الدعم السريع يغتال حمد النيل شقيق ابوعاقلة كيكل    زيلينسكي: أوكرانيا والولايات المتحدة "بدأتا العمل على اتفاق أمني"    وصول البرهان إلى شندي ووالي شمال كردفان يقدم تنويرا حول الانتصارات بالابيض    منى أبوزيد: هناك فرق.. من يجرؤ على الكلام..!    عقار يوجه بتوفير خدمات التأمين الصحي في الولايات المتأثرة بالحرب    مصر ترفض اتهامات إسرائيلية "باطلة" بشأن الحدود وتؤكد موقفها    الإمارات العربية تتبرأ من دعم مليشيا الدعم السريع    محمد الفكي يتهم إسلاميين بالتخطيط لإشعال الشرق    حسين خوجلي يكتب: مدينة الأُبيض ومن هناك تبدأ الشرعية ومجتمع الكفاية والعدل    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الإثنين    لافروف: العالم يشهد أزمة في مجال الحد من التسلح وعدم الانتشار النووي    أمانة جدة تضبط موقعاً لإعادة تدوير البيض الفاسد بحي الفيصلية – صور    نصيب (البنات).!    ضبط فتاة تروج للأعمال المنافية للآداب عبر أحد التطبيقات الإلكترونية    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على ناشفيل    لجنة المنتخبات الوطنية تختار البرتغالي جواو موتا لتولي الإدارة الفنية للقطاعات السنية – صورة    بعد سرقته وتهريبه قبل أكثر من 3 عقود.. مصر تستعيد تمثال عمره 3400 عام للملك رمسيس الثاني    تراجع أم دورة زمن طبيعية؟    بمشاركة أمريكا والسعودية وتركيا .. الإمارات تعلن انطلاق التمرين الجوي المشترك متعدد الجنسيات "علم الصحراء 9" لعام 2024    محمد وداعة يكتب: حميدتى .. فى مواجهة ( ماغنتيسكى )    إجتماع ناجح للأمانة العامة لاتحاد كرة القدم مع لجنة المدربين والإدارة الفنية    المدهش هبة السماء لرياضة الوطن    خلد للراحة الجمعة..منتخبنا يعود للتحضيرات بملعب مقر الشباب..استدعاء نجوم الهلال وبوغبا يعود بعد غياب    نتنياهو: سنحارب من يفكر بمعاقبة جيشنا    كولر: أهدرنا الفوز في ملعب مازيمبي.. والحسم في القاهرة    إيران وإسرائيل.. من ربح ومن خسر؟    شاهد بالفيديو.. الناشطة السودانية الشهيرة مدام كوكي تسخر من "القحاتة" وحمدوك: (كنت معاهم وخليتهم.. كانوا سايقننا زي القطيع وبسببهم خربنا وش مع البشير لمن قال أدوني فرصة)    شاهد.. الفنانة مروة الدولية تطرح أغنيتها الجديدة في يوم عقد قرانها تغني فيها لزوجها سعادة الضابط وتتغزل فيه: (زول رسمي جنتل عديل يغطيه الله يا ناس منه العيون يبعدها)    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    الأهلي يوقف الهزائم المصرية في معقل مازيمبي    ملف السعودية لاستضافة «مونديال 2034» في «كونجرس الفيفا»    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



البوح الأخير بأسرار منصور: طبّاخ ماهر للبامية؟ ماهي أفضاله عليّ وخلافاتي معه ، وعلاقته بالترابي والصادق ؟
نشر في الراكوبة يوم 30 - 05 - 2016


[email protected]
توطئة :
في ختام البوح ببعض مماأكنناه عن النصف الظِلِّي للدكتور منصور خالد ، لابد من إعتذار مسبق لكل من سيقرأ هذه الحلقة متشوقا لخبر أو متحفزا لمستجد سياسي :عفوا ، لن تجد مبتغاك هنا! فهذه الحلقة طويلة ومتمهلة في الإسهاب لأنها مفعمة بحكايا غارقة في الخصوصية ومكتنزة بإنطباعات شخصية ظلت حبيسة الصدر لثمانية وثلاثين عاما ، كانت تذكارا ليس للنشر .
لم يستفد مني الدكتور منصور خالد بشئ بينما ظفرت بكثير حان أجل تعداده وتفصيله بعرفان !
نعم ، تجردت صلتي به من أي فوائد محسوسة لصالحه ، كالكتابة عنه تعريفا ، إحتفاءا، نقدا أو ترويجا رغم أن ذلك من مسموحات صنعة الوَرَّاقين مع الأخبار ، ومنصور خبرا عريضا . عموما نحمد الله إنه لم يكن ذي حاجة لمثيل تلك الخدمات ، فلا هو رئيس جمهورية مشغول بكراء الحافلات لحشد الهُتيِّفة حوله ولا أنا بموظف للعلاقات عامة . منذ أن عرفته في 1978 لم إستنطقه إلا في حوار صحفي واحد يتيم . بيد أن الثمانية وثلاثين عاما اللاحقة شهدت مواقف حركية وتقاربات متعددة ،ومتشابكة كان معظمها لتنسيق مواقف ضد نميري ثم ضد الإنقاذ .، لم يحن موعد نشرها . وعليه يظل مارصدته في الحلقات الثلاثة الماضية هو نذر يسير تخيّرته من الإجتماعيات وتركت ، متعمدا ، أمور الشأن العام وأضابير السياسة ليوم آخر سيأتي ، إن أمد الله في العمر .
كيف أسهم عداء مايو في ترسيخ علاقتي بمنصور خالد ؟
بيّنت أن فضل معرفتي اللصيقة به مرده تواجدي كمراسل ، ثم مديرا لمكتب جريدة السياسة الكويتية بواشنطن عندما حلّ الدكتور في المدينة بعد أن إطلاقه النارعلي نظام مايو أولا بالإستقالة ، ثم الجهر بالعداء في 1978 أتي متعاقدا كزميل كبير في مركز ودرو ولسون العالمي للباحثين The Woodrow Wilson International Center for Scholars . تأسست علاقتنا علي معاداة كلينا لنظام مايو ، رغم إختلاف الأسباب ، ففي هذا العداء كان المنشأ والإستمرار في آن. ربما يصح القول أننا لو لم نناهض نميري ، لأصبح تصادفنا عاديا وبلا ضجيج ، كسفينتين تمخران في عتمة ليل!
للوهلة الأولي كان خبر إنشقاقه عن نظام مايو مانشيتا في الصفحات الأولي لأهمية المناصب التي تقلب فيها ، ثم أصبح مزلزلا ومؤثرا لأنه قدّم للناس ترياقا نفسيا أسهم في كسر حاجز الخوف إّذ ملّكهم حقائقا "نوعية " عن فساد نظام نميري ، فأسهم كثيرا في إنضاج ظروف الإنتفاضة . فالفضائح التي نشرها والبيّنات التي كشفها ، مثلّت أول توثيق شامل لفساد نميري تخاطفه الناس وتداولوه سرا وماعلم به إلا حفنة من بطانة "الريس" إذن فإن قيمة إسهامات منصور أنه حمل المعركة ، وعنوانها الأول كان الفساد، الي داخل القصر الجمهوري وقدم ثبوتيات تدين لرئيس والشلة المحيطة به . قبل كتباته كان الفساد " حكاوي قعدات " بلا دليل عن " مستر تن بيرسنت " وغيره ، وبعد ماكتب نزع عن نميري خرقة الطهر والإستقامة ودمر أطروحة العلاقات العامة السائدة أنذاك ( الرئيس كويس لكن المشكلة في اللي حوله ) .
شكرا لصحيفة السياسة الكويتية التي أفسحت لي المجال رحيبا، بلا أسقف أو قيود لتناولات جريئة لفساد نظام الحكم في السودان كأول صحفي سوداني راتب في الكتابة السياسية (لابد أن أذكر أن الزميل الكبير الأستاذ قاسم نايل تواجد قبلي، إلا أنه عمل بالقسم الرياضي للزميلة الرأي العام ) .في غضون عام 1980 قمت بتناولات مكثفة لأزمة الحكم في السودان وكانت أول تغطيات صحفية لقضايا الفساد الاداري والمالي المسكوت عنها . مع إزدياد تواصلي بمنصور دنوت منه أكثر ، وتمتنت علاقتنا وتعرفت علي عوالم ظليّة لا تتجلي في كينونته العامة .
أخر تنسيق لي معه في نظام مايو حملته المحادثة الهاتفية التي جاءتني منه من مدينة كوالمبور حيث تواجد يوم الانتفاضة ،6أبريل 1985 . إتصل بي يسمتزج رأيي حول بعض الأشياء ومنها ترتيبه لأمر عودته للخرطوم .
ذكرنا أن اجمالي عمل الدكتور منصور خالد في نظام مايو بلغت 73 شهرا . ولإستنطاق تأثير نقده لمايو تكفي شهادة الاستاذ محمد الصقر ، رئيس تحرير جريدة القبس الكويتية التي نشرت حصريا في مطلع الثمانينات سلسلة حلقات نارية صدمت الناس بما خبأ نميري من سوءات في دولابه . عنوان حلقاته كان " السودان داخل الكرة البلورية " وهي إجتزاءات من كتابه الموسوم ( السودان داخل النفق المظلم : قصة الفساد والاستبداد) . . قال الصقر أن جريدة القبس ، التي لم تكن تُعني بالشأن السوداني لكنها وبسبب مقالات منصور أصبحت فجأة صحيفة السودانيين الأولي بالكويت ولندن !
مافعله منصور بكتاباته ، والنظام في عنفوان بطشه ، مثّل للكثيرين نموذجا للتوبة السياسية التي إستوفت كامل أركان المصداقية .تعزز توبته أنها لرجل لم تَحُم ْ حوله شبهات بسرقة ، أو قصبه لرقاب بريئة، أو تلوثا برشوة ، أو تهما بالمحسوبية الادارية أو ولوغا في سرقة المال العام ، أو إيذائه للبشر . برغم ذلك نسي أعداؤه أن ماقام به ، شأنه شأن أي عمل وطني آخر ، لا يحتاج لصك من أحد أو فيتو من معارض فالفعل صادر من ضمير من باشره . لكن ماعساك أن تقول أمام هذه الغيرة الجامحة التي يقول عنها الكاتب صموئيل جونسون ( من يغير من شخص آخر فقد إعترف بتفوقه ) !
Whoever envies another confesses his superiority. Samuel Johnson
أفضال منصور عليّ.."لا يشكر الله من لا يشكر الناس"
بدايتنا تستهدي بالحديث الذي شهد بصحته الشيخ ناصر الدين الألباني ، إمام علم التخريج ، ورواه كل من الإمام أحمد والبخاري في الأدب المفرد و أبو داود وابن حبان والطيالسي عن أبي هريرة مرفوعا: " لا يشكر الله من لا يشكر الناس".
أكثر الاشاعات المسمومة التي سمعتها عن الدكتور منصور خالد فحواها انه لا يبدي حماسا في مساعدة الناس ، ويضن في توظيف علاقاته إلا لمن يرتجي منهم منفعة أو عائدا . اليوم يتحدث أحد الممتنين إعترافا بفضله . علي مرتين، سعيت له ناشدا مساعدته ، فما خذلني أبدا ، بل فاق عطاؤه توقعاتي .
