واصل تحضيراته في الطائف..منتخبنا يؤدي حصة تدريبية مسائية ويرتاح اليوم    عيساوي: البيضة والحجر    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    ماذا قال دكتور جبريل إبراهيم عن مشاركته في مؤتمر مجموعة بنك التنمية الإسلامي بالرياض؟    دعم القوات المسلحة عبر المقاومة الشعبية وزيادة معسكرات تدريب المستنفرين.. البرهان يلتقى والى سنار المكلف    الصليب الأحمر الدولي يعلن مقتل اثنين من سائقيه وإصابة ثلاثة من موظفيه في السودان    انجاز حققته السباحة السودانية فى البطولة الافريقية للكبار فى انغولا – صور    والي الخرطوم يصدر أمر طواريء رقم (2) بتكوين الخلية الامنية    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة حديثة تعلن بها تفويضها للجيش في إدارة شؤون البلاد: (سوف أسخر كل طاقتي وإمكانياتي وكل ما أملك في خدمة القوات المسلحة)    شاهد بالفيديو.. في مشهد خطف القلوب.. سيارة المواصلات الشهيرة في أم درمان (مريم الشجاعة) تباشر عملها وسط زفة كبيرة واحتفالات من المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء أثيوبية تخطف قلوب جمهور مواقع التواصل بالسودان بعد ظهورها وهي تستعرض جمالها مع إبنها على أنغام أغنية وردي (عمر الزهور عمر الغرام)    في اليوم العالمي لكلمات المرور.. 5 نصائح لحماية بيانات شركتك    الأمن يُداهم أوكار تجار المخدرات في العصافرة بالإسكندرية    جبريل: ملاعبنا تحولت إلى مقابر ومعتقلات    موعد مباراة الهلال والنصر في نهائي كأس الملك !    مسؤول أميركي يدعو بكين وموسكو لسيطرة البشر على السلاح النووي    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الخميس    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الخميس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الخميس    ستغادر للمغرب من جدة والقاهرة وبورتسودان الخميس والجمع    السوداني هاني مختار يصل لمائة مساهمة تهديفية    الغرب "يضغط" على الإمارات واحتمال فرض عقوبات عليها    وزارة الخارجية تنعي السفير عثمان درار    العقاد والمسيح والحب    شاهد بالفيديو.. حسناء السوشيال ميديا السودانية "لوشي" تغني أغنية الفنان محمد حماقي و "اللوايشة" يتغزلون فيها ويشبهونها بالممثلة المصرية ياسمين عبد العزيز    محمد وداعة يكتب: الروس .. فى السودان    مؤسس باينانس.. الملياردير «سي زي» يدخل التاريخ من بوابة السجن الأمريكي    «الذكاء الاصطناعي» بصياغة أمريكية إماراتية!    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    السودان..اعتقال"آدم إسحق"    فينيسيوس يقود ريال مدريد لتعادل ثمين أمام البايرن    أول حكم على ترامب في قضية "الممثلة الإباحية"    تعويضاً لرجل سبّته امرأة.. 2000 درهم    الحراك الطلابي الأمريكي    أنشيلوتي: لا للانتقام.. وهذا رأيي في توخيل    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سرقة الإحتياطى النقدى تضع السودان فى حالة الإنكشاف الإقتصادى، وتُحيلُهُ إلى بيئة غير صالحة لاستثمارات الأجانب والسودانيين العاملين بالخارج.
نشر في الراكوبة يوم 05 - 03 - 2016


تمهيد
لعلَّ المراقبين للشأن السودانى يلحظون بأنَّ حكومة الإنقاذ تعانى من عدة إنكشافات: أخلاقية، سياسية، عسكرية، دُبلماسية وأخطرها الإنكشاف الإقتصادى لأنَّه بِبَساطة السبب فى كلِّ هذه الإنكشافات.
