الفيلم الحائز على جائزتي «أوسكار» كأفضل فيلم وكأفضل سيناريو أصلي، من بين ست رشح لها، جدير بالتأكيد بكل الجوائز التي رشح لها أو حصدها، كواحد من أفضل أفلام العام 2015. أولا لأهمية القضية – الفضيحة التي يتناولها بالتدقيق والتشريح بمبضع إنساني حساس. نحن نتحدث عن فضيحة انتهاك الأطفال جنسياً على يد مجموعة من القساوسة، هزت أركان الكنيسة الكاثوليكية في الولاياتالمتحدة وعدد غير قليل من الدول حول العالم. وثانيا لأن المعالجة الدرامية الفذة التي تجمع بين طابع الإثارة البوليسية والتناول التحليلي تلقي «أضواء كاشفة» بالمعنى الحرفي للكلمة الذي يلخصه عنوان الفيلم «ضوء كاشف Spotlight» على الظاهرة وخطورتها ومدى انتشارها في قلب مؤسسة بحجم الكنيسة الكاثوليكية، تحتل مكانة لا تبارى في قلوب ملايين المسيحيين المتدينين بوصفها إحدى قلاع مكارم الأخلاق، حاملة مشعل الإيمان والهداية الروحية والتبتل والعفاف. نحن نعلم أن قصة الفيلم والسيناريو بنيا على وقائع حقيقية، وتحديدا على مجموعة من التحقيقات الصحافية نشرتها وحدة خاصة للصحافة الاستقصائية، تحمل عنوان الفيلم نفسه «سبوت لايت»، تابعة لصحيفة «بوستون غلوب»بدأت في العام 2001، (وحصلت الصحيفة عنها على جائزة « بوليتزر» المرموقة للخدمة العامة عام 2003(، وهو ما يمنح الفيلم مصداقية فنية وأخلاقية كبيرة (لا شك أنهما كانا من عوامل فوزه بالأوسكار، حيث تميل الأكاديمية الأمريكية أحيانا لتكريم الأفلام التي تتناول قضايا اجتماعية ذات مردود أخلاقي). الفيلم يحمل وساما آخر على صدره لأنه يقدم نموذجا يحتذى للصحافة الاستقصائية التي تجسد إحدى مهام مهنة البحث عن المتاعب الرئيسية، في كشف الحقيقية وفضح بؤر الفساد ومحاسبة المسؤولين، من خلال مجموعة « سبوت لايت» التي تضم أربعة صحافيين ورئيسهم، وتعتبر أقدم فريق للصحافة الاستقصائية في الولاياتالمتحدة: «مايكل» ( مارك رافالو في واحد من أفضل أدواره ورشح عنه لأوسكار أفضل ممثل في دور مساعد)، و»روبي» (مايكل كيتون)، و»ساشا» (راتشل ماك آدامز، ورشحت أيضا لأوسكار أفضل ممثلة مساعدة عن دورها)، و»مات» (برايان جيمس) ورئيس الفريق «بن» (جون سلاتري). بضع تفاحات عطنة يتناول فيلم « كل رجال الرئيس» فضيحة « ووترغيت» التي أطاحت بالرئيس الأمريكي الراحل ريتشارد نيكسون. تكشف لنا المعالجة الدرامية الذكية للمخرج توم مكارثي، وهو أيضا شريك في كتابة السيناريو مع غوش سينغر، أن مثل هذه الفضائح الأخلاقية التي عادة ما تطال مؤسسات كبرى أو نافذة في المجتمع، لا يمكن لها ان تقع وتستمر من دون حساب أو عقاب إلا بتواطئ على أعلى مستوى في الأغلب الأعم. مرة بعد أخرى، وفي أكثر من مشهد يبعث الفيلم بهذه الرسائل البليغة ضاربا على هذا الوتر تحديدا. فمنذ بداية الأحداث وفي أول اجتماع لرئيس تحرير الصحيفة الجديد الواصل لتوه من نيويورك، «مارتي بارون» ( لييف شرايبر) يسأل فريق العمل ما إذا كان أي منهم قد قرأ عامود في «الغلوب» حول قس يدعى «جون غوغان» متهم بالانخراط في انتهاك الأطفال جنسيا في ستة مواقع على الأقل تنقل بينها، على مدى خمسة عشر عاما. وتنقل صاحبة العامود «إيلين» عن محامي يدعى «ميتشل غاربيديان» الذي تولى الدفاع عن عدد من الضحايا، قوله إن كبير أساقفة «بوستون»، الكاردينال «برنارد لو»، علم بكل هذه الممارسات ولم يفعل شيئا البتة. يقترح رئيس التحرير على فريق «سبوت لايت» أن يتحرى القضية، خاصة أنهم انتهوا لتوهم من قضية أخرى كانوا بصددها. وفي مرحلة لاحقة حين تقودهم التحريات والبحث إلى قائمة تضم ما لا يقل عن تسعين قسا متورطين في انتهاكات مماثلة لعدد كبير من الأطفال ويتحمسون لنشر الأسماء وما قد يترتب على ذلك من تبعات قانونية، يوجههم رئيس التحرير بضرورة ترك الأسماء جانبا وتوجيه سهامهم مباشرة إلى رأس الأفعى، أو قلب الفساد، والتركيز على فضح النظام، أو المؤسسة الكنسية، «المجمع الكنسي» في «بوستون» بعد أن تكشف السجلات أن أولئك القساوسة الذين كان يثبت تورطهم أو يفتضح أمرهم على نطاق ضيق، تقوم سلطة الكنيسة بنقلهم إلى موقع كنسي آخر، أو تزعم أنهم « في إجازة مرضية» أو «مهمة طارئة»، كما تقول السجلات، ومن ثم يتم دفن القصة تماما. تدريجيا يكتشف الفريق أن المسألة أكبر من مجرد قس واحد «منحرف»، أو حتى اثني عشر قسا، كما بينت التحريات الأولية. إذ تقود التحريات «ساشا» إلى أحد ضحايا الانتهاكات الجنسية حين كان طفلا ويدعى «فيل سافيانو»، ويتولى حاليا إدارة جمعية خيرية باسم «شبكة الناجين من الاعتداءات الجنسية بواسطة القساوسة». «سافيانو» غاضب ومحبط للغاية لأنه يكشف عن أنه سبق وأرسل كما هائلا من الوثائق بشأن هذه القضية إلى الصحافية لكنها تجاهلتها. وفي مشهد مؤثر يشرح لهم أن القساوسة يختارون ضحاياهم من أطفال الأحياء الفقيرة، غالبا من أسر غاب فيها الأب لسبب أو لآخر، وكيف أن تلك الأسر وأطفالها عادة ما ينظرون إلى القس كما لو أنه بمرتبة الرب، ولذلك فإن أي اهتمام يبديه نحو الطفل يعد شرفا لا يضاهية شيء آخر في نظره. ويشرح الرجل كيف أن الجريمة تتجاوز كونها انتهاكا جسديا، بل هي أيضا انتهاك روحي، لأن الطفل يتلقى طعنة في عقيدته تترك جرحا غائرا لا يندمل، وكيف أن الكثيرين من هؤلاء ينتهي بهم الأمر كبالغين إلى شخصيات محطمة، تنساق إلى إدمان الكحول أو المخدرات، وبعضهم يقدم على الانتحار. يقودهم «سافيانو» إلى قس سابق يدعى «ريتشارد سايب» عمل لفترة في مركز لإعادة تأهيل القساوسة الذين يضبطون بجرم انتهاك الأطفال في ولاية «لويزيانا». وحين يتصل «سايب» بفريق العمل يفتح أعينهم على حقائق مذهلة فيخبرهم أن خمسين في المئة فقط من القساوسة في الكنيسة الكاثوليكية هم متبتلون، أي يلتزمون بالعزوبية، وهو ما يخلق ثقافة من السرية داخل أروقة الكنيسة للتكتم على العلاقات الجنسية التي تنشأ سرا، سواء بين القساوسة بعضهم مع بعض (أو بينهم وبين الراهبات)، وإن هذه السرية تمتد لتشمل علاقات انتهاك الأطفال بالضرورة. ويقدر «سايب» أن 6% من رجال الكنيسة يمارسون علاقات جنسية مع الأطفال، وكيف أن أحد كبار المسؤولين في الكنيسة قدر في تقرير عام 1985 أن قضايا انتهاك القساوسة للأطفال يمكن أن تكلف الكنيسة نحو بليون دولار من التعويضات. ويضيف «سايب» أن كبير الأساقفة سيحاول إقناعهم بأن المسألة لا تعدو بضعة قساوسة شذوا عن الناموس أو انحرفوا، وبالتعبير الشائع «بضع تفاحات عطنة لا غير» أما بقية المحصول فلا غبار عليه. الكنيسة في قفص الاتهام لكل هذه الأسباب تكثف الكنيسة تحركاتها وتمارس ضغوطا حثيثة للحيلولة دون تناول القضية. فحين يذهب رئيس التحرير للقاء كبير الأساقفة، يبدي الأخير استعداده للتعاون مع الصحافية في تحرياتها لكن «بارون» يرفض بلباقة، مؤكدا أن الصحافية تفضل العمل منفردة، فيذكره الكاردينال