ترتيبات في السودان بشأن خطوة تّجاه جوبا    إعلان خارطة الموسم الرياضي في السودان    توضيح من نادي المريخ    حرام شرعًا.. حملة ضد جبّادات الكهرباء في كسلا    تحديث جديد من أبل لهواتف iPhone يتضمن 29 إصلاحاً أمنياً    تحالف "صمود": استمرار الحرب أدى إلى كارثة حقيقية    شاهد بالفيديو.. لاعب المريخ السابق بلة جابر: (أكلت اللاعب العالمي ريبيري مع الكورة وقلت ليهو اتخارج وشك المشرط دا)    شاهد بالفيديو.. بأزياء مثيرة وعلى أنغام "ولا يا ولا".. الفنانة عشة الجبل تظهر حافية القدمين في "كليب" جديد من شاطئ البحر وساخرون: (جواهر برو ماكس)    "صمود" يدعو لتصنيف حزب المؤتمر الوطني "المحلول"، والحركة الإسلامية وواجهاتهما ك "منظومة إرهابية"    شاهد بالفيديو.. حسناء الفن السوداني "مونيكا" تدعم الفنان عثمان بشة بالترويج لأغنيته الجديدة بفاصل من الرقص المثير    صحة الخرطوم تبحث خطة لإعادة إعمار المرافق الصحية بالتعاون مع الهيئة الشبابية    ميسي يستعد لحسم مستقبله مع إنتر ميامي    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    كمين في جنوب السودان    كوليبَالِي.. "شَدولو وركب"!!    دبابيس ودالشريف    إتحاد الكرة يكمل التحضيرات لمهرجان ختام الموسم الرياضي بالقضارف    محمد عبدالقادر يكتب: بالتفصيل.. أسرار طريقة اختيار وزراء "حكومة الأمل"..    تقرير يكشف كواليس انهيار الرباعية وفشل اجتماع "إنقاذ" السودان؟    ارتفاع احتياطيات نيجيريا من النقد الأجنبي بأكثر من ملياري دولار في يوليو    وحدة الانقاذ البري بالدفاع المدني تنجح في إنتشال طفل حديث الولادة من داخل مرحاض في بالإسكان الثورة 75 بولاية الخرطوم    "تشات جي بي تي" يتلاعب بالبشر .. اجتاز اختبار "أنا لست روبوتا" بنجاح !    أول أزمة بين ريال مدريد ورابطة الدوري الإسباني    المصرف المركزي في الإمارات يلغي ترخيص "النهدي للصرافة"    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    بزشكيان يحذِّر من أزمة مياه وشيكة في إيران    شهادة من أهل الصندوق الأسود عن كيكل    لجنة أمن ولاية الخرطوم تقرر حصر وتصنيف المضبوطات تمهيداً لإعادتها لأصحابها    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    خبر صادم في أمدرمان    مصانع أدوية تبدأ العمل في الخرطوم    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    شاهد بالصورة والفيديو.. ماذا قالت السلطانة هدى عربي عن "الدولة"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان والممثل أحمد الجقر "يعوس" القراصة ويجهز "الملوحة" ببورتسودان وساخرون: (موهبة جديدة تضاف لقائمة مواهبك الغير موجودة)    شاهد بالفيديو.. منها صور زواجه وأخرى مع رئيس أركان الجيش.. العثور على إلبوم صور تذكارية لقائد الدعم السريع "حميدتي" داخل منزله بالخرطوم    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    رحيل "رجل الظلّ" في الدراما المصرية... لطفي لبيب يودّع مسرح الحياة    