الباشا بطرس غالي الذي حرمني من الوظيفة !!
المرة الأولي التي سعيت فيها لمنصور طالبا مساعدته كانت عندما تمت تسمية الدكتور بطرس غالي أمينا عاما للأمم المتحدة( 1992-1996). تم الإعلان عن وظيفة ناطق رسمي بمكتب الأمين العام بنيويورك . دفعت بطلبي ضمن العشرات وبدأت التصفيات الي أن بلغت شوطها النهائي . لسوء حظي كان منافسي في المرحلة الأخيرة مصريا ، فأخبرني المشفقون العارفون بدواخل الأمور بأن الموضوع سيحتاج لأكثر من المؤهلات فوصفوا لي جرعة شرقية مُجرّبة يسميها الخليجيون إستظرافا فيتامين " واو " - الحرف الاول من كلمة " واسطة" . يؤخذ علي بطرس غالي أنه جعل الأمم المتحدة "وزارة الخارجية المصرية فرع نيويورك " ! فقد قام " بتمصير" غالب المناصب الشاغرة . لم يعترض الناس علي مؤهلات من إستقدمهم فغصت بهم هيئات الأمم المتحدة المختلفة ، لكن إعترضوا علي تفضيله لبني جلدته دون غيرهم من بين 180 بلد عضو ! أول مصري إستهل به الامين العام الجديد يومه الأول في الوظيفة هو تعيينه للدبلوماسية المصرية القديرة فائزة أبوالنجا كمديرة لمكتبه بنيويورك ( أصبحت لاحقا وزيرة التعاون الدولي في حكومة الجنزوري ومنذ 2014 تعمل كمستشارة شؤون الامن القومي للرئيس السيسي). تولي عني مهمة تأمين فيتامين واو، الراحلين العزيزين الاعلاميين المصريين الأفذاذ بواشنطن ، الأستاذ محمد حقي السكرتير الصحفي السابق للسادات، والزميل الكبير رئيس مكتب أخبار اليوم الاستاذ حمدي فؤاد، وكان صديقا لبطرس وقبطيا مثله . لم يخذلني الاستاذ حمدي فؤاد فسافر الي نيويورك وأوصي "الراقل"بي خيرا. أما محمد حقي فأخبرني أن الدكتور منصور خالد سيكون الأنسب لأنه "صاحب الباشا" وأنه يعرف مقدار تقدير بطرس لمنصور منذ أن كان منصور وزيرا لخارجية السودان والباشا يعمل وزيرا للدولة تحت محمود فهمي وزير خارجية مصر ! .....أخبرت صاحب الباشا . ركل الدكتور منصور الكرة لملعبي طالبا مني أن أفكر في طريقة أقنع بها الدكتور بطرس أنني الأكفأ والأجدر !!؟ هكذا ، رمي تحدي هلاميا أمامي ، شاحذا خيالي لملء الفراغات بإجابة !! قبلت التحدي وقررت إجراء نقد آدائي لأول مقابلة تلفزيونية أجراها بطرس غالي كأمين عام مع المذيعة المعروفة باربرا والترز . في تلك المقابلة عبث الباشا بكل قواعد المقابلات الصحفية ، فخسف بها الأرض وإقترف من الاخطاء الحوارية أكبرها . فمثلا ، من كبائر المحظورات الحوارية الإجابة علي أي سؤال إفتراضي يبدأ ب (إذا) ، لان الاجابة ستكون مبنية علي إجتهاد وتخمين وليس حقائق وثوابت ، فتفتح بابا باطنه ورطات ومن قِبَله عذاب تناسل أسئلة لا تنتهي. في اليوم التالي ، سلمت دكتور منصور هذه الملاحظات مبوبة في 6 صفحات مطبوعة !!! أثني كثيرا علي ما إستنبطته وذهب بأوراقي للأمين العام في نيويورك . إتصل بي تغالبه غصة من حزن . قال أن الدكتور بطرس غالي بعد مطالعة بضعة نماذج بدا غير مرتاحا . وواصل مضيفا " ربما أخطأنا عندما نسينا أنه مُدَرِّس ، فالاساتذة يعادون التصويب ويتخذون موقفا مناوئا من المُصّحِح "! فتيقنت ألاّ أمل لي مع الدكتور بطرس غالي ، وبالفعل بعد 3 أيام جاء الاعلان الرسمي وتم إختيار منافسي "إبن مصر " وللأمانة أقول أن آداء الزميل المصري ، الذي تابعته ولسنوات طويلة فيما بعد ، كان دوما حرفيا متمرسا بل ومفرحا للغاية .
جريدة "واشنطن أجندة " التحديات المهنية الكبري
بعد نجاح تجربة إصدارنا طبعة دولية لجريدة السياسة الكويتية من (كازابلانكا )بالمغرب (1987/1988)، غازلت حلم إصدار أول صحيفة عربية في العاصمة الأمريكية . كانت وثائقية إسبوعية أسميتها " أجندة واشنطن" وهدفها إحياء صحافة التوثيق والبحث العلمي. كنت يومها ، ولازلت ، معارضا لهذه العصابة الباطشة بيد ان الجريدة لم تكن صحيفة للمعارضة أو لسان حال للتجمع ، كانت صحيفة. ولعلي أنتهز هذه السانحة للتعريف بموقفي من بعض الامور ذات الصلة .
أنا صحفي بلا إنتماء سياسي . أنفعل كغيري بقضايا وعناوين وطنية عريضة كالفساد ، سحل الحريات العامة ، هدر حقوق الإنسان وكافة إفرازات سوء الإدارة والحكم غير الرشيد ، لكن يصح القول أيضا أن أدواري كناشط تظل وفية ومتسقة لمبادئ مهنتي- لا إنحياز لعقيدة حزبية أو الإنجرار لموقف . فالإعلام بكافة منصاته كائن ليبرالي بالفطرة ولذلك تراه يضج بأشواق الحرية ويبشر بالعدالة الإجتماعية . وطدّت نفسي علي الصبر ومشقة التعلم المستمر لتجويد عملي والاستزادة من المعارف إحتراما لعقل القارئ . هذه القيم المهنية جعلتني ، تلقائيا ، أصطف معاديا "للصحفي" الواهم بأنه المحلل الإستراتيجي الأول ، والخبير الإقتصادي الفَطحل ، وربان الدبلوماسية الأوحد ، ووزير المالية والداخلية والدفاع مجتمعين . سمِّها ظاهرة الصحفي "قفة الحلبية " ، حيث تتوفر قفته علي وصفة لكل داء . هذا "الزميل " يحتاج لصقعات كهربائية في نافوخه تخلصه من هذا الوسواس الخناس . لأن من هذه الوساويس خرجت البدعة المسماة "صحافة الرأي" . رأي بدون خبر ، بدون حيثيات ، بدون معلومات وبدون حقائق مبذولة بعد تدقيق وتمحيص ؟ أي والله ، فهذا شاكلة مايخطه يوميا كل من هب ودب وشب وتب- ونط في صحافة الأعمدة ! فالمعتوه مكانه مصحة نفسية ، والمحرر مكانه صالة التحرير أما من يمارسون "صحافة الرأي " فتلزمهم دورة مكتفة ، ليس في ماهية حرفة الصحافة وإنما ما ليس منها أو فيها .
ظن كثيرون أن "أجندة واشنطن " كانت تنام علي ملاءة مالية ماهلة من أموال المستثمرين . ولأنها تواجدت في واشنطن ولندن ظهيرة كل جمعة ، إعتقدوا أنها تطبع بالاقمار الصناعية .أخطأؤوا لأنهم نسوا نعم التدبير . وظّفنا فروقات التوقيت وكفاءة التواصل الجوي لصالح المشروع ، فأرسلنا جوا ذات أفلام الطبعة الأمريكية الصادرة الخميس ، بعد تغيير الصفحة الأولي ، لإصدار طبعة لندن في لندن من مطابع "مودي غرافيكس " ، فوفرنا تكاليف الشحن الورقي الباهظة . كانت الكويت مرتكزنا في الإشتراكات البريدية المدفوعة والإعلان . وبالنتيجة فإن هجوم صدام حسين علي الكويت في 2 أغسطس 1990 ، عني رصاصة الاعدام علي " أجندة واشنطن" . إضطررت الي رهن داري لمواصلة المشوار ، بيد ان ذلك الخيار لم يكن كافيا في الأجل الطويل ، فماتت الصحيفة وبقي الحلم .
الزمان السوداني الردئ ...هدية منصور المجانية
كان الدكتور منصور خالد من أكثر المتابعين لتطورات الإختناق المالي الذي واجهته وكان تعاطفه بلا حدود. تصرف بإتجاهين ، أولهما حرصه علي توسيع مقرؤئية الجريدة ، فتبرع لي بمسودة كتاب كامل لنشرها متسلسلة في حلقات وبالمجان !! مقالاته الحصرية التي نشرناها متسلسلة كانت بعنوان ( الزمان السوداني الردئ ) ..ومنصور إن كتب قرأ الناس ! بعرفان وتقدير أُثمِّن عاليا هذه الاريحية إذ أن نشر أي كتاب جديد بكامله كحلقات متسلسلة في صحيفة سيّارة يعني خسارة المؤلف مرتين : مرة بعزوف الناس عن شراء الكتاب بعد أن قرأؤه مجانا وتملكوه صفحة صفحة ، ومرة بضياع تعبه وأتعاب مكافأته علي وقت ممتد إستقطعه من حياته إمتد أشهرا بين البحث والتنقيب . الأمر الآخر ، هو أن د.منصور تبني حملة لم تتثاءب أبدا في أسفاره ولقاءاته الإسبوعية ، مع من عرفت ومن لم أعرف من السودانيين، للحديث عن ضرورة إنقاذ صحيفة " أجندة واشنطن " والمساهمة الجماعية لمنع سقوط المشروع ، ولو بتوسيع الفكرة وفتح باب الاكتتاب لتصبح شركة مساهمة عامة .
هل أحتاج لأن أزيد حرفا في وصف هذه الأريحية والكرم الفيّاض ونبل المقاصد ؟
خلافات مع منصور : نميمة سوداء وتسريب كالح
رأينا في الحلقة 3 كيف تخلي د. منصور عن الدبلوماسية وواجه الرشيد الطاهر بكر ، حسنا جاء الدور عليّ ذات صباح من عام 1988 !
