لم أكن أدري أن الناقدة السورية خالدة سعيد (زوجة الشاعر أدونيس) هي التي كتبت باسم مستعار هو خزامى صبري في (مجلة شعر) عام 1959 تجرد فيه نص الشاعر محمد الماغوط من «شعريته»، في كتابه الأول «حزن في ضوء القمر» وعلمت بذلك حين قرأت ما كتبه الزميل صبحي حديدي في الذكرى العاشرة لرحيل الشاعر الكبير محمد الماغوط التي تحل هذا الشهر (نيسان ابريل) وكثير من الطليعيين في مطلع الستينيات كانوا أكثر قسوة من خالدة على الماغوط أسوة (بالكلاسيكيين). الماغوط جاري! أحببت قصائد «حزن في ضوء القمر» منذ (الجرعة) الأولى وأدمنت إبداعه. ولم يشاركني الكثيرون رأيي هذا، في حلقة والدي بالذات من اساتذة الجامعة والأدباء (الكلاسيكيين) فالشاعر التقليدي لم يكن بوسعه أن يطيق شاعرا مثل الماغوط، «ذلك الشاعر الفذ الذي أوجد لنفسه طريقة جديدة في الأداء الشعري» وقلما تنطبق عبارة الناشر الذي يروج لكتاب ما على حقيقة مؤلفه كما في هذه العبارة... كان محمد الماغوط حصانا بريا لا يشبه أحدا غير ذاته. لا يشبه حتى ابناء جيله من المجددين كأنسي الحاج ويوسف الخال وتوفيق صايغ وسواهم. وتصادف أن التقيت به مرة (بالصدفة) في (طريق الصالحية) الدمشقي وعلمت منه انه صار يقيم في غرفة مفروشة (فيها مدفأة) كما أضاف، وكان الدفء فيما يبدو من مفاتيح شخصيته وحياته، أعني ايضا الدفء الإنساني أولا ودفء القلب، وقد وجدهما فيما بعد لدى شريكة حياته المرهفة سنية صالح (شقيقة خالدة سعيد)، ناهيك من بنتيه شام وسلافة. وقال محمد الماغوط إن تلك الغرفة تقع في شارع متفرع من «ساحة النجمة» صوب «زقاق الصخر». وأضاف: أنا جارك الآن! الماغوط المتمرد والعداء لإبداعه المتميز! وصار الماغوط يزورني ليقرأ عليّ بعضا من «العصفور الأحدب» سعيدا بالمدفأة الحارة في غرفة مكتبتنا! في الزيارة الأولى حضر والدي ورحب بالماغوط (إكراما لي) لكنه لم يستسغ الكثير مما قرأه الماغوط كقوله: «أعرف أنك ستقول أيها الجبان يا ذا الرأسين اللعينين.. بأنك لن تسمح لرجل امتطى عنزة بعمر والدته في أحلك الساعات التي مر بها الوطن أن يحدثك عن الشرف والحرية... ولكنك أنت تمتطي شعبا بكامله».. من العصفور الاحدب. ونهض والدي معتذرا بموعد سابق. وحين اقترحت عليه فيما بعد تعريف شعراء من أصدقائه بالماغوط، كعمر ابو ريشة وبدوي الجبل، قال ابي ضاحكا: ما رأيك بأن يقرأ عليك وحدك ما يكتبه؟ وتخيلت وجوه أصدقاء ابي كطه حسين وأحمد شوقي وشفيق جبري وسواهم وهم يستمعون إلى الماغوط يقرأ عليهم نصوصه في ذلك الزمان. محمد الماغوط في باريس وصدر كتابي الأول «عيناك قدري» وانشغلت بأبجديتي وحروبي وحرائقي ثم رحلت إلى بيروتفلندن.. ومرت أعوام طويلة هي معظم العمر لم ألتق فيها بالماغوط حتى قالت لي ابنة عمي سلمى سليم السمان زعبوب (زوجة مدير «سانا» في باريس يومئذ الدكتور عادل زعبوب) إن الماغوط موجود في باريس. وكان زوجي قد قام بدعوتهما ود. علي القيم صديقنا المشترك على الغداء في مطعم باريسي وقلت لابنة العم إنني سأتصل بالماغوط وأدعوه للغداء معنا جميعا وقالت لي إنه حل في فندق قرب «ساحة النجمة» الباريسية هذه المرة. واتصلت هاتفيا بفندقه «روايال مونصو» لأتحدث معه بعد ألف عام من اللقاء الأخير وجاوبني صوت الماغوط متعبا مرتجفا معتذرا عن الغداء معنا. وسألت ابنة العم سلمى زعبوب خلال الغداء: لماذا رفض الماغوط اللقاء؟ قالت: لأنه لا يريد أن ترينه هكذا. لا يريد أن تلحظي كم تبدل! قلت لها: هل يتوهم أنني لم أتبدل أنا أيضا طوال تلك الأعوام التي لم نلتق فيها؟ الزمن يمر على الجميع يا سلمى.. همست: إنه بدين ومريض جدا.. ولا يريد ان تشاهدي حالته الراهنة.. هم أيضا تبدلوا تذكرت حادثة عايشتها في فترتي اللندنية وكنت وصديقة حميمة لي في العشرينيات من عمرنا حين جاءت «فرقة رضا» المصرية الشهيرة للرقص في لندن، وابدت لي صديقتي خوفها من تلبية دعوتهم لها للحضور لكي لا يروا كيف كبرت وكانت قد رقصت معهم قبل خمسة اعوام. قلت لها: هم أيضا كبروا مثلك.. وفوجئت صديقتي بأنها ما زالت أكثر جمالا وحيوية من بقية زميلاتها في الفرقة. ولذا أسفتُ لغياب محمد الماغوط عن الغداء الذي توهم أنه وحده تبدل، ثم علمت حين غادر كوكبنا انه كان في باريس في رحلة علاجية. وندمت لأنني لم أذهب إلى الفندق وأرافق زوجي لي إلى غرفته لأقول له كم أحب شعره.. وكم هو مبدع رائع.. أنسى دائما أن الحياة فقاعة ستنطفئ في أي لحظة وأن علينا الآن ان نقول للذين نحب إبداعهم كم هم رائعون!! وأن نقول ذلك بالذات للذين يحيطون بنا، ويُنسينا (الروتين) ان نبوح بحبنا لهم.. اعتراف بلا أقنعة وأعترف بأن جزءا مني كان مرتاحا لرفض الماغوط لقائي، ربما لأنه كان عاجزا عن مغادرة سريره، وربما لأنه كما قالت لي ابنة عمي سلمى لم يكن يريد أن أراه على تلك الحال.. أم تراني أكره أن أرى أحباب الأمس الذين عرفتهم يفيضون بالحيوية والعنفوان يذبلون وأرفض الاعتراف بذلك؟ أم أنني كنت سأراهم بعين القلب؟ ومضى محمد الماغوط وظل في ذاكرتي كما عرفته رشيقا ووسيما.. ولو جاء لشاهدته وكتبه المبدعة تدور حوله كالكواكب حول شمسها .. واليوم، حين نقرأ قصائده نستعيده حيا! القدس العربي