بنك أمدرمان الوطني .. استئناف العمل في 80% من الفروع بالخرطوم    زيادة راس المال الاسمي لبنك امدرمان الوطني الي 50 مليار جنيه سوداني    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    استعانت بصورة حسناء مغربية وأدعت أنها قبطية أمدرمانية.. "منيرة مجدي" قصة فتاة سودانية خدعت نشطاء بارزين وعدد كبير من الشباب ووجدت دعم غير مسبوق ونالت شهرة واسعة    «ملكة القطن» للمخرجة السودانية سوزانا ميرغني يشارك في مهرجان فينيسيا    مقتل شاب ب 4 رصاصات على يد فرد من الجيش بالدويم    دقة ضوابط استخراج أو تجديد رخصة القيادة مفخرة لكل سوداني    أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي    الشمالية ونهر النيل أوضاع إنسانية مقلقة.. جرائم وقطوعات كهرباء وطرد نازحين    شرطة البحر الأحمر توضح ملابسات حادثة إطلاق نار أمام مستشفى عثمان دقنة ببورتسودان    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    بتوجيه من وزير الدفاع.. فريق طبي سعودي يجري عملية دقيقة لطفلة سودانية    نمط حياة يقلل من خطر الوفاة المبكرة بنسبة 40%    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



(حسن/ د.حسن/ شيخ حسن /المرحوم حسن الترابي) 1964--2016
نشر في الراكوبة يوم 11 - 03 - 2016


(2)
كان دخول الترابي السجن في مايو 1969 هو بداية دخول جيل جديد على رأسه علي عثمان مجال الأثر في المحافظة والتقدم بالحزب ومن ثم الحركة. وبطول أمد الإعتقال جرت تطورات هامة حولت مجمل الامر الى مشروع مخالف يحتفظ ويحفظ ويضخم للزعيم آيات عبادة شخصيته--ولا يقوى على اكثر من ذلك فكريا-- كأسلوب حركي مكن من قبضة ذلك أفراد الجيل على المفاصل الاساسية للحزب. اذ في ظل نظام مايو غاب حسن الترابي وعدد مقدر من الصف الاول من الجماعة المناصرة لدكتور حسن في القيادة المباشرة والمشاركة بشكل ما في مواصلة تأسيس اسلامويه الترابي. يشكل العنصر الأساسي في تلك المجموعة والتي يمكن ان تعتبر بأنها المجموعة الثالثة في تاريخ وتطور الحركة الاسلاموية السودانية والتي تضم مثالا لا حصرا في قيادييها كل من احمد عبدالرحمن وعثمان خالد مضوي وعبدالرحمن حمدي وزين العابدين الركابي من خريجي جامعة الخرطوم ومن الحالات المختلفة كل من يس عمر الامام وعلي عبدالله يعقوب ومن التاريخيين محمد يوسف بعتبار ان المجموعة الأولى في تاريخ الاسلاموية السودانية تعود الى جماعة كلية غردون وقتها جامعة الخرطوم لاحقا: بابكر كرار ومحمد الخير عبدالقادر ومحمد يوسف محمد والطيب صالح ويوسف حسن سعد وآدم فضل الله ومحمد احمد محمد علي (مولانا). والمجموعة الثانية هي مجموعة جماعة الاخوان المسلمين والتي تواتر على قيادتها مجموعة من الشخصيات نذكر منها كل من علي طالب الله، محمد الخير عبدالقادر، الرشيد الطاهر وصادق عبدالله عبدالماجد. وعلى تاريخ الحركة الاسلامية لم تكن التحولات وتبادل القيادة فيها كان سلميا او متواددا بقدر ما شهد من العديد من المشاكل والمشاحنات والغضب.