لقد فقدت الإنقاذ رصيدها الفطرى من الأخلاق السودانية التى تميز الفرد (الزول) السودانى من كثرة ما عاثت من فساد وإفساد لأخلاق منسوبيها ومن دار فى فلكهم، والذى كان آخره تزوير التصويت الإلكترونى بالولايات المتحدة لرفع العقوبات الأمريكية عن السودان (70000 صوت مُزوَّر من من جملة 117000 صوت). هذا الواقع المزرى من الأخلاق المتردية للإنقاذ جعلها تُتاجر بتجارب بَدَهِيَّة وعادية (ومعلومة من الأخلاق السودانية بالضرورة) لسودانيين أفلحوا فى الهرب إلى الدول المجاورة من دائرة فساد الإنقاذ؛ ودونكم قصة ذلك الراعى الشريف العفيف التى ملأت الآفاق.
وعلى الصعيد السياسى فقد نفدتْ زخيرة الإنقاذ من الحكمة السياسية السودانية الموروثة كابر عن كابر منذ أيام خاليوت بن بعانخى وأجداده فى إيجاد حلول لقضايا الوطن السياسية، الأمر الذى اضطرها لتقطيع أوصال الوطن مسترشدة فى ذلك بعقيدة القرضاوى وحسن البنا والمودودى. والآن هى تُدخِل الوطن، كل الوطن، فى حلقات مفرغة من الحوارات العقيمة اللَّولبية بغرض إلهاء المعارضة المسلحة وجعلها ذاهلة عن الإلتحام بالمعارضة المدنية لأطول فترة ممكنة؛ إذْ أنَّ الإنفاق على محاورتها أقل كلفة من الإنفاق على قتالها، كما أنَّ العمل على إبقاء تلك الشُّقَّة بين المعارضتين يُسهِّل من الإنقضاض عليهما آحاداً. بل الآن يُخشى من أن يكون استفتاء دارفور المزمع عقده فى أبريل القادم تمهيداً لانفصالٍ آخر عن جسد الوطن.
ومن الناحية العسكرية فقد تمَّ تذويب الجيش السودانى بالكامل وتذويب قوميته وسودانويته، واستبدال عقيدته القومية تلك بعقيدة أخوانوية بعد أنْ حلَّتْ محلَّه المليشيات الأخوانوية الجهادية من شتى بِقاع العالم، والتى لا تتأذَّى من قتل العُزَّل فى دارفور وجبال النوبة وجنوب النيل الأزرق وقمع المتظاهرين فى وسط العاصمة القومية؛ فسلاحُها كلَّه موجه لصدر أبناء السودان. أمَّا اغتصاب الأراضى السودانية فى حلايب والفشقة وأم دافوق وغيرها، وضربات إسرائيل المتلاحقة لأهداف داخل العمق السودانى، فقد أُحتُفِظَ فيها بحق الرد لِأجلٍ غير مُسمَّى.
ودُبلماسياً هذا الواقع الداخلى المعقَّد (حينما يُضاف إليه التردى الإقتصادى المتفاقم منذ انفصال الجنوب) يجعل الإنقاذ تعتمد على دُبلماسية خرقاء، دُبلماسية فى غاية الحدة والتطرف. لِمَ لا، وأساطين الدُبلماسية السودانية قد تمَّت إحالة معظمهم للصالح العام، وجرى استبدالهم بأناس غير مؤهلين، الأمر الذى انعكس فى القطيعة الحادة مع بعض المشروعات الإقليمية والعالمية لبعض الدول المؤثرة بعد سنوات من زواج المتعة، والإندغام الحاد فى مشروعات أخرى موازية دون رَوِيَّة دبلماسية. بل وصلت الحِدَّة فى الموقف الدبلماسى إلى المُناداة الوقِحة بالتطبيع مع إسرائيل، وأصبحت خياراً موضوعاً على طاوِلة السياسة السودانية وضمن أجندة حواراته (وإن كانت حقيقة تلك المحاولة تتمثل فى الإبتزاز والضغط على الخليجيين لضخ المزيد من الأموال فى دورة الإقتصاد السودانى لتلافى حالة الإنكشاف الحرجة فى السودان).
