قيمة الجنيه تدنت لمستوى غير مسبوق وفقا لمؤشر السوق السوداء الذي يحتكم إليه الجميع بما في ذلك الحكومة التي وضعت مؤشرها الرسمي لتتجاهله مؤسساتها، سيكون بوسع خبراء الاقتصاد الحكوميين استخدام أي مصطلح لشرح طبيعة الوضع الاقتصادي بعدما تقلصت القوة الشرائية للعملة الوطنية إلى ربع ما كانت عليه قبل 4 أعوام، خلافا لذلك الموسوم بأنه مجرد "تضخم" تسعى الحكومة لجعله أحاديا دون أن توضح كيف؟. عندما كانت البلاد تهتز على عتبة الانفصال كان القادة الحكوميون بمختلف أوصافهم الوظيفية يقللون من مخاطره الاقتصادية، ولعل أبرزهم المساعد السابق للرئيس، والنافذ وقتها، نافع علي نافع الذي جزم بأن الخزانة العامة لن تفقد سوى 16 % فقط من عائداتها جراء ذهاب ثلاثة أرباع حقول النفط جنوبا، رغم أن بيانات حكومية لذات الفترة كانت تقدر مساهمة هذه الحقول بأكثر من نصف الإيرادات العامة. على أيامها لم يكترث الحزب الحاكم لتحذيرات خبراء تنبأوا بانخفاض قيمة العملة الوطنية عند معدل 12 جنيها مقابل الدولار الواحد، بل قابلتهم باستخفاف وهي تؤكد أن خططها جاهزة وناجعة لامتصاص الأزمة. لكن اليوم ربما لا يشفع للحكومة بذل الخطط للحد مما تسميه مكاتباتها "ضائقة معيشية" بعدما تخطى الدولار الواحد حاجز العشرة جنيهات في السوق الموازي، وهذا تقريبا ضعف سعرها الرسمي الذي يعتزل وتعتزله غرف الموردين. بالطبع لم تكن خسارة النفط الجنوبي الذي كان يدر نحو 80 % من العملة الصعبة، العامل الوحيد لتداعي الاقتصاد، بل مع عوامل أخرى لكن بعضها على صلة أيضا بانفصال الجنوب مثل عودة قطاع الشمال لحمل السلاح وصك تحالف مع حركات دارفور ترتب عليه زيادة الإنفاق العسكري في الجبهات الثلاث علاوة على توتر العلاقة مع الجارة الجديدة سياسيا وعسكريا ما ترتب عليه من خسارات اقتصادية جديدة مثل تعطل التجارة البينية. ولهذه الحيثيات سعت الخرطوم خلال تلك الفترة لتسوية الخلافات مع جوبا لوقف نزيفها الاقتصادي بإعادة تصدير النفط الجنوبي عبر أراضيها مقابل رسوم دولارية واستئناف التجارة الحدودية، وكان لافتا أن سعر الجنيه يرتفع عندما يزور سلفاكير الخرطوم وينخفض عندما يلغي زيارته، لكن هذه الجهود تبعرث مع تفجر الأوضاع في جنوب السودان وتبين وقتها قلة البدائل الاقتصادية التي كانت الحكومة تتباهى بها. ومن بين تلك البدائل محل التباهي الحكومي، زيادة الإنتاج النفطي في ما تبقى من حقول الشمال والتنقيب عن حقول جديدة لكن حتى هذا البديل فقد مفعوله الذي لطالما بشرت به الحكومة عندما انخفضت أسعار النفط عالميا إلى النصف وتداعت معه أسواق الممالك النفطية. بعدها، أو في خضم ذلك، تحول الخطاب الحكومي للتبشير بالذهب سواء المنتج في القطاع التقليدي أو الرسمي، لكن مصير هذا الخطاب يبدو أنه لا يختلف عن مصير خطة الإنقاذ الثلاثية التي تحولت إلى خماسية ولا أدل على ذلك من تراجع قيمة الجنيه يوما تلو آخر. والمعضلات تتكاثر لتلقي الحكومة باللائمة أكثر ما تلقي على ما تصفها "مضاربات" التجار في السوق السوداء وزاد جدالها بهذه الجزئية في الأشهر الماضية وسط تسريبات بأنها ستلجأ لإلغاء السعر الرسمي وجعل سعر الصرف خاضعا لقواعد العرض والطلب لكيما تضع حدا لهذه المضاربات التي جعلت من الدولار الأمريكي وبقية العملات الصعبة سلعا في حد ذاتها. ورغم صحة الدفوعات الحكومية بشأن المضاربات إلا أنها تبقى نسبية لأن هامش المضاربة اقتصاديا لا يمكن أن يضاعف القيمة إلى ثلاثة أو أربعة أضعاف، وهذا يعني أن الحكومة تريد استخدام سياساتها القديمة بواجهة جديدة تنتهي بأن يكون دعمها للسلع الرئيسة صفريا. ومع انخفاض أسعار النفط عالميا إلى النصف انتفت تلقائيا حجج الحكومة حول دعمها للمحروقات وكذا الحال بالنسبة لسلعة القمح الذي حركت وزارة المالية سعر الصرف الخاص بوارداته إلى 6 جنيهات من 4 جنيهات ليعادل سعر الصرف الرسمي بالتزامن مع الانخفاض العالمي في سعر القمح ما يعني أن عبء دعمه يبقى محدودا إن لم يكن صفريا. وبالتالي لا شيء يرهق الخزانة العامة خلاف واردات الدواء التي تقول الحكومة إنها تدعمها مقابل مزاعم الموردين أنها في الغالب لا توفر لهم العملات الصعبة ما يضطرهم للجوء إلى السوق السوداء. والحال كذلك، فإن السؤال الذي يعبث بخطط الحكومة ليس إلغاء سعر الصرف الرسمي أو تركه لأن أثر الفعلين متقارب، بل: ما هو بديلها أو بدائلها لتحويل وصف اقتصادها من "مستهلك" يستجدي العملات الأجنبية إلى "منتج" يتفضل بها وعليها؟ اليوم التالي