سعي زميل صحفي سوداني ، تواجد في لندن آنذاك ، بالنميمة بيننا . كنت أعمل يومها بالطبعة الدولية للسياسة في المغرب - كازابلانكا . كان د. منصور ضيفا علي مأدبة عشاء لندنية شرّفه بها الراحل الأستاذ محمد الحسن أحمد . تسامر الحضور في أمور كثيرة تركزت حول تراخي الإعلام الليبرالي أمام ضجيج الحلاقيم المتعددة للجبهة الاسلامية .كان منصور مشغولا بالترويج لفكرة مشروع إعلامي نواته صحيفة سودانية دولية فاعلة ومؤثرة تصبح منصة للهموم السودانية في الداخل والخارج . حدثني عن مشروعه قبل أشهر فأبديت إستعدادي الفوري لشراء أسهم مثل غيري من المكتتبين لكني أوضحت عدم رغبتي إدارة تحرير الصحيفة الجديدة مفضلا الإستمرار مع جريدتي الكويتية . إنتهز عشاء لندن فطرح الفكرة علي الحضور. رحبوا وتحمسوا كغيرهم ولما سألوه عمن سيدير الصحيفة ، كشف عن إسمي كمرشح يدعمه كبار المساهمين السودانيين في الخليج ، وشخصه . إنتهز منصور اللقاء للتعريف بي إذ لاحظ عدم معرفة كثير من الحضور لشخصي ، بمن فيهم الأستاذ محمد الحسن أحمد. أثني بأريحية علي قدراتي المهنية وأغدق في التقريظ والثناء . إتصل بي زميلي اللندني باكرا في كازابلانكا مستهلا بكلمة "مبرووووك "، مَطّها طويلا للإيحاء بحميمية وفرحة أدركت لاحقا أنها ذات مرامي خبيثة ، وأعجب لما يفعله النفاق بالرجال! نقل لي تسجيلا شفاهيا لما دار في الجلسة وماقاله منصور عني . أخبرته بمعرفتي بالمشروع وقلت ألاّ مانع لدي من المساهمة المالية مثل غيري بيد أنني أتحفظ علي إدارة التحرير .ظل يستجوبني لمعرفة الأسباب وجرني جرا لأبوح له بسبب تحفظي علي قبول "الوظيفة /الحلم" ، كما وصفها . زميلي هذا عمل لسنوات بجريدة "الصحافة" السودانية وزامن د.منصور إبان توليه رئاسة مجلس إدارتها وربطته به علاقة جيدة قبل أن يهاجر للعمل بالصحافة العربية فيما بعد . لا أدري لماذا أرخيت دفاعات حذري وتوجسي فجاءت مقاومتي لإلحاحه اللحوح رخوة وقصيرة!؟ المهم أنه هزمني ومكر عليّ فجرفني فيض من طمأنينة الزمالة الزائفة ، ففتحت له خزانة أسرار تحفظي علي قبول بالمنصب الجديد.
بدأت بتذكيره أن عمري المهني ،أنذاك ، لم يتجاوز العشرة سنوات ، وأن الكثير ينتظرني لإثبات قدراتي وحصد احترام القراء . قلت له أنه أوفر حظا مني حيث بدأ مشواره الصحفي بالسودان ثم انتقل للخارج أما أنا فلا زلت نكرة لغالب السودانيين بإستثناء نفر قليل ممن تسقّطوا أخبار المعارضة أو كانت لهم صلة بصحافة الكويت ، كان هذا الحديث في 1988قبل ظهور الاعلام الرقمي والانترنت . إستتباعا من تلك الحقيقة ، وبسببها ، قلت له أن يتم تقديمي للأغلبية الساحقة من القراء السودانيين عبر صحيفة كبري لها إرتباط بالدكتور منصور خالد ستعني حبسي كصحفي في زنزانة الصورة الذهنية ذات السقف غير القابل للزحزحة . وستُطْبق شهرة منصور فكها عليّ وتحسبني بالمؤبد في دور مماثل ليونس شلبي وشخصية "ود الناظر" في مدرسة المشاغبين ! فإن جوّدت عملي وذاع صيت الصحيفة ، سيُجيّر المدح ويذهب لمنصور فيصبح حظي كخيول حمّاد ، (وأربأ به أن يكون كحماد المتعيش من كدح دابته ). أما إن باشرنا ملفات بعينها ونجحنا في التناول والمعالجة ، فسأفشل في تفكيك الإنطباع بأن التناول له نسب بمنصور ومرئياته أو أنه أحد إملاءاته علي جهاز التحرير . بالنتيجة ، وفي كل الظروف والأحوال ، قلت له ، سيكون تقييم الناس للجريدة فاقدا للموضوعية وسيظل شبح منصور يحوم حول كل شئ .
قلت له ان منصور خالد لا بد وأن حصد عبر سنوات عمله العام ، ومواقفه الحدية المعروفة ، أطنانا من الإستحسان ، وبعض من العداء . بل وأعلم بمن تفرغ لحسده ، والحسد برأي هارولد كوفن هو الانشغال بتعداد نعم الآخرين بدلا من التركيز علي شؤونك ، والعياذ بالله
Envy is the art of counting the other fellow's blessings instead of your own. وإستطرادا، قلت أنني مهما فعلت لن أصبح وريثا لصداقاته ، وبالبداهة ، لا أريد أن أكون وريثا لعداواته . وبالنتيجة ، فإن الصحيفة الجديدة ، وغض النظر عن من سيديرها ستصبح للاختزاليين هي "جريدة منصور خالد " وسينتاشونها بسهامهم صباح مساء . قلت لا أريد أن أنشغل صرف عن أعمال الصحافة لأصبح محاميا أحاجج عن منصور خالد ، ففي هذا شرف لن ينعقد لي ، فهو الأجدر والأقدر والقابض علي ملكات البيان والأحق بالدفاع عن نفسه . وعليه ، وبناءا علي ماتقدم ، مختصر القصة ، كما أبلغتها لزميلي اللندني ، هي أن منصور خالد شخصية ذات أوزان وأحمال لا تُضَاهي ، ويتوفر علي خُف حذاء يعصي توفير مقاس قدم يملأؤه . لذا فإنه سيغطي علي كل شئ ويمتص كل بريق وأن توهجي سيكون في تواضع إضاءة شمعة مقارنة بإنارة أستاد نادي برشلونة ، " كامب نو"! !
من كل هذا الحديث المتزن ، تخيَر الرجل ماناسب أن يسد به الشقوق والفُرج في هيكل نميمته ، فاأبدع في سوء الطوية وتقصد الوقيعة. .
حمل حصيلته وذهب مساء ذات اليوم الي عشاء آخر لزائر لندن ، د. منصور . وماإن فرغ منصور من الترويج لمشروع الصحيفة، تناوله صاحبنا فورا قائلا أنني أبلغته أنني (لا أتشرف) بالعمل مع منصور لأن الجريدة ستكون هدفا لأعدائه الكثيرين ، وبالتالي فإن التفرغ للرد علي أعدائه سيكون مقتطعا من وقت جهاز التحرير الذي سينهمك في إدارة حروب منصور ، وهذا ماسيعجل بفشل الجريدة !!! قال إني أخبرته بعدم رضاي علي أسلوبه في الادارة كفرضه لهيمنة "إشتهر بها" مما سيسلبني فرص التألق والظهور ! وختم قائلا علي لساني أن مجلس الادارة ، في نهاية المطاف، سيتهمني بتضييع فلوس المستثمرين !
نعم ، قال كل هذا علي لساني!!
وجم د.منصور وتكتف لسانه . إستفسره بسؤال واحد لم يزده عن آخر مرة تحدث معي فيها ، فأجابه أن المحادثة جرت ذلك الصباح . إتصل بي الدكتور باكرا صباح اليوم التالي وسألني إن كنت قد ابلغت زميلنا بأنني لا " أتشرف " بالعمل معه . قلت له أنني تحدثت عن أشياء كثيرة وسأعيد عليه ماقلته ليتفهم الإطار العام للمحادثة ويتعرّف علي ماقلته في المجمل وعندها سيعرف إين تم التحريف ، الإختزال أو الإلتباس المتعمد . أعدت تفصيل ماكتبت اعلاه . لم يعلق علي الحثييات لكنه فاجأني بسؤال واحد وهو لو كنت أعرف هذا الزميل جيدا؟ فأجبت أنني " كنت أظن أنني أعرفه، لكني قطعا ، لا أعرفه بعد هذه النميمة القاتلة "
لماذا فعل الرجل مافعل ؟ لا علم لي وإن كان لدكتور منصور قناعة لم يقلها صراحة لكني تيقنت من وجودها في المثل الاسباني الذي يوصف الحسد بأنه حية رقطاء تلسع لكنها لا تستطيع الأكل ، فتظل شهوتها متقدة ! ....إنتهت المحادثة بنصيحة العارف : "إنتبه منه" والي هذا اليوم وأنا علي هذا الإنتباه!
عيون أبو سولمون تجوس في الجالية السودانية بواشنطن:
لمنصور خالد بضعة خصال إدارية فريدة تدور في فلك الوفاء والإبقاء علي كتيبته متجانسة ومنتصرة . أولها تملكه قدرا معتبرا من الشجاعة والإنصاف يتجلي في تحَمُّله للمسؤولية عندما يكون الصمت منجاة من اللوم. شهدت علي مواقف عديدة إستبق فيها الناس متبرعا بتحمل وزر خطأ جماعي ، معترفا به أو منشغلا بمحو تبعاته - منفردا - غض النظر عن حظه فيه ، قنطارا كان، أو حفنة خَرَادِل .أيضا يتمتع الرجل بمرونة تعاطي غير مسبوقة تجعله يجنح للحد الأدني لبلوغ إجماع شامل ولو عني ذلك التضحية بالتكتيك من أجل الاستراتيجية ، فهو مهموم دوما بإلتركيز والإنتباه و" إبقاء العين علي الكرة" ، بلغة الفرنجة . وكما أن لا وقت يُهْدر في معركة السبابات التجريمية ، فإنه لم يتواني في أخذ المواجهة لأقاصي العنان .
ظلت محطة واشنطن عصيّة علي عصابة الخرطوم فأرسلوا لها كل من أعتقدوا أنه قادر علي تجميل وجه نظام دميم الخلقة قبيح الفعال ، كرهه شعبه وتحاشاه الجيران . بعثوا مهدي إبراهيم ففشل ، وأتبعوه بالبروف عبدالله أحمد عبدالله فعجز . إختاروا للمهمة الشيخ الماركسي السابق ، أحمد سليمان ، فنقلوه من مقره كمندوب دائم في نيويورك سفيرا لواشنطن . قدم أوراق إعتماده للرئيس كلينتون ظهيرة الاول من اكتوبر 1993 في حفل جماعي ضم 9 سفراء فيهم الارجنتين ، ارتيريا( السفير حاقوص غبريهيوت ) ، استراليا ، موريشوص ، بليز ، بالاروس، أندونيسيا (أريفن محمد سيريغار ) وقبرص.
أتي أحمد سليمان مسنودا بإرث كبير في الدبلوماسية والجاسوسية والمقالب والانقلابات فقد كان الهدف هو محاصرة عمل التجمع الوطني الذي نشط في العاصمة واشنطن . إستشعر أهمية إستحلاب معلومات عن الذي يدور في الأوساط السودانية عموما وبؤر النشاط الحركي فوجد ضالته في شخص إرتبط به بوشائج أسرية خاصة وتوفر علي شبكة عريضة من الإتصالات والإجتماعيات السودانية .
ذات مرة قادت لجنة الشؤون الأفريقية بالكونغرس ورئيسها عضو الكونغرس ، البرلماني دونالد بَيْن ، مبادرة مصالحة بين فصيلي الحركة الشعبية (مجموعتي الناصر وتوريت ) بعد إنشطار مشار ولام أكول عن قيادة قرنق وتحالف بنادقهما مع البشير ضد قرنق .