كان بعض أعضاء الجماعة الثالثة تلك في السجن والبعض الآخر في المهجر ابان جزء مقدر من عمر نظام نميري (1969--77). ولذلك وفي ظل ذلك ظل الترابي في الحبس الفترة الأطول ترعرعت اسلامويته كأيديولوجية وهي في طور التكوين وقد كان بها قبل مرحلة السجن القائد الأساسي للمشاكسة العنيفة مع الايديولوجيات القائمة في الفضاء السوداني والاقليمي. اذ كذلك كان يسعي بمناكفته وبالاخذ من بعضها في ذات الوقت اوالتحالف مع غيرها ضد بعضها لان يجد لنفسه ولتنظيمه الصغير مكانا منافسا. إبان فترة الحبس وطوال العصر المايوي عاش الكل في محبس آخر متغير ومتغلب المزاج ضاق بي شخص غير الرئيس القائد. .ولعل الدارس للأفكار الاساسية لإسلاموية الترابي يستطيع يدرك تأثير ذلك المناخ العام والخاص في تطور فكر الجماعة والفكر السياسي السوداني بشكل عام. غير أن ما اعترى اسلاموية الترابي وادخلها في بعض العقد المستعصية التي صاحبت بعضها حتى يومنا هذا. لذلك فان الدارس قد يقف وطويلا عند امهات هذه المشاكل كبرى التي قد لا يجد حلا لبعض عقدها الاساسية. ولعل صاحب الأمر لم يساعد كثيرا او قليلا في حل مثل تلك العقد. وهنا يرد على سبيل المثال ما يأتي:
(1) كيف للدارس ان يجد الصِّلة بين بعض مشارب اسلاموية الترابي والتي هي على صلة ما بالعلمانية الفرنسية --laïcité --والتي ظل الترابي طوال حياته يشير الى ذلك دون تفصيل بإشارته الدائمة خاصة للصحفيين الغربيين بانه هو ابن الثقافة الفرنسية. رغما عن ذلك ذلك الهجوم المتصل من قبله على العِلمانية والعلمانيين ويصمت في ذات الوقت عن هجوم الذين يتهمونه بالعلمانية؟
(2) ومن جهة اخرى كيف لذلك المشرب المتصالح مع السلفية في معادة الاسلام الصوفي والمختلف معها في تقديم السياسة على التدين والصمت المطبق عن المعني الفكري في هذا المجال اذ ان في تقديم السياسة على الدين هو شكل من علمنة الدين؟
(3) ولماذا المجاهرة بعدم احترام قطاع وتاريخ وارث العلماء على مدي عمر وتطور الاسلام كتجربة إنسانية تميزت بذلك الرصيد الكبير والذي لا مثيل في تاريخ تجارب الانسانية الآخرى واعتبار ذلك جزء ماضي عفى عليه الدهر مقارنا بانه هو وجماعته مثال للحداثة. يأتي ذلك دون اعتبار ان ذلك التراث يمثل حداثات ذات اثر في وقتها جعلت من الاسلام تجربة إنسانية مفتوحة؟
(4) ولماذا اقتباس فكرة التنظيم الطليعي من الفكر اللينيني للشيوعيين والاعتراف الخجول بذلك والهجوم المتواصل في ذات الوقت علي الاقتباسات المماثلة باعتبارها نموذج لعدم أصالة لا يتفق مع الثقافة والدين والوقوف عند محطة هنري كوريل لتقطع الشك باليقين؟
(5) لماذا عدم الاعتبار لحسن البنّا من قبل الترابي والاخذ بالاسلام هو الحل وعدم الاعتبار لسيد قطب وافكاره ورفع المصاحف بالحاكمية لله في الشارع والاستدلال بذلك دون ذكر إسم قطب متى استدعت الضرورة مثالا الاهتمام بمعالم في الطريق دون قراءته مع دعاة لا قضاة الهضيبي؟
(6) ولماذا يضن الترابي حتى بالاشارة لمن يستلهم افكارهم مع من اهم ما يتميز به شخص بلغ درجة الدكتوراه ان يكون حريصا على الإشارة الى من يتطرق بالاقتباس او الاستدلال بما جاء فيما يكتب او ما يجئ في حديثه؟
ولعل فى تشابك بعض ما ظهر من اسلاموية الترابي لاحقا وعدم المقدرة في إيضاح المعاني الاختلافية والخلافية والفكرية مثل اصراره عدم مبايعة التنظيم الام للإخوان المسلمين المصريين ولا يتعدى الامر اكثر من إتهام اخوان مصر تأليب السلفية السعودية ممثلة في بن باز ضده ومن ثم احتضان السلفية السعودية لعدد من السلفيين السودانيين على رأسهم قرينه اللدود جعفر شيخ ادريس الذي لم يتورع من تكفيره المرة تلو الاخرى. يضاف الى ذلك تواصل الهجوم الضاري عليه وتكفير الترابي من قبل اجيل السلفيين السودانيين والذي لم يتوقف حتى بموته كما جاء من عند مزمل فقيري وأبوبكر اداب الخارج من عباءة محمد مصطفى عبدالقادر التكفيرية. وهجوم نفر آخر من السلفيين من خارج البلاد. ولعله من المدهش هجوم الإنقاذ الاولى على آل سعود ووصفهم باليهود والصمت عن الاختلاف مع الوهابية وشيخها بن باز.
