ما الذي حدا بالرئيس السوداني عمر حسن البشير على الدفع بجيشه الى منطقة أبيي التي يتنازع السيادة عليها شمال السودان وجنوبه الذي نال لتوّه الحق في الانفصال ويستعد لإعلان الدولة المستقلة؟ هل يمكن ان يمر التوغل العسكري الشمالي من دون حرب بين الخرطوموجوبا؟ ولماذا الحرب في هذا التوقيت؟ ثم: هل بالحرب يحصّن البشير نفسه ضد رياح «التغيير العربي»؟ بدأ القتال فى منطقة أبيي الغنية بالنفط والمتنازع عليها بين شمال السودان وجنوبه الاسبوع الماضي عندما تعرضت قوة تابعة للجيش السوداني لمكمن اتهمت الخرطوم الجيش الشعبي لتحرير السودان (جيش الجنوب) بتدبيره. وقد نفى الجيش الشعبي أن يكون وراء هذا الهجوم واتهم القوات الحكومية السودانية بأنها «هي التي أطلقت النار أولا». وزير الدولة السوداني للشؤون الرئاسية أمين حسن عمر أعلن لاحقاً أن قوات الجيش السوداني تسيطر على منطقة أبيي، وتقوم بتطهيرها من جميع القوات «غير المشروعة» في المنطقة. والبشير رفض تحذيرات دولية وأميركية بالانسحاب. والحكومة السودانية قالت إن تدخلها في أبيي جاء نتيجة خرق الجنوب للاتفاقات الخاصة بالمدينة واعتدائه أكثر من مرة على القوات الشمالية مخلفًا عشرات القتلى، الأمر الذي أقر بوقوعه ديبلوماسيون غربيون بالقول إن قوات تابعة للجنوب تعمد إلى نصب مكامن للقوات الشمالية وإسقاط العشرات منهم بين قتيل وجريح، وقد تكرر هذا الموقف مرتين في شهر واحد. وبطبيعة الحال، فإن حكومة الجنوب الوليدة لن تسكت عن مثل هذا التحدي لسيادتها الجديدة وستعمد الى الرد. وقد توعد فعلا وزير المعلومات بحكومة جنوب السودان بارناب ماريال بذلك قائلا: «سنرد على هذا الموقف دفاعا عن أنفسنا»، كما اعتبر جنوب السودان قصف المدينة ثم التوغل فيها بريًا من قبل القوات الشمالية بمثابة «إعلان حرب». وابيي .. البعض يسميها كشمير السودان او كركوك العراق، ويحلو للبعض الآخر ان يطلق عليها «عقب اخيل» بحسب الاسطورة الاغريقية، نظرا لما يشكل موقعها من نقطة ضعف في الجسم السوداني. فالجميع كان يخشى ان تكون برميل البارود بين الخرطوموجوبا بعد انفصال الجنوب وتقسيم السودان. وعندما ذهبت الخرطوموجوبا الى استحقاق الانفصال تركت مواضيع أساسية عدة بلا اتفاق على ان ينظر الطرفان فيها لاحقا، مثل ترسيم الحدود والمياه وتقسيم النفط وحقوق المواطنة. وفي غياب الاتفاق على حل عقدة ابيي، كان كل شيء ملغوماً. البعض اعتبر ان ابيي الواقعة منتصف الطريق بين الشمال والجنوب وتطالب بضمها كل من الخرطوموجوبا، قد تكون جسرا للتواصل بين الطرفين بعد الطلاق لوجود قبائل المسيرية العربية فيها جنبًا الى جنب دينكا نقوك النيلية الجنوبية. لكن البعض الآخر اعتبرها قنبلة موقوتة قد تنسف هذا الجسر والسلام الموعود بعد الانفصال، وهذا على ما يبدو يحدث الآن. ما أهمية هذه المنطقة، وهي مثلث لا يتجاوز واحداً في المئة من مساحة السودان، مع ان هذا الواحد في المئة تشكل ضعفي مساحة لبنان، وضعفي مساحة كوسوفو؟ في أبيي بدأ الخلاف قبل الاستفتاء على انفصال الجنوب الذي حصل واستفتاء ابيي الذي لم يحصل من هوية الناخبين، أي تصنيف أبناء المنطقة، بما لذلك من دلالات على ديموغرافيا الجنوب ككل، وعلى نفطه ومائه وموارده من الغاز والمعادن. هل يقترع فقط أبناء الدينكا نقوك، أحد فروع قبيلة الدينكا، كما تطالب الحركة الشعبية؟ أم يقترع ايضاً العرب الرُحل من قبيلة المسيرية الذين يمضون في المنطقة ستة أشهر ويكملون السنة في الشمال؟ تؤكد الخرطوم أن الدينكا وصلوا إلى أبيي في القرن التاسع عشر، بينما المسيرية لم يغيروا نمط حياتهم منذ أكثر من مئتي سنة، وهم ينتقلون بقطعانهم في موسم الجفاف إلى الأراضي الخصبة جنوباً حيث «بحر العرب» الذي يسميه الدينكا نهر «كير». لكن وزير رئاسة مجلس الوزراء في الحكومة الاتحادية السودانية لوكا بيونق يقول إن المسيرية «عابرون»، وحقهم في الرعي في «دولة جنوب السودان» سيكون محفوظاً، لكن «لا صفة مواطنة لهم». لماذا تشدد الجانبين؟ إنها الأرقام. تؤكد الخرطوم أن المسيرية كانوا 75% من أبناء المنطقة في الإحصاء السكاني الأول في العام 1956. ويعتقد محللون أن الإصرار القاطع للحركة الشعبية على عدم السماح لهم بالاقتراع يعني أن عددهم كبير ويُخشى أن يميلوا بنتيجة استفتاء أبيي نحو الشمال، أو يزيدوا نسبة المسلمين في الجنوب. فعلى نقيض الاعتقاد الشائع، ليس الجنوب مسيحياً تماماً. وكانت تقديرات مجلس الكنائس العالمي في الثمانينيات من القرن الماضي تفيد أن نسبة المسيحيين 17 في المئة، في مقابل 18 في المئة للمسلمين وغالبية 65 في المئة للارواحيين وأتباع الديانات التقليدية. والارواحية مذهب في حيوية المادة، وتؤمن الديانات التقليدية بإله سام أعلى، ولأرواح القدماء دور كبير في معتقداتها، خصوصاً دينك العظيم لدى الدينكا. ويُرجح أن تكون نسبة المسيحيين اليوم 40% ، في مقابل 25 إلى 30% للمسلمين، استناداً الى مصادر كنسية غربية. وفي أي حال، قصة أبيي ليست حديثة. فبعد سقوط الدولة المهدية، رسمت لندن الحدود بين الأقاليم السودانية في العام 1905، فدعا الحاكم البريطاني لبحر الغزال نظيره في كردفان إلى إلحاق منطقة أبيي بها لأن ذلك أسهل إدارياً. ووافق زعماء الدينكا نقوك على ذلك، وكان بينهم أنصار للثورة المهدية ولهم لواء من المقاتلين في صفوفها. وللتذكير فإن جنوب كردفان اليوم من ولايات الشمال، وشمال بحر الغزال في الجنوب. وأبيي تقع بينهما، وإلى شرقها ولاية الوحدة وفي الغرب ولاية جنوب دارفور. هكذا كانت المنطقة إدارياً من الشمال، وهي مرتبطة بالجنوب. بل إن العديد من الدينكا نقوك أسهموا في تأسيس الحركة الشعبية في العام 1983، وعدد من السياسيين الجنوبيين من أبيي. وليس مستغرباً أن تقرأ تحقيقاً لمراسل «الكريستيان ساينس مونيتور» من «أبيي، جنوب السودان» يتحدث عن «خط الحدود الشبح» بين الشمال والجنوب. من هنا يحلو لبعض مراكز الأبحاث الغربية وصفها ب»كشمير السودان». والمقارنة مع ولاية جامو وكشمير الهندية