إعتزم السفير أحمد سليمان إفساد ذلك الجهد بحملة ذات جرعة مشاغبة مكثفة . باشر حملته بإرسال زخ من الرسائل الإحتجاجية شبه اليومية لمسؤولين بعينهم في وزارة الخارجية الأمريكية والكونغرس معترضا علي المبادرة . فعل ذلك رغم تيقنه أن مثيل تلك الحملة تشابه العواء وحيدا في الصحراء ، ولن يجد من يطلب منه الإستغفار رأفة بحلقومه ، بيد أنه ظل يعوي علي كل حال !! عنوّن مراسلاته اليومية لرئيس لجنة الشؤون الخارجية بالكونغرس آنذاك ، الديموقراطي لي هاملتون ، محتجا علي نشاطات اللجنة الافريقية الفرعية ، "ومحذرا" من تدخلاتها في الشؤون السودانية . أيضا ، ناوش وزارة الخارجية الأمريكية بنسخ من ذات الرسائل العبثية . في إحدي رسائله طالب بتخصيص عدد 15 مقعدا للسفارة ومنسوبيها في غرفة الإجتماع . وصل الدكتور منصور خالد قبل ثلاثة أيام من إلتئام مصالحة الفصيلين المتناحرين . كنت معه ذلك المساء عندما جاءت معلومة ، بتفاصيل كاملة ، لما كان يدور من لعبة عض الأصابع والرسائل الهائجة التي كان يدفع بها السفير أحمد سليمان يوميا ورد اللجنة علي مطالبته بتخصيص الكرسي . علمت في تلك الجلسة أن اللجنة الفرعية أرسلت ردا عنيفا وقاسيا للسفير تقصّد إستفزازه فشرحت بديهيات منها أن الكونغرس في أمريكا مؤسسة شعبية ديموقراطية مفتوحة لكل الناس وعليه ، فإن إجتماعاته المفتوحة يحضرها ويحتل مقاعدها من يأتي مبكرا ، غض النظر عن الوضعية الوظيفية لمن يحضر !! ختمت لجنة الشؤون الأفريقية الفرعية معتذرة عن تخصيص 15 كرسي للسفارة متعللة بأن جلسة الإستماع ستجري في غرفة ضيقة . وبلؤم ومكايدة قالوا لأحمد سليمان أنهم "إكراما " له سيحجزون مقعدين ، له ولنائبه . إنتهت الجلسة مع الدكتور منصور فتركته في غرفته بفندقه رفقة كتبه وقصاصات أوراقه تؤانسه وإنصرفت لموعد مسبق مع صديقي المحارب القديم الناشط (ع.م.ع ) للتسامر فيما تبقي من ليلة صيفية بديعة . كان صديقي ينتظرني ، فتبادلنا الاخبار الي أن حل بيننا من عرفته لسنوات . كان هذا الرجل حَوَاريُّ لأحمد سليمان ، إن سألته عن حالة الطقس حدثك عن صفيّه السفير ، وإن إستفسرت عن الوقت حشر إحدي معلبات قصص من أحبه بل ودلعه فأسماه " أبو سولمون". حرصت علي تحاشي مجالسة حواري أبو سولمون خشية ألاّ تكون علاقته بأبي سولمون تماهت فجعلته عينا للسفيرمزروعة في مجتمع نشطاء التجمع الوطني بواشنطن . هذا الحرص مرده التسامح الساذج للشخصية السودانية وتهاونها في موجبات أمنها ، وسوء تقديرها لمحاذير التعاطي مع شخصيات بعينها حتي ولو توافر مايثير الريبة.
حتي بدون علاقته بأبي سولمون ، تناغمتْ في جوف هذا الرجل أربعة مُنَفِّرات : تعاطي السياسة علي أساس أنها "شهادة بحث" عقارية يجوز توارثها ، ظن أن لعبة ملوص هي إحدي النظريات السياسية فكابر وناقش بمرئيات فطيرة وجهل غرور ، تقمص بخيلاء مجدا زائفا يبنيه بالّعلعة والمغالطات وأخيرا ، كان صاحبنا قنّاص أخبار بكفاءة فاكيوم سجاد المساجد.
أتي الحواري للحديث عن أبوسلمون ولعبة عض الأصابع الخاسرة مع الكونغرس ، فأسهب في مدحه . تحدث عن " هزيمة "السفير للجنة الكونغرس وإنتزاعه 15 مقعدا للسفارة !!! إستفزني تكرار الإكذوبة فترخصت في الكشف عن المعلومة المستجدة ورسالة الكونغرس الفاحمة للسفير وقصة تخصيص مقعدين بدلا عن 15 ، فنقلها المُخْبر بحذفارها للسفير في ذات الأمسية رغم تأخر الوقت ! وجد أحمد سليمان في المعلومة التي سقطت علي حضنه بارودا جديدا يعضدد رمية ويعطي مناوشاته العبثية بعضا من مصداقية ، فإستخدم باروده في رسائل صباح اليوم التالي . كال الإتهام للكونغرس وللحكومة الأمريكية بالخروج عن تقاليد وأعراف سرية التحاور الدبلوماسي والعمل علي تنسيق عدوانها مع المعارضة .قبل التاسعة صباح اليوم التالي هاتفني الدكتور منصور خالد . كان صوته هادئا بوتريات مشدودة ونصف غليظة. رمي لي خبرا وتوقف لهنيهة ثم أردف مستفسرا ( عندك فكرة يكون إيه اللي حصل ؟) .
أبلغني أن السفير أحمد سليمان أرسل باكرا لرئيس لجنة الشؤون الخارجية ناعيا حيادية لجنة الشؤون الافريقية وخرقها لأصول العمل الدبلوماسي وتسريبها أخبار السفارة للناشطين في التجمع . قال أن رئيس اللجنة الفرعية فتح تحقيقا في كيفية تسرب الخبر . قال بأنه ظل ليلته بفندقه ، لم يغادره ولم يزره أحد ولم يكن الدكتور بحاجة لهذه الإضافة الأخيرة ، فمنذ أن فتح فمه بالنبأ تيقنت من فداحة تفريطي وترخصي في بذل الخبر سهلا أمام شفّاط فاكيوم أبو أبو سولمون! كان إحساسي بالحرج والندم مفرطا ، ليس بسبب ثقة منحتها لمن لم يستحقها ، وإنما لثقة مُنحت لي ففرطت فيها بالإستجابة البلهاء لإستفزازات طفولية . شعرت بخناجر مسمومة تتناوبني متثاقلة تمنيت لو أنها أسرعت فأراحتني ، فذبحٌ يقتلك فيه خلاص من تعذيب يحكم به عليك ضميرك . كان شريط الحيثيات لما جري طازجا في مخيلتي يتصارع مع سؤال الندم اللزج : لماذا صرفت ديدبان الحيطة والحذر هذه المرة من هذا الشخص ؟ إعترفت فورا لدكتور منصور بأنني مصدر التسريب وأفضت في شرح الظرف . عرضت أن أذهب الي اللجنة ، وقد عرفت رئيسها دونالد بين ومساعده الوظيفي ، معرفة لصيقة جدا . وكانت المفاجأة أن قال لي ليس من داعٍ لذهابي فقد أبلغهم بأنه هو المسؤول عن إفشاء السر وتحمل وزر التسريب عني !! فرك هذا النبل جرحي الطري فأدماه ، وقلت بحزم ، أن مثل هذا الخطأ لا يعالجه إلا إعترافا كاملا مني أمامهم . لم أنتظر ، فنهضت وذهبت اليهم وقلت لهم عن كل شئ متحملا مسؤوليتي فيما جري ..فإعتذرت ، وإعتذرت ..وإعتذرت ! . أعاد صوت عضو الكونغرس ، رئيس اللجنة ، دونالد بين ، نقاء مزاجي عندما قال لي (أشكر لك حضورك يقودك وازع أخلاقي والنظام الذي تعاديه لا يعرف شيئا لا عن الاخلاق السودانية، ونعرفها عن السودانيين ونحن لسنا بالسودانيين ، ولاعن الاخلاق التي نعلمها عن الإسلام ونحن لسنا بمسلمين ) . هذا الهرم الشامخ ، دونالد بين ، غادر دنيانا في مارس 2012 ففقدنا رجلا مساندا لقضايا السودان العادلة في التحرر من هذا النظام المجرم.
ثلاثي التضاد الفكري وتناحر أبناء الجيل الواحد : منصور ، الصادق والترابي !
من توثقت صلته بأي من هؤلاء الثلاثة يمكنه أن يروي مجلدات من القصص والحكايا التي تدلل علي غرابة مايربط بين ثلاثتهم . علاقة تشوبها ، في السر والعلن ، زخات من أحاسيس متقلبة وتصرفات يعدمها الإستقرار .لا أدعي معرفة مطلقة تفسر تلك التقلبات ، أو مايجعلها مدعاة للتأمل ، أو الغموض الذي يُضْفِي عليها توهجا فيزيد من جاذبيتها للمُسْتطلع ! لابد وان تتبين تضادا متسقا ، وتقاربا حذرا، وتحاشيا محسوبا متي ماأمسكت بخيوط ثالوت المتشابكة لتشخيصها . تأمل ، مثلا ، في جذور التوافق وستتبين أنهم ذراري جيل واحد (أبصروا الدنيا بترتيب متقارب أولهم منصور في 1931 ثم تلاه الترابي بعد عام في 1فبراير 1932 ، وأخيرا الصادق في 25 ديسمبر 1935 ) . أيضا ، حصل ثلاثتهم علي درجته العلمية من الغرب بينما توفر علي أرضية راسخة من التعليم الديني . حد علمي ، فإن مماحكاتهم لم توقف تعاونا بينهم كما أنها لم تفضِ الي قطيعة كاملة . فقد عَرِف ثلاثتهم كيف يفرمل التصعيد ويلجمه دون نقطة الغليان ، فلا يفسد شئ أو تحل مصيبة تعصي علي الحل . ففي أوج الخصومات ، وحملات التشفي ، تجدهم لا يمانعون التعاطي فيما بينهم . فمثلا ، الرسائل النارية مابين جون قرنق والصادق المهدي http://www.alrakoba.net/articles-act...w-id-41330.htm لم توقف منصورخالد من التعامل مع الصادق في التجمع الديموقراطي . وبذات المقدار فإن كل كتابات منصور المعادية لفكر الأخوان المسلمين الأفّاك ، لم تتطور ليفرد مُؤلّفا بعينه يتخصص في الرد علي الترابي . وفي جهة مقابلة ، فإن غزو حزب الترابي للقواعد الجغرافية لحزب الأمة ، والتي مثلت مناطق نفوذ مغلقة لحزب الصادق المهدي في دارفور وكردفان ، ونجاح حركة الترابي في تجنيد جيل كامل من القيادات الإخوانية ، لم يتسبب في هز مصاهرة الترابي للصادق أو لحدوث مفاصلة بينهما .