غير أن ما يجدر الوقوف عنده وكثيرا هو فتح الباب للسلفيين السودانيين من قبل النظام خاصة بعد المفاصلة لا لشي غير العداء المختلف الأسباب للترابي. لقد نسب الى الترابي مرة قوله او ما معناه ان شكل وأسلوب عداء خصومه السياسين الحقيقين لم يفحش بمثلما فحش به او ما جاء به اعداؤه الجدد من الإسلامويين والذين كان غالبية السودانيين تعتقد بأنهم كانوا في مقام تلاميذه. غير ان الترابي بوجه خاص اي بحكم انه من اكبر الذين توالى عليهم الضر من غرس ما زرع لم يرى حتى اخر أيامه بان ما جرى له وللبلاد واهلها ذلك الوجه المظلم للإسلاموية وان الذي اصابه منه ما اصابه طوال عمر الإنقاذ واصاب الشعب السوداني منه ما اصابه. و هو انه هو قد أقام في المقام الاول ما أقام وقد تكالبت على ذلك ظروف اخرى جعلت من تلك التجربة حركة بلا وجدان وهن ثم وبذلك ومن ذلك قد أقامت للشر دولة. ولعل ذاكرة السودانيين ومجلدات الصحف تحفظ أقول البشير مثل: "أنا اذا أصدرت قراراً بقطع راْسه (اي الترابي) افعلها وانا مطمئن لله سبحانه وتعالى." العياذ بالله. ومن الأمثلة الأخرى والتي تدلل على الجانب الاخر ما ورد عن ابراهيم السنوسي في جريدة الصحافة في التاسع من يونيو 2000 كمثال "أنني لست من المنكرين انني واحد من قيادات الإنقاذ وكل الذي حدث من انتهاكات حقوق الانسان كان باجتهادات وكنا نرى فيه مصلحة للإسلام والسودان حين أقدمنا على استلام السلطة. فان كان فيه خطا فليغفر الله سبحانه وتعالى لنا وان فيه صواب فان الله يجزينا فيه صواب وهذا شي طبيعي." يقول ذلك دون وخز من ضمير. حسبنا الله ونعم الوكيل. قارن بين هذا وذلك وبين ما ورد عن آيخمن النازي من احاديث مماثلة او مشابه حول ما قام به والتي ادلى بها إبان محاكمته لتدرك من أين اتي الشر واستفحل.
نعم لقد كانت فترة الامين العام الغائب مرحلة هامة جمدت أي جانب فكري في اسلاموية الترابي ليحفظ صاحب الفكر امره في صدره ومن ثم ليصبح من بعد هو "المستبد العادل" في عالمه الفكري ذلك. ان فكرة المستبد العادل قد جاء بها محمد عبده من قبل وسيد قطب وقت علاقته مع مجلس قيادة الثورة المصري قبل "المفاصلة" بين جمال عبد الناصر والاخوان المسلمين المصريين. وهنا لا أعني بالمستبد السلطان وإنما اعني القائد الفرد. ولا أقف عند تلك الجوانب السطحية التي يقف عندها البعض ليدلل بها على مظاهر استبداد مثل السخرية من رأي الآخرين والعنف في الرد عليهم الخ وإنما في مظهر وجوهر الزعيم الذي يقوم بالإحاطة بكل شئ وشرح كل شئ اي شئ. وقد يبدو ان الكل له خضوع في ذلك ولكن دراسة متنانية لسيكلوجية تلك الحركات المتشابهة والتي يلحق اسمها الدارسون بال ism او تلك القائمة على الأفكار الصمدية تشترك في امر هام اذ انها بقدر ما تصنع تابعيها المؤمنين إيمان العجائز تَخَلَّق ايضا من داخلها مقلديها الذين قد يخرجون على الزعيم لا المبدأ العام الذي تقوم عليه أسس الاستبداد. الامر الذي يفسر استبدال بعض اسلاموي الترابي باستبدالهم مستبد ناعم عندما أسبقوا عليه صفة الشيخ وامل ولاية فَقِيه سنية باخر صمموه وفق ما أرادوا من الاستبداد ليتفق والوجه المظلم للاسلاموية. وليس ذلك بجديد على التجربة السودانية فقد صمم من قبل اخرون استبدادا اخر في الذي وصفوه بالرئيس القائد وفي كلا الحالين اصبح كل من الاثنين عدوا وحزنا للذين صمموا اي منهما في المقام الاول وبلا شك للبلاد واهلها. يظل مسمار جحا حتى موعد معلوم.
