تشظي الأنا «المنسية» في نص «ديدان الأرض.. مطر السماء» فإنها قادرة على تخدير نفسها من الألم في محاولة النسيان، حتى أن الألم يتراجع رويداً رويداً، ورغم تعب النهار فإن الشخصية تنتظر بزوغ الفجر بفارغ الصبر لتواصل لذة الكدح والضرب في الارض. وتبدو محاولة الانعتاق من المكان والزمان واضحة جلية في قصة «ليلة موت» حيث موت الجسد هو قمة الانعتاق والخلاص، ولأن الذي يعرف الموت يقدر الحياة.
ومن ناحية تقنيات الكتابة فقد لجأت اغلب هذه النصوص الى البناء الدائري constrction circulaire حيث العودة والرجوع والاستباق، وهذه التقنية تتيح للنص أن ينعتق من الزمان والمكان.
وكانت اللغة في أغلب النصوص موظفة ومطيعة في تداعيات الأنا الساردة، ولم تكن هناك محطات رومانسية واصفة او حالمة، متغزلة، لأن الواقع الاليم لا يتيح مجالاً لمثل هذا الوقوف. وهذه اللغة موظفة منذ العتبات الاولى للنص، حيث العنونة غير التقليدية، ثم عتبة البداية حيث كانت مفتاحية، وانفتاحية وتحفيزية، تقودك بهدوء الى الدخول في النص، والاستماع للأنا» تتداعى بحرية كبيرة. وكل جملة في النص تقودك الى الاخرى، وكل مقطع يفتح لك غرفة مغلقة.. وحتى النهايات هي مفتوحة وليست مغلقة. واغلب هذه النصوص قد لجأت الى «تحفيز التأليف» وهو التجريب ومحاولة كسر الشكل التقليدي للقصة القصيرة، ثم تجويد وتجديد التشبيهات والمجازات اللغوية والتهجين بين الفصحى والعامية، والسعي الى مخالفة السائد وهدم الوهم الكلاسيكي القديم، واللجوء الى تقنية الاقناع اللغوي وليس الاقناع وتحفيز الحدث. ثم اللجوء الى تقنية الاثبات لتؤكد الأنا ما فيه وما تحس به.
وإذا كانت أغلب النصوص محملة بفكرة وهواجس الكاتب الذاتية، فبعض هذه النصوص لم تتحمل طاقتها قوة الفكرة، فبعضها استعجلها واختصرها، والبعض تاهت منه في داخل النص. حيث اللغة لم توصلها جيداً. وقد استطاع القاص الطيب عبد السلام في قصة «انطفاءة ظل» أن يجعل اللغة تستوعب الفكرة جيداً، وأن تكون طيعة في سردها حيث استخدام فعل الكلام speech act فنصه يحمل عدة قراءات موسيقية صوتية، وقراءة نفسية، وقراءة سيميولوجية، وكانت الكتابة ذكية بحيث لم تكن الأنا مكشوفة، حتى تكون أكثر حرية وهي تتستر خلف كاف الخطاب الذي يتيح حرية الحركة الزمكانية، وتكون الأنا أقرب للراوي العليم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.