ولعل آخر هذه الحِدَّة فى الدبلماسية السودانية هو ما نُسِبَ للسيد وزير الدولة بالخارجية السودانية كمال إسماعيل سعيد من أنَّ القائم بالأعمال الأمريكى " ذكاؤه محدود ودرجة أدائه أدني من الوسط وعليه أن يراجع دفاتره". يحدث هذا من السيد كمال إسماعيل سعيد رغم أنَّه دبلماسى مهنى مشهود له بالكفاءة، ولكن ربما غلب عليه الطبع الأخوانوى فانطمست الدبلماسية عنده بهذا العنف اللَّفظى والقول اللادُبلماسى.
وللأسف نحن نعيش الآن فى بقعة جرَّدتها الإنقاذ من سودانويتها؛ طعمها ولونها ورائحتها. وتتعقَّد إنكشافات الواقع السودانى كلما دلفنا نحو أرينة الإقتصاد كما جاء بعاليه، بل هو أساسُها وأُسُّها، ولذلك هو المحور الرئيس لهذه الأطروحة.
الإنكشاف الإقتصادى
لقد أصبح من المعلوم بالضرورة فى مضمار الإقتصاد الوطنى السودانى أنَّ السياسة المالية هى من المسئوليات الحصرية لوزارة المالية، وأنَّ السياسة النقدية هى من إختصاصات بنك السودان المركزى. وبالتالى يحتاج الإستقرار الإقتصادى بالسودان إلى التنسيق العلمى بين السياستين، مع أهمية إبقاء إستقلالية بنك السودان المركزى بعيدة عن تدخلات وزارة المالية، وإبقاء كليهما بعيداً عن تأثيرات السياسى.
غير أنَّ واقع السياسة الإقتصادية فى السودان يقول بأنَّ وزارة المالية لم تكفَّ يوماً واحداً عن حشرِ أنفها فى سياسات بنك السودان المركزى، ولم يكفَّ السياسى يوماً واحداً عن التدخل فى شأنِ كليهما حتى فى ظل الأنظمة الديموقراطية التى مرَّت بالسودان. وعلى أيَّة حال، تتمثل أهمية التنسيق العلمى بين السياستين المالية والنقدية فى إخراج توليفة مستقرة لعناصر الطلب الكلى (التضخم، ميزان المدفوعات، معدل النمو، والبطالة)، خاصةً التضخم، وذلك لوجود علاقة عكسية بين إقبال الإستثمار الأجنبى وإقبال السودانيين العاملين بالخارج للإستثمار داخل السودان، وبين تذبذب معدلات التضخم. ولما كنا قد تناولنا تأثير تذبذب معدلات التضخم على الإستقرار الإقتصادى فى السودان وبالتالى على الإستثمار الأجنبى وعلى جذب مدخرات المغتربين فى أكثر من مقال، فسنتناول هنا الحديث عن الإنكشاف الإقتصادى الذى هو أخطر من التضخم فى إفزاع الإستثمار الأجنبى ومدخرات السودانيين العاملين بالخارج فيصرفهما عن الإستثمار فى السودان.
تعريف الإنكشاف الإقتصادى
المقصود بالإنكشاف الإقتصادى هو تآكل الإحتياطى النقدى من العملات الأجنبية لحكومة السودان إلى ما دون النقطة المسموح بها، ألا وهى الإحتياطى من النقد الأجنبى الذى يكفى لتغطية تكاليف الواردات السودانية من احتياجات المواطنين والدولة لمدة ستة أشهر على الأقل، الأمر الذى يجعل البلد مكشوفة للأزمات، وعلى حافة انهيار اقتصادى كامل، ومجاعةٍ وفوضى، قد تضطر الدولة للتعامل معها بأىِّ وسيلة تبقيها فى السلطة حتى لو كانت تلك الوسيلة محرمة دولياً؛ ديناً وأخلاقاً كما هو حادث الآن.