مختصر مشاركات الثالوت مع نميري .....سدنة أم أبرياء ؟
عمل منصور مع نميري لستة سنوات وشهر ، وخرج عليه معارضا لمدة 7 سنوات تالية . ومن ذات البوابة التي خرج منها ، دخل صديقه اللدود الدكتور حسن الترابي مصالحا نميري .رمي الترابي قنبلة مصالحته لنميري بعد إنتهاء إجتماع للمكتب السياسي للجبهة الوطنية في فندق براون بلندن يوم 7 مارس 1977 أبلغهم أن جماعته بعد تحليلها للبرنامج الاسلامي لولاية نميري الثانية قررت مصالحته وأنهم سيسافرون للخرطوم في اليوم التالي ! بقي متحالفا مع نميري لثمانية سنوات هو وجماعته حتي قبيل 4 اسابيع من سقوطه.
تعمد الأخوان المسلمون العبث بذاكرة الناس لتغييب حقائق راسخة ، منها مثلا ، أنهم هندسوا شريعة نميري وساهموا في قتل محمود محمد طه لتشكيلهم الركيزة الفكرية الآحادية للنظام قبل أن يعتقلهم يرمي بهم في السجون بعد زيارة جورج بوش في مارس 1985. كان الدكتور حسن الترابي مستشارا له وتقلد علي عثمان طه منصب رقيب مجلس الشعب . وبرغم هذا التغلغل التام والكامل في مفاصل نظام مايو وبسطهم لنفوذهم الكلي علي كافة أجهزته التنفيذية والتشريعية والقضائية الأمنية وحتي الاعلامية ( ترأس يس عمر الامام مجلس إدارة الايام منذ ) 1980 إلا أنهم يرفضون تذكر سنواتهم الثمانية ذات السيطرة المطلقة) .
مصالحة الصادق المهدي لنميري كانت حساباتها مختلفة بتوقعات مُضخّمة ، لذلك أفرزت ، كواقع ، خيبات أمل كبري للصادق . وبسبب توقعاته الفاشلة ، تعمقت توتراته مع نميري فتطورت الخلافات لمعارضة وإنتهت به سجينا في سبتمبر 1983. فبعد 4 أشهر من مصالحة صهره للنميري ، تحرك في الصادق متقفيا آثار الترابي فإلتقي نميري في بورتسودان في يوليو 1977 . بعد ذلك عاد للخرطوم في عيد الاضحي، 22 نوفمبر 1977 . عودته جاءت بعد ثلاثة أيام فقط من زيارة السادات للقدس في 19 نوفمبر . تعمد الصادق المهدي ، في بادئ أمره ، عدم آداء القسم كعضو في اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي ، إلا أن كتاب (المصالحة الوطنية السودانية 1969-1978 (أكد آداؤه للقسم في اغسطس 1978 ومن ثم استقالته في سبتمبر1979 احتجاجا علي مساندة السودان لصلح السادات مع اسرائيل في كامب ديفيد . لاحظ المحللون أن الصادق عندما حضر للسودان مصالحا في نوفمبر 1977 كان السادات قد زار القدس بنية اجراء صلح . تساءلوا لو أن صلح مصر مع إسرائيل يهمه الي حد إستقالته من منصبه الجديد إحتجاجا بعد عام واحد وهل الصلح المصري –الإسرائلي يفوق في أهميته التوصل لإتفاق سلام هام يحتاجه السودان بشدة ؟ إن كان نعم ، فلماذا رضي أن يحضرمن لندن للخرطوم وقد سبقه السادات بزيارة اسرائيل منذ ثلاثة أيام وأعلنها للعالم من داخل الكنيست الاسرائيلي أنه سيوقع إتفاق سلام مع الكيان الصهيوني مهما قال العرب !!! ؟ هل صدق الصادق في دعواه ؟ علي كل ، يُلاحظ أن استقالته لم تعني سحب عناصر حزبه الذين إنخرطوا في نظام خصمه اللدود . فقد بقي غالبهم في الحكومة مثل د. الشريف التهامي (الطاقة)، عبدالحميد صالح (مجلس الشعب)، بكري عديل (حاكم كردفان) ، ميرغني حسين زاكي الدين ، عبدالرسول النور والصادق ابو نفيسة وغيرهم .
ولعلنا نزيد بالقول أن السيد الصادق المهدي ، حتي وبعد إستقالته ، ترك الباب مواربا مع نميري . ففي يناير 1980، بعد قرابة عام ونصف من إستقالته ، حضر لواشنطن كمبعوث رئاسي لنميري وسلم وزير خارجية كارتر ، سايروس فانس ، رسالة يطلب فيها مباركة واشنطن لوساطة سيقودها هو لإطلاق سراح الرهائن الأمريكيين المحتجزين في طهران . فزودته واشنطن بموقفها وسمحت له بتجريب حظه بيد أن المبادرة لم تثمر سوي أميالا أضافية في بطاقة الأسفار المتكررة !! خاتمة مصالحته كانت درامية . اعترض علي قوانين سبتمبر في 18 سبتمبر 1983 ، فإعتقلوه بعد اسبوع واحد ، فسجنوه لمدة 14 شهرا وبعد 5أشهر من خروجه ( ديسمبر 1984) سقط نظام نميري .
كيف خسر منصور وأفورقي الرهان علي الصادق المهدي ..وكسبت أنا ؟
إقتنص الدكتور فرانسس دينج تواجد الرئيس الاريتري أسايس أفورقي في زيارة رسمية بواشنطن فرتب له لقاءا علي مأدبة غداء في معهد بروكينز ، حيث عمل فرانسس زميلا كبيرا ممسكا بالملفات الافريقية . دعا فرانسس معظم السفراء الأفارقة وجمع من التشريعيين والمسؤولين الأمريكيين المشتغلين بالمستجدات الافريقية . كانت ظهيرة باردة وافقت الاثنين9 ديسمبر 1996 .تشاركت مع الدكتور منصور خالد طاولة توسطتها إديث سيمبالا، سفيرة يوغندا الشابة في العاصمة الأمريكية .كان البرنامج أن يواصل الضيوف غداءهم أثناء حديث الرئيس أفورقي . تقدم الرجل للمايكروفون وبلا مقدمات سحب الغوريلا السابق للجبهة الشعبية لتحرير ارتيريا الصاعق من مقذوف قنبلته اليدوية ..ورمي : ( سيداتي سادتي ، أسمحوا لي بأن أستعير من شبكة (سي إن إن) الطريقة التي تقطع بها برامجها لبث أخبارها العاجلة . فأنا لدي" بريكنغ نيوز Breaking News " رغم انه كان بودي إغتنام هذه الفرصة لأتحدث لكم عن موضوعات كثيرة اليوم ).
خمدت أصوات الصحون وقواطع الطعام وتبّكم الحضور وصمتت القاعة ، صمت المقابر بعد مغادرة المشيعين !
تجول بعينيه في القاعة مزهوا بما حقق من إنصات فوري ، " أبلغتني الاجهزة المختصة في حكومتي هذا الصباح من أسمرا أن السيد الصادق المهدي قد عبر الحدود بأمان ووصل لعاصمة بلادنا. لم أتحدث اليه بعد لكنه طبعا كما تتوقعون لم يأت لبلدنا للسياحة " . علت سحابة ثرثرات إختلطت بزقزقات الكراسي ، وإنصرف الضيوف عن وجبتهم وإنغمسوا في الأسئلة فضاع صوت أفورقي .إنتهي الغداء فأسرع منصور فرحا منشرحا لخارج القاعة وأبلغني أنه يحتاج لإجراء مكالمات سريعة من فندقه ! كان مستعجلا فخشيت أن يكرر حماقة الأمازيغي أبو القاسم عباس بن فرناس في الطيران البشري فخطفته لفندقه ، ووترغيت هوتيل . هاتف أولا السيد مبارك الفاضل المهدي الذي كاد، هو الآخر ، أن يقفز من سماعة الأذن من فرط نشوته بنجاح وصول قائد " يهتدون " الي أسمره . ومادري أن "يهتدون" سوف تتناسل في سنوات لاحقة لتصبح تتشاكسون ، تنفصلون ، تتناحرون ، تتنافسون ،تتصالحون ثم تتخاصمون ، كما هي اليوم . أرسل مبارك فاكسا لمنصور بيانا أصدره حزبه مهنئا بنجاح "يهتدون " .
كانت الساعة العاشرة ليلا في أسمره وأفاد مبارك أن السيد قائد يهتدون قد خلد للنوم وسيجتمع مع الدكتور جون قرنق في اليوم التالي. إنتهي منصور من مبارك وإتصل بالأستاذ ياسر عرمان ، وايضا قراءة تحليلية مستفيضة لٓلقيمة المضافة للعملية وماستحدثه من نقله نوعية في عمل المعارضة .إنتهي من تلفونات أعالي البحار وتفرغ لي إذ قرأ فتورا وتراخيا في تفاعلي مع النبأ فشحذ مرئياتي ، وكنت جاهزا . أبلغته إختلافي التام فيما ذهب له وقلت أنني أتوقع أن خروج الصادق المهدي سيعطل العمل المعارض وتنبأت بأنه سينفخ الروح في مناوشات قديمة وأننا موعودون بحلقات مشابهة لمساجلات مبادرة الميرغني قرنق لعام 1988 والتطويلات التي ظل الرجل يُلْهي بها الناس من فرقعات وبهلوانيات "سيرك الصادق" المجرّبة بإمتياز . توقعت أن التجمع سينصرف عن مهماته الأساسية .. ختمت تحليلي مفيدا أن الصراع القادم سيكون بين الصادق المهدي ومولانا الميرغني علي رئاسة التجمع . فالصادق لن يرضي أن يترأس مولانا هذا الجسم السوداني الجامع لأنه يري بأنه هو الاحق .أصغي دكتور منصور جيدا ثم أكد أن هيكل التجمع راسخ ولن يكون محل نقاش وليس فيه منصبا "شاغرا ينتظر غائبا". قال أن لوائح التجمع لا تمنع السيد الصادق من تولي الأمانة العامة ، بديلا لمبارك ، إن رغِب في ممارسة العمل اليومي .
بعد عام واحد فقط صدقت نبوءتي بكاملها ، فقد تسبب الصادق في إشعال حرائق متلاحقة أحارت إطفائيات التجمع وشغلته عن قضاياه الحيوية . تملك منصور خالد الشجاعة أن يعترف لي يوم أن قابلته في عيد الاضحي بمدينة ابوظبي الخميس 2 أبريل 1998 بخطأ تحليليه وصواب توقعاتي ( صادف ذلك اليوم تنفيذ النظام لمذبحة معسكر العيلفون للخدمة الالزامية الذين قُتل فيه 117 طالبا دفنوا في مقابر جماعية توزرعت مابين مقابر الصحافة وفاروق والبكري واُم بدة. وتم تسليم 12 جثة إلى ذويهم ، رحمهم الله ).
بعد يهتدون أخرج الصادق من جراب حواه " تتصالحون " ، فقام في أول مايو 1999 وبمبادرة من الدكتور كامل الطيب إدريس ، بالجلوس الي نسيبه د.حسن الترابي للتفاوض مع النظام في جنيف. أعقب ذك لقاء في 26 نوفمبر 1999 في جيبوتي مع عمر البشير ، ووقع حزب الأمة اتفاق نداء الوطن مع الانقاذ بحضور ورعاية الرئيس الجيبوتي إسماعيل عمر قيلي. وبعد عام بالضبط ، في 23 نوفمبر 2000 ، عاد للخرطوم بعملية " تفلحون".