في غيابه في فترة االسجن الاولى (1969-77) لم يترك الترابي وقتها كتابا او تسجيلات صوتية يمكن ان يستعين بها أولئك الذين كانوا في مقتبل العمر والجدد في مجال السياسة والتنظيم. لم يكتب كسيد قطب او قرامشي شيئا اكثر من رسالة واحدة مقتضبة لجماعته من السجن. لذلك ومن واقع جهدهم تحول التبشير بالفكرة الى تبشير بالزعيم الغائب وتقليده في حركاته وسكناته في الخطابة لا في الفكر الذي كان من الممكن او الضروري ان يتضمنه الخطاب. وتحولت الجماعة من مجموعة كان من المفترض فيها ان تكون جمعية تهتدي بفكر جديد او أيديولوجية متقدمة الى جماعة حركيّة "خدمية" آخذة في النمو من اجل ان تحافظ على نفسها بما تستطيع وبما تمكنها به قدراتها المتواضعة في الخطاب حسب الطلب. لذلك واصلت في انتهاج العنف الخطابي تجاه هدم الآخر. في ذلك الوقت قد ظهرت كوادر خطابية من الجمهوريين بوجه خاص والشيوعيين بوجه عام ودخول بعض الطلاب الجنوبيين ذلك المعترك. ومن كل ذلك نمى اُسلوب خطاب قهوة النشاط الذي وصفه عبدالله علي ابراهيم بانه أشبه بشكل الديوك. لذلك فان الحركة الاسلاموية كمعاصريها ومنافسيها في ذلك الوقت من شباب جامعة الخرطوم لم تنتج فكرا لانها أصلا لم تقف على قاعدة فكرية اذ انحصر امر الفكر عند الزعيم. وانتقل اُسلوب قهوة النشاط في نوع ذلك الجدل "الديكي" والعنف اللفظي والمكتوب بانتقال دفعات بعينها من أولئك الطلاب الي ميدان المجال العام ومن ثم مراكز السلطة والتأثير ومن صحف الجامعة الحائطية الى صحف الجبهة الاسلامية في مرحلة الديمقراطية الثالثة: ألوان نموذجا. غير ان الامر لم يقف عند هذا الحد. فقد ما جاء في مرحلة حفلت بتطورات كبرى وهامة جدا في إطار التنظيم وفي العديد من مجالات الحياة السودانية السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
في وقبل فترة غياب الزعيم الغائب كانت ثورة أكتوبر قد اعطت بارتباطها بجامعة الخرطوم ما جعل من الجامعة الهيكل الأكبر للدين المدني. وقد انسحب ذلك على مكانة الجامعة في المكان وفي الخيال السوداني. ووهب طلاب وساتذه وحتى بعض العاملين في الجامعة مجدا وبريقا. وقد ظلت صورة الزعيم الغائب في الخيال الطلابي مرتبطة بوجودهم المعنوي كأستاذ سابق ونموذج لمل يمكن ما تهبه الجامعة من مكانة علمية ومجدا اجتماعيا وسياسيا. كل ذلك أعطي نهج عبادة شخصية الزعيم قيمة إضافية. في ذات الوقت قد تزايدت إعداد الطلاب القادمين من الهامش عامة وحفظة القران من دارفور خاصة. كما ازداد عدد الطالبات بشكل ملحوظ. كل ذلك قد تم وحرم الجامعة ظل مكانا محرما على قبضة مايو الخانقة. لذلك أصبحت الجامعة واتحاد الطلاب من اهم ما يسعي له اي حزب سياسي. وقد استطاع طلاب الاتجاه الاسلامي المحافظة على السيطرة على اتحاد طلاب جامعة الخرطوم بكل السبل بما فيها تزوير الانتخابات. ومن هنا ياتى احد مصادر العنف في اسلامويي الترابي. وأصبحت التربية السياسية لذلك الفصيل تقوم على التفوق في العنف اللفظي والعنف الفعلي. ومع تطور ذلك النهج وتلك التربية تطور ما اجتزء من الآية "وأعدوا" واخرج