ويحدث هذا، لعمرى، ليس من انعدام الموارد المالية ولكن بسبب سرقات الإنقاذ الجارية لتلك الموارد وبسبب شُحِّ لصوصها، الذين يحتكرون عائدات البترول والمعادن النفيسة لأتباع تنظيمهم، ويقيمون أود المواطنين المغلوبِ على أمرهم من البضائع التافهة فى الأسواق العالمية التافهة، ويبيعونها لهم بأثمان أعلى مِمَّا هى عليه فى أسواق العالم كما فى حالة البترول والغاز وجميع السلع المستوردة.
وهنا علينا أن نفرِّق بين مدخرات الدولة من العملات الأجنبية (قسرية كانت أم طبيعية) التى يمكن أن تُظهرها وزارة المالية والإقتصاد الوطنى زور – نور فى ميزانيتها، وبين الإحتياطى النقدى من العملات الصعبة الذى يكفى لتغطية جميع واردات السودان لأطول مدى ممكن (أقلُّهُ ستة أشهر) مع إيفاء جميع إلتزاماته تجاه العالم الخارجى من أقساط الديون وغيرها. وبالتالى فإنَّ الإحتياطى النقدى من العملات الصعبة للسودان، ولأىِّ بلد آخر، يتحدَّد بالطلب الكلى؛ أى أنَّ زيادة ونقصان الإحتياطى النقدى من العملات الصعبة تؤسِّس وتعكس زيادة ونقصان النشاط الإقتصادى للسودان وملاءته الإقتصادية والمالية والإئتمانية.
وضعية الإنكشاف الإقتصادى فى ظل حكومة الإنقاذ
إذا نظرنا إلى أرقام الإحتياطى النقدى لسنىِّ الإنقاذ وبنود التجارة الخارجية ومحصلتها فى الجدول أدناه، سنجد أنَّ السودان فى أغلب سنوات الإنقاذ، بالرغم من عائدات بترولها المهولة، كان فى حالة انكشاف اقتصادى مستمرِّة ومزمنة عدا فى السنوات 1995، 1996، 1997. ولعلَّ السبب فى ذلك هو النَّهب المتواصل لمقدرات الإقتصاد السودانى ولنهب الإحتياطى النقدى من العملات الصعبة ذات نفسه للإستفادة منه فى تبييض أموال البترول المسروقة وغيرها من العمليات غير المشروعة.
كما أنَّ البلد منذ عام 2006 إلى عام 2014 فى حالة انكشاف اقتصادى مزمنة وبدأت تأخذ طابعها الحرج منذ العام 2011 إلى 2014. وتكاد تعمل الحكومة بواقعٍ من "رزق – اليوم – باليوم". فالحكومة لا تملك أىَّ غطاء نقدى من العملات الأجنبية يقابِل حتى الاستيراد الشهرى لمتطلبات المواطنين والدولة كما هو ظاهر بالجدول أعلاه، دعك عن الستة أشهر. ولو لا ضخ الخليجيُّين لبعض المال فى دورة الإقتصاد السودانى فى عام 2015 و2016 لظلَّ الإنكشاف الإقتصادى فى السودان فى حالته الحرجة حيث الإحتياطى النقدى لا يغطى الواردات الشهرية للدولة والمواطنين. ومن غير المنظور أن يخرج السودان من حالة الإنكشاف المزمنة مع دعم الخليجيين المتحفِّظ بسبب عدم الثقة المطلقة فى البشير ونظامه، وبسبب الفساد الضارب بأطنابه لدى متنفذى الإنقاذ، وبسبب وقائع الحروب التى تمولها دول الخليج فى المنطقة.