منصور والترابي : الغيرة الجيلية والمناكفة العلمية حتي في الترجمة
مما تقدم ، تبدو جلية الطريقة الناضجة ، سمها الموضوعية ، التي يتعامل بها منصور مع خصومه . ويظهر جليا إستعداده للإعتراف بالخطأ دون إحساس بإنتقاصٍ لقدره أو مقدراته التحليلية ، كما حدث في إعترافه بخطئه وصوابي بلا مكابرة . مع إختلاف المناسبات ، فإن ذات الترحيب الذي عبّر عنه عندما علم بعبور الصادق المهدي لأريتريا هو مابذله للدكتور حسن الترابي فدعاه كمتحدث في ندوة كان موضوعها الأساسي نهضة الإسلام السياسي كما في ثورة الخميني 1979 وإنعكاسات ماأفرزته توتراتها السياسية علي سلامة إمدادات الطاقة للغرب . فما إن علم منصور بتواجد الترابي "زميله اللدود " في واشنطن في مايو 1979 حتي دعاه للمشاركة كمتحدث أساسي ، وكان الترابي نائبا عاما في نظام نميري الذي غادره منصور مغاضبا . أشرت في الحلقة 2 لهذه الندوة التي هندسها الدكتور منصور إبان عمله في معهد ودرو وشارك فيها إثنين من أصدقاء منصور : الدكتور أحمد زكي يماني وزير البترول السعودي والمفكر المغاربي الفرنسي محمد المعلا . ثمة حادثة طريفة حدثت بمنصة الندوة يومها كشفت عن الود المفقود بين الترابي ومنصور . فما إن أعلن المغاربي الأستاذ المعلا تفضيله التحدث بالفرنسية حتي تناول الدكتور منصور المايكروفون وبدأ في تقديم ترجمة فورية لحديث المعلا . كانت القاعة والردهات المحيطة بالمقر تعج بالحضور لما انطوت عليه الندوة من أهمية إستراتيجية وماسيقوله الوزير السعودي وأزمة الطاقة قد تفجرت بصفوف بنزين تراصت أمام محطات الوقود في كل العالم الغربي فضلا عن والأوزان الفكرية الثقيلة للمتحدثين .وأثناء تركيز الحضور علي متابعة " بنج -بونج " المعلا / منصور ، تداخل الدكتور الترابي ، فجأة ، مصححا منصور !! حمل منصور المايكرفون من امامه وببسمة عريضه وضعه أمام الترابي الجالس الي يساره زائدا مضيفا ( تفضل ياسيدي ، أرحني ) ! تصاعدت قهقهات الحضور ..وبمجرد ما بدأ الترابي في الترجمة حتي لعب منصور دور المترجم المُصَّحِح والمناكف في آن عندما نطق الترابي بأول جملة مترجمة ، ومن ثم وجه حديثه مخاطبا المعلا بالانجليزية ( أرأيت ؟ ألم يكن من الأحسن لو تحدثت بالانجليزية حتي توفر علي كلينا هذا التخاصم ؟) فتردد صدي الضحكة الجماعية مدويا .
معاداته للعنصرية ...تحمل صفري
يقابل الدكتور منصور التَعنْصُر بتحمل صفري zero tolerance - أي برفض تامٍ ومبدئي . ففي قناعته أن العنصرية هي أعلي مصدّات التطور الطبقي وأكثر الحواجز علوا وفعالية وحُؤُولا بين الناس وحقوقهم المدنية والقانونية المشروعة . وإستتباعا فإن العنصرية تفرز كل ماله صلة بعدم الانسانية والحط من قيمة البني آدمين ، وقد خصهم خالقهم بعطايا ربانية ذات مغازٍ شاملة (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا) -الإسراء:70 . يعلم جلساؤه وخاصته أنه لا يستسيغ أبدا ويرفض التلّهي بأي موضوع ينتقص من عرق أو قبيلة بتنميط سالب ، فمثل هؤلاء سينتظرهم حمل بعير من التوبيخ والتقريع . جلساؤه يذكرون مواجهات لاتُنْسي له مع نفر من عليّة القوم وخُلصاء المجتمع ممن إتخذوا من العرق مادة للتندر الفكاهي بين رصفائهم الشماليين ظنا أن منصور أحدهم وماعلموا انه (أوريو- Oreo) معكوس . والاوريو كلمة شعبية ذات مرامي عنصرية في أمريكا تم إستنباطها من إسم بسكويت شهير تعلوه قشرة عجينة "خارجية" سمراء محشوة بزبدة بيضاء . والتعبير في المجمل ينطوي علي إشارة تذكيرية أن لون البشرة قد يُحسب صاحبه ، بالخطأ ، كنصير لبني جلدته بينما دواخله تنحاز وتتعاطف مع أسلوب تفكير وذهنية ووجدان الاخر ، وهو العدو الافتراضي.
الاحتفاء بالعروبة عند منصور خالد يصطف في تَحَاذٍ كامل ، متلاصقا كعبا بكعب مع أفريقيته وزنوجته . مهما كتب منصور عن حبه للسودان الموحد ، وآماله المنهارة وأحلامه المتحطمة في وطن يشمخ شماله المتسامح مع جنوبه الناهض ، فلن يتمكن من الغوص داخل وجدانه الممزق ، أو يُوفي في وصف عمق جُرحه الغائر . هذه الآمال المحطمة هي مايتصدر أولويات همومه وانفعالاته اليومية الآن كلما نظر في قناني العمر وقلّب صفحة الذكريات. ستظل المألات والاخفاقات الماثلة غصة في حلقه أبدا مابقي الحال علي ماهو عليه ، وفي هذا مايُفسر مراراته فيما يُطلق من تصريحات تندد بالفشل المتكرر في بلوغ المرتجي ، ويالها من هزيمة . هذا الحب الكبير هو السبب الوحيد الذي من أجله يغادر إعتكافه وعزلته الذاتية منذ 2011 ليقوم بدور الوسط مقربا بين وجهات النظر أو لنزع فتيل نذر حرب تجمعت سحبها . كثير من أمثالي ، الواقفين علي الضفة المعارضة لهذا النظام الفاشل ، لايروق لهم مايقوم به دكتور منصور خالد من أدوار توفيقية مابين جوبا والخرطوم ، لأنها تشابه رمي طوق نجاة لنظام ظالم غريق نريده نحن شعب السودان ميتا ، ومخنوقا بحبال ظلمه وبطشه وبشاعته ودمويته . ستتفهم موقفه فقط لو قارنته بتاجر هجرت الارباح دفاتره فعكف علي ترشيد خسائره ، ليس رجاءا في أرباح ، ولكن منعا لتفاقم الخسائر .فوساطات دكتور منصور خالد الأخيرة ، علي قلتها ، أرتبطت بنزع فتيل إنفجار أزفت ساعته . وساطاته هدفها حقنا للدماء فما يهدر من أرواح ، بالنسبة له، هو من نوع الخسائر غير القابلة للتعويض عندما يتصالح أمراء الحرب . حروب هؤلاء ليست بسبب قضايا مبدئية وإنما صراعات بسبب الذوات والأنا fighting over egos not issues
لن نغادر محطة العنصرية هذه دون الاشارة لوزير خارجية آخر قضي عقدين من عمره الاستوازي بالانقاذ ولا عمل له سوي الدبلوماسية ، الإسم الجديد للشحدة . ولج معتركها بطريقة الدافوري ،من طبيب أسنان فاشل أرسله الشيخ رئيسا لمكتب الصداقة الشعبية ، الي صبي في زقاقات الحارات يتلهي بما صنع بالدبلوماسية السودانية إذ حولها لكرة شُراب متسخة يركلها بافرازات بالوعات لسانه الزفر وإنجليزيته المخجلة . لعارنا أصبح معروفا للعالم الخارجي كوزير خارجيتنا وشحاد فوق العادة لسبعة سنوات ، ثم مستشار خارجيا في اللصوصية للرئيس لستة سنوات . حاوره زميلنا البارع في التقصي المعلوماتي ، محمد سعيد محمد الحسن (الشرق الأوسط 24 أكتوبر2010 ) يستوضحه عن آخر لقاء له مع النائب الأول السابق الزبيرمحمد صالح ( إبن منطقته- القولد ) الذي كان سيقوم برحلته المنكوبة للجنوب في اليوم التالي.إعتذر للزبير عن مرافقته وقبل عذره . قال أنه زار صديقه علي يسن المسافر في ذات الرحلة وكان وزير الدولة بديوان الحكم الاتحادي ،فوجده مشغولا بظروف أسرية ضاغطة وتوعكه بمرض السكر. قال أنه عاد للزبير ليتوسط لصديقه، قال للشرق الأوسط (قدمت رجائي اليه باعفاء علي يس من رحلة الجنوب، فعقب بطريقته العفوية المحببة «يا أخي انت لا عاوز تسافر، ولا عاوز الآخرين يسافروا»، فرددت عليه مازحا: «يا سيادة النائب الاول، عليك الله علي يس ده يشبه رحلة للجنوب، خذ معاك الدكتور الطيب ابراهيم، والدكتور لام اكول وآخرين ) ...... هكذا وبلا خجل ، ودون أن يرف له جفن يظل الطفل المعجزة يردد هذه القصة العنصرية النتنة ويكررها .
قطعا ، لن ولم ويستحيل ، أن يكون من بين مرامينا عقد مقارنة بين " هذا" والدكتور منصور خالد فتلكم مقارنة في بطلان مقارنة مخ شاكلة حديد دلالات الخردة ، بعقلية فصوصها من الألماسة الفارسية الأغلي في العالم والمسماة " جبل النور" .لكن هذا من أحكام ضرورات التذكير بالفروقات الحاسمة بين ربان الدبلوماسية السودانية في عهدين . فأفريقيا التي يتنكر لسوادها طبيب الرحي الثالثة ، هل التي ألهمت منصور خالد بإستقدم البروفسور محمد عمر بشير في 1974 لتأسيس الادارة الافريقية في وزارة الخارجية السودانية ، ولأول مرة . بتلك الخطوة أعاد منصور خالد للسودان إحترام نفسه إذ لم يكن مقبولا بل ومخجلا أن تتوفر وزارة خارجية أكبر قطر أفريقي ، وأحد المؤسسين لمنظمة الوحدة الافريقية ظهيرة تأسيسها في 25 مايو 1963 علي إدارة للأمريكتين لكنها بلا وشيجة إدارية أفريقية تتواصل عبر منافذها علي محيطها الافريقي المجاور وتتعاطي مع جيران بلغ عددهم يومها اثنين وخمسين دولة . !!
الحرف المسجور والنثر المنصور...
يتوفر منصور خالد علي حقول لغوية رحيبة تُنْبت أشكالا وألوانا مؤتلقة من التعابير متعددة الجنسيات. فتري جِناسها يخالط طِباقُها ويتوالف بديعها العربي مع المخرجات القاموسية المحسّنة لويبستر الانجليزي، فتطير عصافيرا تزقزق بمعزوفات وأشعار" آدم أليو بوسو" الفرنسي. إن إسترقت السمع فسوف تسمع أنين باب السنط في حي الهجرة القديم يتناغم ، مع مؤذن يدور في " ميضنة" سقف جامع جده الشيخ عبدالماجد وستداهمك أذكار علي التبروقة وكركبة في القطيع . خاتمة هذا الصور لا وجود لها إلا في وجدان منصور خالد، ربما ألحق بها قراءات من أشعار الشاعرة أديليت قليت ديفرينوي وتأملات في مرسمها ولوحاتها البهية .