من سياقه عند جماعة الاخوان المسلمين الام الى صرخة حرب عند جماعة اسلاموية الترابي. وبذا أصبحت جامعة الخرطوم هي معهد التدريب علي العنف الامر الذي مكن لعديد من خريجي الجامعة المشاركة في انقلاب 1989 الذي كان اكثر من 80٪ من المشاركين فيه من ملكية نافع الذين جاء وصفهم في مذكرة العقيد فيصل ابو صالح التي نشرت في عدد من الصحف العربية بأنهم كانوا أفضل تدريبا من بعض النظاميين. كما برز من أولئك الكوادر الأمنية التي ظلت ممسكة بأمر عنف الدولة وتطويره. لذلك لم تألو الإنقاذ جهدا في فرض حالة العنف وتوزيعه على المواطنين منذ يومها الاول. ولا تزال كل الدماء تسيل حقيقة وانهارا على طول البلاد وعرضها.
وفي تلك الفترة وفي جو الشمولية المايوية الخانق نمى جيل جديد من شباب الإسلامويين الذين شكلوا القطاع الاكبر بعد ذلك من الرعيل الثاني من إسلامويه الترابي. وإبان فترة 'الامام الغائب' وفي إطار تطورات المجال السياسي المقفول في السودان والمجال الخاص المفتوح في جامعة الخرطوم من جهة وتصاعد هجرة اعداد السودانيين عموما والاسلامويين خصوصا الى دول الجوار البترولي خاصة السعودية والخليج وتجربة المعسكرات في للصحراء الليبية وانفتاح المجال الامريكي للاسلامويين بوجه عام تشكل ذلك الفصيل الثاني كجمعية مغلقة في إطار الجمعية الام وان كانت هذه الجمعية الجديدة اكثر اختلافا عن سابقتها. لذلك وعندما خرج حسن الترابي من السجن وعاد من عاد من المهاجر بعد المصالحة في 1977واجه كل من الفصيلين وضعا لم يألفه اي منهما من قبل. فعلى صعيد واضح برز عدد كبير من شباب الحركة منسجما مع ذاته الجديدة وملتفا حول علي عثمان الذي لم يدخل السجن او يهاجر الى خارج البلاد بل ظل الأكثر معرفة بأفراد ومقدرات اي من أفراد ذلك الفصيل. هذا وفي الوقت الذي وجد حسن الترابي وجيله القديم انهم اقل معرفة بذلك التطور ومن فيه. ومن ثم لاحت في الأفق لكل من الفريقين بوادر ما يكن ان نطلق عليه ما قاله ننادي في وضع مخالف لهذا intimate enemy. اذ كان ذلك الفصيل الجديد في أفراده وجمعيتة المغلقة اكثر حاجة الى الرصيد الإعلامي وراس المال السياسي لحسن الترابي وبعض من شاركوه في بناء الاسلاموية الجديدة أوالذين غابوا في السجون والمهاجر. فهم في ذات الوقت يتمنون ذهابهم ليخلو الجو لهم. ولا اعتقد ان حسن الترابي لم يدرك ما ظهر من مستجدات الأمور وقتها ولكن قد يخطر انه كان يعتقد ان ذلك الفصيل او الشباب كما كانوا يسمونهم جهرا لا سراً بانهم لا يزالون أولئك 'الفعلة' الذين يمكن استثمار طاقتهم ولو الى حين. او انهم فتحوا الباب للشباب كما كان يقول بعض القيادات المتضررة من نتائج تلك المستجدات. لذلك لم يكن التعايش الداخلي بين الفصيلين تعايشا يقوم على توافق فكري او إيماني وانما يقوم على ضرورات تبيح عدم الإفصاح عن صراع غريب ومكتوم ان لم يكن على خلاف مع بعض أشكال خلافات وصراعات الاسلامويين السابقة --تلك الصراعات المريرة قبل مرحلة الترابي--في داينميكيته وحتى في أشكال التعبير عن ذاته لاحقا في مراحله المختلفة.