هذا الواقع من تآكل الإحتياطى النقدى من العملات الصعبة، جعل الحكومة فى غاية التخبط: الإنتقالات المُفاجئة الحادة من حلفٍ إلى آخر (التحول من حلف طهران الشحيح إلى حلف الرياض السخى السهل الإبتزاز مثالاً)، الدبلماسية البذيئة، المناداة بالتطبيع مع اسرائيل، رفع يد الدولة عن معظم الخدمات الإجتماعية، رفع الدعم عن المحروقات وفرض ضرائب عليها بالعملات الصعبة فوق سعرها فى الأسواق العالمية، المناداة بخروج الدولة من الزراعة نهائياً، بيع ممتلكات الدولة للأجانب، متاجرة الدولة فى المخدرات وفتح البلد للأموال القذرة، تحويل البلد لمكب عظيم لنفايات العالم الإشعاعية والمخلفات الآدمية، ترك البلد (كل البلد) لرحمة قطاع خاص ليس له رحمة بالمواطنين ولا يرقبُ فيهم إلاَّ ولا ذِمَّة، ولا يتردد فى إغراق البلد بالبضائع الفاسدة والدقيق الفاسد والأدوية المنتهية الصلاحية.
وكلُّ ذلك لم يدرأ عن البلد انكشافها الإقتصادى وضعف ملاءتِها المالية والإئتمانية، ليجعل منها بؤرة جاذبة لرأس المال الأجنبى ولمدخرات السودانيين العاملين بالخارج. ففى ظل هكذا واقع لا تستطيع الدولة الوفاء بالتزاماتها تجاه المستثمرين الأجانب والمواطنين المحليين (الذين هم فى طلب دائم للعملات الصعبة لشتى الأغراض) ومنظمات التمويل الدولية. ويُعزِّز من هذه الحقيقة أنَّ الدولة اضطرت فى بعض الأحيان أنْ تعطى الشركات الأجنبية العاملة فى السودان سلعاً للصادر بدلاً عن العملات الصعبة لأنَّها فى حالة إنكشاف إقتصادى. ولكى ترغِّبَهم فى القبول بذلك فقد عفتهم من ضريبة الصادر؛ فانظر الخسارة المركَّبة للإقتصاد السودانى.
وتزداد طينة هذا الواقع بِلَّة حينما نجد أنَّ السودان - بكلِّ المقاييس المستقلة والمحايدة التى قامت بها بعض الأجهزة العالمية المختصة كمجموعة البنك الدولى فى عام 2016 – مازال واحداً من الدول الأكثر تعقيداً فى العالم من حيث البدء فى مشروعات إستثمارية، ويحتل الرقم 146 من جملة 189 دولة فى العالم طُبِقت ذات المعايير فى السنة الجارية (http://www.doingbusiness.org/data/ex...onomies/sudan/). كما أنَّ السودان من حيث الفساد وعدم الشفافية يحتل ثالث أسوأ المراكز فى العالم فى عام 2015، هو المركز 165من بين 167 دولة فى العالم (https://www.transparency.it/wp-conte...rt_EMBARGO.pdf). بالإضافة إلى ذلك فإنَّ السودان فى نظر كثير المراقبين الدوليين يُعتبر من أكثر الدولة عُرضةً للبلبلة السياسية، وبالتالى يصبح مكاناً غير جاذب للاستثمار (http://store.bmiresearch.com/sudan-a...sk-report.html). كما أنَّ السودان من حيث درجة الملاءة الإئتمانية هو رابع أسوأ دولة من بين 177 دولة فى العالم قامت بهذا الإختبار، ويحتل المركز 174 (https://www.kpmg.com/Africa/en/KPMG-...ents/Sudan.pdf).
مآلات المساس بالإحتياطى النقدى من العملات الصعبة
سُئل قُرة عين الإقتصاد الأخوانوى فى السودان السيد محمود عباس، الذى يحتل موقع وزير المالية والإقتصاد الوطنى، حينما زار أمريكا فى إحدى زياراته عن حجم الإحتياطى النقدى من العملات الصعبة لدى حكومة السودان فقال: "المرأة لا تُحدِّثُ النَّاس عن عُمرها". وهذه العبارة المخاتلة، تعكس فيما تعكس، أنَّ حجم الإحتياطى النقدى من العملات الصعبة الذى يستطرده أىُّ مستثمر أجنبى ضئيل للغاية. ولم يدرك وزير ماليتنا الهمام وقتها أنَّ مجرَّد إخفاء حجم الإحتياطى النقدى (ونحن من نَفَرٍ الزول بينهم بباهى بالعندو) فهو يشى بأنَّ البلد ليس له إحتياطى نقدى من الأساس؛ وكفى بذلك مُنفِّراً للمستثمرين الأجانب والسودانيين العاملين بالخارج.