متعة القراءة لمنصور تتشارك فيها كل جوارحك : فالمخ يركز كجراح الاعصاب الدقيقة ، والعين تغدو كطفلة تتسلي بالتقافز بين تعابيره ، فتكمل وتعيد ثم تبدأ ، والقلب يخفق بالسلم السباعي . كتابات منصور ذات عبق يملأ رئتك بأبخرة مصانع قايمارد للعطور إذ يزف نثره من عاصمة الورد ، قراسي Grasse " الي عتبات مزاجك . وياله من نثر يصدُق عليه قول الشاعر محمد معروف الرصافي في تشريح أشعار المتنبي: :
من كل معنى أغر مؤتلق ... في لفظه كالعروس في الحجَله
وربما رق لفظه فبدت ... في شعره كل كِلْمةٍ ثمله
حروف منصور يمكنها أن تنقلب من الضد للآخر في إغماضة " آنا آتيك به " . فهي أدوات مكياج وتجميل وغنج ، كخُمرة حفها بخور تعطن في فليردمور وإزدان ببراعم أزهار كوغتون كورت في ورويكزشير . وعند اللزوم والضرورة ، تصبح إما سيوفا ذات بريق أو كرابيج عنج أمدرمانية حُرّة . يضِّنُ بسيوفه ولا يجردها إلا عند المنازلات المتكافئة ، فيسوْط البلطجية بكرابيجه إستكثارا . يحرِّم منصور علي كلماته الخروج العجول أو "المبشتن" لذا فتجويد الصنعة عنده تفوق أهميته الشروع في الكتابة . فما إن تغادر مخطوطاته دُرجه للمطبعة ، فالموعد " ليلة ليلية " مع صبايا ، فاتنات متغنجات ساحرات تزيّن بكل جميل وتهيأن للقتل Dressed to kill . إن تعاركن ظفرن بالرأس ، فهو دوما الهدف . لذلك يطلق علي الكتابة صفة الاحتشاد لأن فيها شئ من وطأة المعارك . يتهيأ لمعاركه بتجريد كتيبته المنصورة ، فيدلق تعابيرا موائمة تُلصق الافكار بالخيال فيجسدها ككائنات بأرواح تسعي ، وتلكم مهمة لا يتصدي لها إلا بحّاثة مقتدر . مقالاته عبارة عن محاضرات حركية ، تنصرف من الشكل الي المحتوي وتوفر وظيفيا إجابات علي الأسئلة المحورية : ماذا - لماذا- كيف ، وإذا إضْطُر للمزيد أضاف ، من و متي ، وهذا فضل يُؤتي من باشر الأمر وخبره . لذا فإن جُلّ معاركه تنشب مع خصوم إفتراضيين يداويهم بوصفة مجرّبة : من يتحدونه يتوجب طرحه والإجهاز عليه بمنطق لا يبقي ولا يذر مما تعرفه عقيدة التكتيك العسكري بأسلوب "الصدمة والرهبةShock & Owe "حيث تتم فرض الهيمنة السريعة و التامة علي الخصم جراء إستخدام قوة ضاربة تفرض وجودها فتشل عقله وتحطم دفاعاته ومعنوياته وإرادته . من هادنه سيخرج من العراك مبايعا طائعا ، وطوبي لحلفائه ممن ظل يطعمهم طحينا فكريا ، لا ظمأ بعده لشربة حُجة أو مرافعة دفاع.
حروفه النائحة التي "تَشّهِي " في الموت.....
صادف رحيل خالي السفير الموسوعي صلاح عثمان هاشم تواجدي خارج أمريكا ، وعند عودتي إتصل لتعزيني صفي منصور وتوأم روحه ، الراحل الرشيد عثمان خالد . توفر هذا الراحل خارج نطاق تخصصه الاقتصادي كخبير بصندوق النقد ، علي قدرات فذة ، مثل حضور البديهة والدعابة الجاهزة . فالرشيد بمقدوره إنتزاع القهقهة حتي من يتيم يولول . دلف ليحدثني عن المرثية الفخمة التي سطرها منصور في صديقه السفير الباحث صلاح عثمان هاشم فقال ( ياخي منصور ده والله عنده قدرة عجيبة في الكتابة "تشهيك في الموت ذاتو وتخليك تتمني تموت قباله عشان يرثيك ) ..كانت الأمنية نكتة مستذاقة يومها لكنها غدت قضاءا وأجلا داهمنا في 17 فبراير 2004 . بعد 17 عام تحقق للرشيد مماإشتهاه رثاه منصور بمرثية عنوانها " لقد فقدناه ". وكما توقع الفقيد ، كانت مرثية بإمضاء من يشهيّك الموت ! ومن فرط تراقص حروفها ، تكاد تنسي موضوعها فتنشغل بما فيها من سبك وتفرّد وغزارة في العلم ورشاقة في ربط هذا بذاك ، فتتجمد الدمعة وتتفشي أورام المواجع 1
إجتزاءت من مرثية منصور للرشيد عثمان خالد
في " لقد فقدناه " أطلق عليه ، ولمرتين ، صفة "صديق العمر" ومرة كان رشيده "رفيق العمر" وفي الأخيرة رفعة لمرتبة الاخيار فأسماه ( الصديق مأمون الغيبة) وياله من صديق ذاك الذي يتحول معه أسم المأمون لصفة رديفة . تجول منصور في المرثية غير ملتزم بترتيب للرواية فبدأ من لحظه علمه بالنبأ اليقين وماسبق ذلك من ترتيبات إعتزم فيها التوجه " إلى واشنطون لأكون بجانب صديق العمر في محنته " . لماذا كل هذا التجشم ؟ يأتيك الرد لا حقا( على أي، قرابتي الحقيقية برشيد أمتن من قرابة الأصول والفروع، هى قرابة الرأي والمذهب والإنسانية وإمامة العقل ) ...ثم مايلبث أن يحدثك عن الرشيد صفيه وخليله فيسقيك جرعة من عصير الذاكرة ( رحلة بدأناها من مراتع الشباب في أم درمان ومن مدارج العلم في الخرطوم فأوفت بنا إلى مكاتب الأمم المتحدة في نيويورك. ثم طفنا فيها معاً حواضر الكون من أقصاه إلى أقصاه نبحث عن كنوز المعرفة، ونتلهى في مظان اللهو، ونستكشف مفاتن الحياة. وكنا في ذلك الترحال نخلط الخيال بالواقع، والحكمة بالغباء، والوجدان السليم العواطف الفوضوية ولا نقف أبداً عند المظاهر العيانية التي تطفو على السطح، بل نسبر غور الأشياء من ذلك الطواف كنا نعود دوماً إلى أم درمان، إلى السودان، نتحدث عنهما حديث المشوق المستهام، ثم حديث عن كوارث البلاد ومحنها المتراكمة ثم نفيق يصدمنا وعي مهزوم نتملى فيما عليه السودان من وبال أغلبه من صنع البشر لنتحسر حسرة المستيئس الذي انقطع طمعه. حينذاك يغلب علينا اليأس فنقول ما أصدق الحردلو: "ملعون أبوكي بلد". كلانا كان يعاني من مرض وراثي متوطن في النفس هو حبنا لوطن واسع شاسع ما برح يضيق بأهله.)
الحرف في مرثيات منصور يأتيك بهيا بجبين يتلألأ من أثر السجود ، مكتمل الإيمان ومنغرَزٌ في نعمة التوكل علي خالق الأكوان. تأمله يناجي نفسه بيقين المؤمن وقد إشتد المرض بصديقه "ولكن من الأدواء ما لا تجدي معه حيل النطاسيين. حينئذ يكون الشفاء هو الراحة الأبدية التي يسكن معها الإنسان ويطمئن". وفي مرثية أحري آخر يمضي بعد أن إنصرف عن تشييع البروف بطران ليذكر نفسه ، فيقول " نحن أهل يقين ديني تعلمنا منه «إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ». لهذا لا يكون عزاؤنا لأنفسنا إلا في الذكرى، «والذكريات صدى السنين الحاكي». ...... أحباب كثر لنا ماتوا فأقبروا، وفي قبورهم أجداث ستنسل إلى ربها يوم القيامة. " هذا هو حاله عقب كل كالحة وفراق سرمدي لمن ترجلوا من صحاب دربه ، فتهب عليه نسائم التوكل والرضي (وفي الختام لا يُجدي العويل أن حُمَّ القضاءُ وأمضى القدر حُكَمه، فالموت منهاة البشر، كل البشر)
إجتزاءات من مرثية البروفسور عبدالعزيز بطران:
رحل عنا البروفسور عبدالعزيز بطران في اكتوبر 2011 عن عمر بلغ 70 عاما قضي 40 منها كأستاذ جامعي متخصص في التأريخ الأفريقي
http://coas.howard.edu/history/obituary_Batran.html
ماخطه الدكتور منصور خالد عن هذا الملاك البشري الذي عرفته واشنطن منذ أخريات السبعينيات والي وفاته ، كان كافيا للإحاطة ومُعرِّفا بشمول . تعرفت علي البروف بجامعة هوارد حيث عمل كبروفسور مُثبّت مدي الحياة tenured professor ، وأنا طالبا بالدراسات العليا في كلية إدارة الأعمال ، فكلنا لا نفترق أبدا . أسمعوه يصرح بسجايا بطران (إلا أن أكثر ما قربني منه، أو قربه إلي، كان خلوه مما عُرف به الكثير من أبناء جيلنا: الغيرة الجيلية، التشنج الفكري خاصة في السياسة، والإنغماس الجزافي في الترهات الأيديولوجية. تلك صفات كانت وما زالت تحمل نفسي على الإنقباض عن أصحابها بلا هوادة أو لين. فإن كان التشنج الطبيعي هو تقبض عضلي غير إرادي، إلا أن التشنج السياسي يصدر دوماً عن إنسداد في خلايا المخ يعطل التفكير. أما الغيرة بين المجايلين فحسبها سوءً انها تعبر عن رغبة الحاسد في ان يُذهب اللهُ عن المحسود خلة موروثة، أو مأثرة مكتسبة. وبما أن كسب المرء لا يكون إلا بعون من الله وجهد من عبده، فإن في مثل هذا الحسد جحود بعطاء الخال
مرثية منصور في جريمة إغتيال الشهيد محمود محمد طه
وهذه مرثية إنطوت علي أمور كثيرة ميّزها غضب بَيّن وزلزال بحمم وتسكن في منزلة كتاباته حين يصبح قلمه سيفا بتارا وكرباج عنج سوّاط في آن . فالمرثية كانت كتابا تحريضيا للثورة والخروج عن طاعة نميري بتحدٍ لاتخطئه عين. ربما لأن قتلة الاستاذ كانوا بشرا ضاقوا بما طرح وجادل ، فإستقووا علي حياته السبعينية بحاكم مهووس .