بصحيفة أخرى فقدت الكثير من قرائها حينما اختلفت الكنيسة معها. بعدها يتلقى «بارون» زيارة من شخص متنفذ يوجه إليه دعوة لحضور حفل خيري تنظمه الكنيسة، ويكرر على مسامعه النصيحة ذاتها، بضرورة التخلي عن تحري القضية، لأن ملاحقة الكنيسة يمكن ان يكلف الصحيفة أكثر من نصف قرائها من أتباع الكنيسة الكاثوليكية. في الحفل الخيري الذي يضم نخبة المجتمع الكنسي وشخصيات أخرى من علية القوم، يخبر «روب» «بارون» كيف أنهم حين قاموا بتحري قضية قس آخر مشبوه قبل عشر سنوات «استمطر كبير الأساقفة عليهم لعنات الرب، فتعرض أحد محرريهم لحادث بعد بضعة أيام أثناء التزلج على الجليد كسرت فيه ساقه». وحين يلتقي «روبي» في الحفل ذاته بصديق محام له يدعى «جيم»، تولى عدد من قضايا القساوسة المتهمين ويطلب مساعدته يرفض الأخير تماما التعاون معه ويذكره بسرية اسماء العملاء، وإن رضخ في مشهد تال بعد تقريع ضميره وإلحاح من «روبي» الذي زاره في منزله، رغم خوفه من ملاحقة الكنيسة له. وهو الموقف نفسه الذي يواجهه «مايكل» عضو فريق التحري النشيط جدا حين يذهب للقاء محامي الضحايا «غاربيديان» الذي يرفض حتى مجرد لقائه في البداية متذرعا بانشغاله، لكنه ينجح في إقناعه بعد لأي حين يخبره بأن الصحيفة تضع كل ثقلها وراء التحقيق، وأنها على استعداد حتى لمقاضاة الكنيسة لفض الأختام عن مجموعة من الوثائق، خاصة بقضايا الانتهاك تلك، التي تضم كل المعلومات التي تدين هؤلاء المتورطين. وحين ينجح «مايك» في كسب ثقة المحامي وفي مشهد دال أثناء لقاء جمعهما على الغذاء يسر إليه الأخير بحجم الفساد الأخلاقي المتفشي في الكنيسة، مشيرا إلى أن الأمر كان في حاجة لشخص من خارج الكنيسة وبالأحرى «لامنتم» لها كي ينبش خزانة الأسرار تلك، ملمحا إلى حقيقة أن رئيس تحرير «الغلوب» الجديد يهودي. وهو ما نفهمه أيضا من إشارة «غاربيديان» إلى كونه «ارمنيا» وهو ما يضاعف إحساسه بالوحدة في «بوستن» خاصة أنه لم يتزوج، متسائلا ما إذا كان «مايك» وهو من أصل برتغالي يشعر مثله بالوحدة. ولا ندري إذا كان يمكن أن نحمل هذه الإشارات العابرة لديانة رئيس التحرير أو مشاعر الأقلية لدى المحامي الأرمني أكثر مما تحتمل، علما بأن فريق «سبوت لايت» الحقيقي الذي كشف تلك القضية جميهم نشأوا في أكناف أسر كاثوليكية، وإن لم يكن أي منهم متدينا بالمعنى الحصري. الرسالة الأهم هنا هى بلا جدال التي لا يمل الفيلم من تذكيرنا بها، هي أنه حين يرتع الفساد في جسد ما لفترة طويلة وعلى نطاق واسع، سواء كان مؤسسة دينية أو سياسية أو مهنية، لا يمكن أن يستمر مستمتعا بتلك الحصانة التي تمكنه من التفشي أو السرية من دون تواطؤ جماعي وعلى أعلى مستوى. خاصة أننا على أرض الواقع نعيش عصر فضائح الفساد بامتياز ( فضائح «الفيفا» التي طالت الكبار والصغار، انتهاكات الشرطة في مصر التي كلما تكشفت إحداها خرج علينا الجهابذة يقولون إن تلك حالات فردية منعزلة على طريقة «بضع تفحات عطنة»، واضطهاد الشرطة الأمريكية للأقلية السوداء، فظائع التعذيب والتنكيل في سجون ومعتقلات العراق وسورية وليبيا وغير بلد عربي.. والقائمة تطول شرقا وغربا). ويلخص «غاربيديان» المأساة مرددا المقولة الشائعة «إن تنشئة طفل يحتاج لقرية بأكملها» مضيفا «وبالمثل يحتاج الأمر لقرية بأكملها لانتهاك طفل». هذه هي المسؤولية المجتمعية عن الفساد أيا كان موقعه أو موطنه. القدس العربي