ولتتضح أهمية الغطاء النقدى من العملات الصعبة وخطورة المساس به، عزيزى القارئ الكريم، دعنا نفصِّل قليلاً فى ماهيته. فأهميتُهُ تكمن فى كونه غطاء العملة السودانية لدى الجمهور، وفى كونه رصيد الدولة للوفاء بالتزاماتها تجاه المستثمرين الأجانب والعالم الخارجى، ورصيدها لشراء السلع والخدمات التى يحتاجها المواطنون والدولة لأطول فترة زمنية ممكنة إذا، لا قدَّر الله، حدثت كارثة عطَّلت الحياة الإقتصادية بالكامل. ويحدِّد الإقتصاديون الحد الأدنى لهذه الفترة الزمنية بستة أشهر، وفيما دونها يُعتبر الإقتصاد فى حالة انكشاف كما أسلفنا. وهذه الستة أشهر هى الزمن المرن القياسى للدولة لإيجاد حلول للكارثة التى عطَّلتْ أو ساهمتْ فى تعطيل إقتصادها بدبلماسية مُبرأة من الإبتذال والوقاحة والبذاءة السياسية (فنحن أصحاب يد سُفلى).
وبالتالى، فإنَّ المساس بالإحتياطى النقدى له أثر تراكمى وتراكبى سلبى على مستوى الإقتصاد والسياسة والعلاقات الخارجية. وما من دولة تسرِق/تأكل إحتياطيها النقدى من العملات الصعبة إلاَّ وأنَّها دولة أدمنتْ سرقة إقتصادها للدرجة التى لا يُرجى تأهيلها. وحقائق الإنكشاف الإقتصادى المذكورة بعاليه حقائق خطيرة على فكرة، وتتمثل خطورتِها فى الآتى:
1- عجز الدولة عن التأثير فى عرض النقود، وبالتالى عجزها عن التأثير فى سعر الصرف، والذى ينتهى بعجزها عن التأثير فى ضبط التضخم. فحين تمس الدولة إحتياطيها النقدى، فذلك يعنى أنَّ جزءاً من الطلب الكلى يجب التخلى عنه، لأنَّنا يجب أن نسحب المكوِّن المحلى للجزء الذى أخذته الدولة من الإحتياطى النقدى، وهنا يتعطل الإقتصاد وينكمش. وإذا لم نسحب المكون المحلى للإحتياطى النقدى الذى أخذناه يكون الإقتصاد فى حالة تضخم. وإذا زادت الدولة من سعر صرف عملتها للحد من الطلب عليها، هرع الجمهور إلى السوق الموازى ليشترى منه العملات الصعبة لتلبية إحتياجات الطلب الكلى من السلع والخدمات. وإذا أُغرِقَ السوق بسلع عالية الأثمان، ستضطرَّ الدولة إلى تخفيض وطباعة عملتها (دون غطاء من العملات الصعبة) وبالتالى يزداد الأثر التضخمى مع وجود سلع وخدمات لا يستطيع الجمهور شراءها، فيدخل الإقتصاد فى حالة ركود؛ وهو ما يُسمى بالركود التضخمى (Stagflation).