فبعد أغتيال محمود محمد طه في يناير 1985 لم ير منصور من سبب للوقوف والتفرج علي الحاكم يذل البشر ، يرهب الوطن ، ويتشبّح في الناس ويقصب العلماء وأصحاب الفكر ..فصرخ أن آن الاوان للثورة بإسقاط نظام ذلك المعتوه السياسي ...فقال (إن اغتيال محمود محمد طه، شهيد الفكر، لرزءٌ أكبر من أن توفيه الدموع السواجم. وما اغتال محموداً دهرٌ خئون، وإنما انتاشته سهام صدئة، أطلقها قضاة تالفون، ودعاة عاطبون، وحاكم فاجر، معتل العقل، آن له أن يلجم) . عقب تشييع حلاّجنا الذي صعد للمقصلة بقلب أسد وخطي فارس صباح الجمعة 18 يناير 1985 ، صدقت نبوءة منصور إذ جاء الدور لتشييع نميري ونظامه المستبد بعد 77 يوما من جريمته فرماه شعبه الأبي في قاع مزبلة التاريخ يوم 6 ابريل 1985 كتب منصور واسهب في تبيان عوار مسخ تشريعات 1983 والهوس الديني الذي إجتاح دخانه الارث السوداني في التدين والتسامح ، فحمل المعركة لنميري ( يمضي صاحب الدعوة المزعومة للبعث الإسلامي، دافعاً بالسودان إلى بدعٍ لم تعرفها الدولة الإسلامية إلافي عهود الانحطاط التتري والشعوذة الأيوبية، والطغيان المملوكي.. فما عاد الإسلام هو الإسلام، ولا أصبح السودان هو السودان، ودون الناس هذه المخلوقات الديناصورية التي أخرجها النميري من حظائرها. والتي لا مكان لها في عالم اليوم، إلا في متاحف التاريخ الطبيعي.. .. ومع كل هذا الهوس والتعصب المذموم، المزعوم، صمت هؤلاء الأدعياء المنافقون على انتهاب بيت المال على يد خازنه، وصمتوا على بيع ديار المسلمين في مزاد مقفول لمشترٍ واحد هو "الخاشقجي"، وصمتوا على تجاوز الحاكم لأحكام السماء في تعامله مع ذوي البأس من غير المسلمين، كما فعل مع المصارف الأجنبية حول الربا، وصمتوا على هرطقة الحاكم وهو يساوي نفسه بالرسول الكريم، عليه أفضل الصلوات، وصمتوا على تجاسر الحاكم وهو يفترض لنفسه عصمة في دستور حاكه بيده، والعصمة لم يعرفها الإسلام إلا لمحمد صلَّى الله عليه وسلَّم، وقد عصمه بارئه، وصمتوا على خيانة بيضة الإسلام وهو يتقاضى الثمن الربيح على تهجير يهود إثيوبيا لإسرائيل. صمتوا عن كل هذا، فالإسلام في عرفهم هو القطع والجلد والتشهير بالشارعين في الزنا.. وعلم الله أن الزناة الحقيقيين هم زناة الفكر والقلم، "وستكتب شهادتهم ويسألون ) ...انه الجلد بكرباج العنج !!
ثم يتحدي ويذّكِر فيقول " فالله يعلم بأن إمام السودان الذي يتكئ اليوم على عصاة مهترئة اهتراء منسأة سليمان، لظالم بلا إرادة، وصارمٌ بلا عزم، وحليم بغير اقتدار، ومحارب بسيف من خشب، كسيف سميِّه "أبي حية النميري". وما غدره وطغيانه إلا طغيان ضعيف مرتجف. إن العصبة الظالمة التي تتحلق حول إمام آخر الزمان "كافورنا هذا" إنما تجهل، كما يتجاهل، بأن شهيد الفكر سيبقى ضميراً مؤرقاً، ومصباحاً مسرجاً، في هذا الديجور الحالك الذي يعيش فيه أهل السودان) .... ثم يصوب الكاتب سوطه "بِمَحْطَة" أخيرة علي قفا نميري قبل أن يغادر المرثية " وعلَّ إمام الباطل يعرف في نهاية الأمر، أنه يتاجر برأسمال غيره، وما تاجر برأسمال غيره إلا المفلس، فالجيش جيش الشعب، والسلاح سلاح الشعب.. ولن يرضى هذا الشعب لنفسه أن يكون وقوداً لحرب جائرة، أشعلها حاكمٌ ظنينُ عقلٍ.. كما لا يرضى لنفسه، أن يكون أداة بطش في يد طاغية لا ظهير له.. فيوم أن تجيء الحاقة فلا غوث لعاطب ولا ملاذ لتالف، ولا يحسبن الظالمون بأن دم أبي الشجاع سيذهب هدراً ليبقى فيها ليسرح خصيٌ أوكع، أو لتمرح إماءٌ لكع ".
مزاجيات منصور : .حب طبخ البامية .سحّارة أبوتي ، حسن عطية والحقيبة
لمنصور ولع بحقيبة الفن وأغنيات حسن عطية والبامية المفروكة والشاي بالنعناع ! ولمن لا يعرف فالرجل طاهٍ ماهر بتخصص لا يقارع في البامية المطبوخة ! كان مطبخ صديقه الراحل الرشيد عثمان خالد ملعبه المفضل لممارسة هواية تمكن منها بأضعاف ماأبدع في نَمْنَمَةُ بيانه بكلام مُوّشي بنضائد الحروف . متي مازار منصور واشنطن فإن دار صديقه الرشيد في ميرلاند إختصت بساعات مقيله في عطلات الاسبوع، وتوسد في مبيته شراشف فندق " ووتر غيت " الفخيم . أرّخ لبيت صديقه فكتب ، ( لهذا كانت داره في واشنطون محجة للزائرين يأتونه من كل فجٍ عميق...ومنهم أهله الأقربون الذين طالما طرقوا باب الدار ينشدون النصح أو يرومون الترويح عن النفس في تلك الدار الوعية...وعلى المستوى الشخصي كانت تلك الدار مثوى لي ومستقر، لهذا يصبح فقدي لرشيد أعظم.) .إن شهِيَ منصور البامية " إحتشد" لها ، كالكتابة تماما . فتراه يلّح علي جزارة بعينها ، يتخير من لحمها ماجاور العظم ، وماأدراك ماالْعِكّوْ !! ثم ينهمك في الطبخ بسرعة لا تفسد الإتقان ، وبتروٍ يحتاجه التَسْبِيك .
كثيرون لا يعرفون هذا الجانب المحجوب من المواهب لرجل يحسبونه قد خُلق لأمور أخر . وربما كان الاقرب الي خيالهم تصديق أنه "سيحرق" كل شئ له علاقة بالمطبخ ولو كان في بساطة إعداد كوب شاي ! هذا الانطباع هو ماأخبرتني به السيدة ثريا الشنقيطي ، شقيقة محمد صالح الشنقيطي اول رئيس للبرلمان . ذات مرة جاور مسكنهم هي وزوجها الراحل شفيق محمد علي شوقي ، مدير قاعة الصداقة السابق د. منصور خالد . روت لي عن زيارة أحد الظرفاء لهم الذي أستفسرها عن جيرانهم ، فعدّدتهم . ولما وصلت لمنصور خالد ، قال لها ( والله دي مصيبة ، هسه لو عايزه ليك شمار ولا ملح بالحيطة وصينية الاكل قدامكم ، ماعندكم طريقة إلا تضربوا المشوار للسوق ) ! لمنصور حب وتعلق بالتراث لا يضاهيه حب ويكفي أن يزدان صالونه "بسحّارة" من خشب الابنوس ظلت تحوم معه العالم دونما إكتراث منه بوزنها الذي يفوق العشرات من الشنط المليئة ! هذه السحّارة ليست "أي " سحارة فقد أهداها الرئيس اليوغندي ميلتون أبوتي لجعفر نميري ، الذي ماأن عرضوا عليه قوائم الهدايا حتي ثار وغضب وشتم وأمر بتركها حيثما هي في قصر الضيافة الرئاسي في كمبالا ، بيد أن منصور درءا للحرج من هذا التصرف " اللارئاسي " أمر بشحنها للخرطوم ، فقال له نميري " السحارة دي مابتبارينا إلا لو أنت عاوزها " فأومأ بالموافقة . ومن ذلك اليوم والي هذا اليوم الماثل فإن سحارة أبوتي تعتبر أهم مقتنيات صالون منصور وفي كثير من الأحيان مدخلا جيدا للحديث عن التراث الافريقي وتوافقه بين الجيران بسبب من الحدود السياسية التي لا علاقة لها بتراثيات التماس حيث يصدف أن تحمل الناس جوازات مختلفة بيينما في الجوف سحّارة واحدة !
*****خاطرة ****
الأستاذة زينب بدرالدين : لله درك أيتها الجسورة أم الأبطال
كلما سمعت هذه السيدة تتحدث أحسست بالخجل من نفسي !
كلما رأيتها في فيديو أحسست بالصَغَار والهوان من بطلة متوهجة بالثورة ، عصية علي الإنكسار إن أردت النظر إليها يلزمك أن تكحِّل ناظريك بالشمس أولا ...فهي شمس الغد ..
ماأعظمك ياسيدتي ...وماأحقرنا وقد إكتفينا بالتفرج عليك ياأم محمد
كتبت يوم 3 يونيو من العام الماضي علي كشكول الشبلة "ولاء" فقلت:
(الي أمك ، أستاذة الأجيال زينت بدرالدين ، المناضلة الجسورة ..طأطأت الرأس حالي كغيري من ملايين السودانيين في نفير البحث عن مهيرة بت عبود في زمن تراجع فيه الرجال وإستأسدت فيه الكلاب ...تحلّقنا حول شقيقك محمد صلاح ، " أبوزيدنا الهلالي " أوسَمِّيه ، بطل تحريرنا المعجزة المنتظر : لا يقود إلا نفسه، لا معاضد إلا زنده ولا من مقاتل سواه ... فرمينا عليه همومنا وطلباتنا ورهنا أحلامنا كفرض الكفاية عنده ، وإنصرفنا . تركناه أسيرا وحيدا جريحا معذبا لدي جلاديه ، وأنصرفنا لسبل كسب قوتنا وقوت عيالنا لا يهمنا، بل وغير عابئين أصلا ، كم سيحمل عنا من الأطنان ، أو درجة تحمله لأثقالنا ...أو الي متي سيظل يحمل ويحمل ويصلي ويصوم ويحج عنا ، بل ويقضي حتي النوافل ، نيابة عن شعب جمهورية السودان بأكمله . إستقالت همة الشعب من النضال ، وسقطت واجباتنا الوطنية في الثورة والمقاومة والرفض عنا وغدت فرض كفاية صنعت خصيصا لأسرة محمد صلاح).....
.
.
https://kashkouli.wordpress.com
رسالة إلى ساندرا فاروق كدودة: الخوف جزء من إنسانيتنا.. كاذب من أنكره
لمطالعة تقارير الكاتب السابقة بإرشيف الراكوبة أضغط علي هذا الرابط
http://www.alrakoba.net/articles-act...cles-id-88.htm


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.