وما يحمد لبعض الإسلامويين السودانيين أن منهم حين اختلف مع الإنقاذ او مبدأ الانقلاب منذ اليوم الاول مثل الطيب زين العابدين لم ينزوي في منازله بل عبر عن موقفه بشكال مكتوبة. واخرين اختلفوا معها في أوقات مختلفة من عمر تطورالانقاذ وتقلباتها المتعددة ولم يترددوا من الصدح ببعض اختلافاتهم. مثل التجاني عبدالقادر واحمد عزالدين وعبدالوهاب الافندي وخالد التجاني على سبيل المثال لا الحصر. وهناك من اختلف مع بعض ما جاء من بعد المفاصلة للطرف الاخر اي الشعبي. وقد يكون من الصعب تقديم دراسة متكاملة لتلك الظاهرة اذ امر ذلك يمكن ان يأتي لاحقا. ولكن الإشارة الى بعض ما تعرض له بعض كتاب اسلاموية الترابي حول تطور الصراع في بعض اشكاله الداخلية. وفقد جاء ما جاء في الحديث التطور الداخلي والغريب للحركة الاسلاموية في ظل الانقاذ في شكل متفق مع ما ذهبت اليه بان الخروج على الزعيم لا يعني الخروج على الامر كله. فقد ظل السر في محل الجهر واردا بالنسبة الفصيلين ولم يتيسر الجهر في محل الجهر لاي منهماحتى الان. فإذا اخذنا على سبيل المثال كتاب المحبوب عبدالسلام: الحركة الاسلامية السودانية: دائرة الضوء وخيوط الظلام 'هو كتاب على درجة من الاهمية' نجد ان دائرة الضوء تلك قد اكتنفتها المزيد من خيوط الظلام من جراء التلميح والإشارات والرموز المعقدة لا الإفصاح. حتى عن الأسماء المشاركة في الأحداث الكبيرة والتي لا يشار اليها عيانا بيانا بل ظل ايكتنفها غموض الاشارت تلميحا او رمزا كأنهم شخصيات لرواية صوت الصخب والعنف لوليم فلوكنر او مسرحية لا معقول لصمويل بكيت. بمعنى ان المحبوب أنتج بامتياز الصوت الداخلي لجمعيته دون إخلال يذكر في وضع السر محل السر والسر محل الجهر. رغما عن ذلك فقد منع جهاز أمن النظام توزيع الكتاب في السودان. نموذج آخر لتلك الظاهرة نجده في كتاب عبد الرحيم عمر محي الدين: الترابي والإنقاذ صراع الهوية والهوى والذي يعكس بعض الإفادات الدالة على فتنة الاسلامويين في السلطة وذلك على لسان بعض الشخصيات الاساسية في الحركة هو عدم تجاوز محل السر الى الجهر. وهكذا قس على ما بين قوسي تلك الظاهرة. وكتاب اخر لعبد الغني احمد ادريس. إضافة الى المقالات الصحفية المتعددة والتي تسير وفق ذلك النهج.
لكن يبقى السؤال ألم يحن الوقت للوقف عند ما يردده البعض منذ وقت طويل بأن حسن الترابي هو عراب النظام ومصمم دولته؟ بمعنى اخر هل الإنقاذ هي في الأساس مشروع حسن الترابي ام هي اولا وأخيرا مشروع اخرين؟
يتبع
د. عبدالله جلاب
جامعة ولاية اريزونا
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.