2- إنَّ إضعاف قدرة البنك المركزى على ضبط التضخم، يضطرَّه إلى مضاعفة أثر السياسة النقدية بالتغيير فيها من وقتٍ لآخر، وبالطبع يقع جلُّ ذلك الأثر على القطاع الخاص، فيُعيق هذا النوع من المساس بالإحتياطى النقدى تنمية القطاع الخاص الذى عادة ما يكون شديد الحساسية تجاه عدم الإستقرار النقدى وضعف ملاءة الدولة المالية والإقتصادية والإئتمانية. وكما هو معروف، فأنَّ هذا الأمر سيؤدى إلى مناخ غير ملائم للاستثمار على مستوى الإقتصاد القومى.
3- إنَّ المساس بالإحتياطى النقدى يجعل الدولة غير قادرة على الوفاء بالتزاماتها تجاه طالبى العملات الصعبة من المواطنين والأجانب لشتى الأغراض المشروعة. هذا الأمر قد دفع الإنقاذ لتعطى بعض شركات البترول سلعاً للصادر كما أسلفنا، ولتُغريها بقبول العرض أعفتها من ضريبة الصادر، التى هى واحد من أهم مصادر تمويل الخزانة العامة. ثم انظر قارئى الكريم إلى خطل أن تُطل فى أسواق صمغنا العربى العالمية، على سبيل المثال، شركة ماليزية أو صينية أو قطرية.
4- إنَّ المساس بالإحتياطى النقدى – بدلاً عن مضاعفته - فى ظل الظروف المحيطة بوطننا داخلياً وخارجياً، ينم عن عقلية فى غاية اللامبالاة واللامسئولية والسفه والجهل بأهمية الإستقرار المالى والإقتصادى والسياسى للمستثمر الأجنبى والسودانى المغترب، خاصةً فى المدى القصير. كيف يستثمر عندك الأجانب وأنتَ لا تملك غطاءاُ نقدياً من العُملات الصعبة يضمن لهم تحويل أرباحهم؟ كيف يستثمر عندك المغتربون السودانيون وأنتَم قد أدخلتَم الجيل الأول من تحويلاتهم فى مشروعات البترول والمعادن النَّفيسة وحرهمتموهم من عائداتها ووزعتموها حِكراً على عناصر تنظيمكم؟ من الذى يُلْدَغُ من جُحْرِكم مرتين يا هؤلاء!
وشكراً للسودانيين العاملين بالخارج أنَّهم فَطِنوا لِألاعيبكم، فتقلَّصتْ تحويلاتهم الإستثمارية من 4 – 6 مليار دولار فى السنة، إلى 440 مليون دولار. وهى التحويلات التى بالكاد تقابل الإستهلاك المباشر الحرج لذوى المغتربين من السلع والخدمات، والتى لا مناص من تحويلها لا سيما عبر القنوات غير الرسمية (السوق الموازى). أما تحويلاتهم الإستثمارية كالودائع والمساهمة فى المشروعات التنموية فقد اختاروا لها وطناً آخراً؛ وطناَّ أكثرَ وفاءاً لهم من وطنهم الأم تحت حكمكم الغالِّ البغيض.
ونقول للمستثمرين الأجانب عُوا ما وَعَى المغتربون السودانيون وارحلوا بأموالِكم إلى بلدٍ أكثر استقراراً. فهؤلاء فوق كونهم لا يملكون غطاءاً نقدياً من العملات الصعبة يضمن لكم تحويل أرباحكم، فقد امتدَّتْ يدهم لسرقة الزكاة، وسرقة حُجَّاج بيت الله الحرام، وسرقة عقارات السودان الموقوفة للحرمين الشريفين، وسرقوا حتى المغتربين السودانيين؛ وبالتالى لن يتوانوا فى سرقة أموالكم.
ونقول للحكومات التى وعدت بالإستثمار فى السودان بعد وقوف البشير مع عاصفة الحزم، أنَّ استثماراتكم فى ظل هكذا واقع سوف تُسرَق ببساطة، وبالتالى سوف تتحوَّل إلى ديون يدفعها هذا الشعب المغلوب على أمرِهِ من دَمِ قلبِه. ولتعلموا أنَّنا غير معنيين بأىِّ استثمار غير مدروس ولا يعود على شعبنا بمنفعة؛ فارحمونا يرحمكم الله.