ذات الغالبية المسلمة المرتبطة عضوياً بباكستان، هي للإيحاء بأن أبيي جزء من دولة، في إشارة إلى السودان، أو لنقل شماله، بينما هي في الواقع تتطلع إلى كيان آخر هو الجنوب. لكن التشبيه أيضاً يأخذ زاوية مختلفة، هي التحذير من «نقطة توتر دائمة وفرصة للتدخل الأجنبي». فالمنطقة معرضة لتشهد «حرباً أهلية حقيقية، حرباً بين قبيلتين، لا بين الحكومة وحركة تمرد، والحروب الأهلية أخطر أنواع الحروب وحلولها صعبة. وأبيي تعني النفط وتعني ايضا الحدود وهي تعني الكلمة الفصل في مرحلة ما بعد الانفصال. اذا خسرها الشمال خسرت حكومة الخرطوم صدقيتها تجاه اهل الشمال وظهرت بمظهر الضعيف المفرط بما تبقى من الارض السودانية بعدما ابتعد الجنوب عن الشمال. اذا طارت ابيي جاء دور دارفور وإذا طارت دارفور جاء دور بلاد النوبة، وهكذا يصير السودان ليس فقط سودانين بل سودانات كثيرة . والمسألة في غاية الاهمية بالنسبة الى جوبا، فاذا هربت ابيي من بين ايديها ضاع جزء كبير من النفط وضاعت هيبة الدولة الناشئة وتوسع باب الخلافات القبلية المفتوحة اصلا التي تهدد كل بنيان هذه الدولة حتى قبل ان ترى النور. حرب شاملة توغل الجيش السوداني في مدينة أبيي دفع العديد من السياسيين الغربيين، وكذلك منظمة الأممالمتحدة إلى التحذير من أن هذا الإجراء قد يؤدي إلى اشتعال حرب شاملة في السودان. ويعتقد معارضون سودانيون إن دخول قوات الحكومة السودانية الشمالية لمدينة أبيي هي «محاولة من الحزب الحاكم في الخرطوم لجر البلاد بطرفيها إلى حرب يستطيع من خلالها تكميم الأفواه وقمع الحريات، ليحصن نفسه من حلقة سودانية من مسلسل «الربيع العربي» الذي أطاح حتى الآن الرئيسين المصري حسني مبارك والتونسي زين العابدين بن علي ويهدد رؤساء عرباً آخرين. وفي رأي الناطق الرسمى باسم الحركة الشعبية لتحرير السودان الحزب الحاكم فى الجنوب ين ماثيو ان «الجنوب يعيش منذ ما قبل الاستفتاء سلسلة لا تنتهي من الاستفزازات، يقف وراءها المؤتمر الوطني الحزب الحاكم في الشمال لجر الجنوب للحرب، لأن هناك أجنحة داخل المؤتمر ترى أن مصلحتها في حشد الشماليين في حرب ضد الجنوب، لصرف انتباه المواطنين عن المشكلات الكبرى التي يعانون منها». من جانبه، يقول الأمين السياسي للحزب الشيوعي السوداني الشفيع الخضر: أعتقد أننا موعودون بمزيد من التوتر، حيث يمكن أن نسمع بعد أيام قليلة، أن الجنوبيين استعادوا المدينة، وبعدها يستردها الشماليون، لندخل حلقة لا تنتهى من القلاقل». وأضاف: «هناك تيار في حزب المؤتمر يرى أن مصالحه مرتبطة بتوتر عام في البلاد، يستطيع من خلاله تكميم الأفواه وقمع الحريات، في سبيل تحصين النظام من حلقة سودانية من مسلسل الربيع العربي». وكان الرئيس السوداني قد صرح هو نفسه بأن السودان ليس محصنا من الثورات العربية، لكنه اعتبر أنه (البشير) بعيد عنها. فهل صحيح فعلا ان السودان بعيد عن رياح التغيير؟ وهل بالحرب يحمي النظام نفسه من رياح هذا التغيير؟ الكفاح العربي