وإذا كنتم تمنون النَّفس أن يُعطيَكم نظام الإنقاذ جزءاً من صادراتنا ويعفيَكم من ضريبة الصادر كما فعل فى السابق، فإنَّ هذا الأمر إنْ حدَثَ فلن يدوم. وذلك لأنَّ مضاعفة الإنتاج وبالتالى زيادة الصادرات هى المعنية بتقليل إختلال ميزانِنا التجارى، ومن ثمَّ المساهمة فى زيادة الإحتياطى النقدى من العملات الصعبة. فإنْ هى ذهبتْ كأرباح عينية للشركات الأجنبية العاملة فى السودان، فذلك حتماً سيُعيقُ دورة بناء إحتياطى نقدى يُساعد على جلب المزيد من الأستثمار الأجنبى؛ وهكذا دواليك.
5- هذا الأمر سيقود البلد إلى انتهاج دبلماسية مرهِقة؛ تنافق العالم بأنَّ الوضع الإقتصادى فى السودان على ما يُرام وتبذل فى سبيل ذلك المشروع واللامشروع من الأفعال (كتزوير التصويت فى أمريكا لرفع العقوبات عن السودان). والعالم يعلم من واقع الإحتياطى النقدى من العملات الصعبة أنَّ البلد فى حالة انكشاف إقتصادى مزمن وحرج. ولكن الوفود تلو الوفود، ستتفاوض وتتسول لسد رمق المواطنين شهراً بشهر، واسبوعاً بإسبوع؛ والأمر ذاته يُراوح مكانه.
وقد رأينا كيف أنَّ دبلماسية الدولة السودانية والدبلماسية الشعبية ودبلماسية رأس المال مجتمعة، قد فشِلتْ فى انتزاع موقف إيجابى واحد من الأدارة الأمريكية تجاه حكومة الإنقاذ؛ التى يا طالما اجتهدت أن تدنوَ من إدارة أوبامبا وتتقرَّب إليها (تحت شُبهة إسلامه الخفى، وجذوره السودانية) قبل مجئ الإدارة الأمريكية الجديدة التى تعلن موقفاً واضحاً من الإسلام السياسى؛ ولكن هيهات.
خاتمة
لتعلم شعبى الأبىَّ الكريم، أنَّ المليار من الدولارات الذى قدمته السعودية تحديداً لدعم الإحتياطى النقدى السودانى من العملات الصعبة (وهو فى حدِّ ذاته مؤشر للإنكشاف الإقتصادى)، ودعم صندوق النقد العربى لميزان المدفوعات بمبلغ 166 مليون دولار، مضافاً إلى ما قدمته دولة الأمارات العربية المتحدة والكويت من أموال، ، لن يخرج السودان من إنكشافه الحرج والمزمن؛ لن يتجاوز ذلك الشهر أو الشهرين. فالبلد من الناحية الإقتصادية منهارة تماماً، وهذه الحكومة إذا لم تسقط بميزانية 2016 الحالية فابحثوا لكم عن خيار آخر لاسقاطها (أخشى أن يكون الشعبُ مسحوراً كما سُحِرَ الحبيب الأمام عليه السلام).
وفى واقع الحال، هذه الحكومة لا تحتاج لأكثر من مظاهرة طوفانية تخرج من كلِّ فجٍ عميق بالعاصمة القومية. وهذا النظام السفيه الذى يجحدُ شعبه (والذى يبنى المرافق الحيوية للأخوانويين فى جزر القمر وجيبوتى)، إذا لم يقُم بإعادة ضخ الأموال المسروقة من خزينة الدولة فى الدورة الإقٌتصادية لدولة السودان، فلن يستمر بإذنِ الله أكثر من ثلاثة أشهر؛ فقوموا لثورتكم يرحمكم الله.
حسين أحمد حسين،
باحث إقتصادى مُقيم بالمملكة المتحدة.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.