بسم الله الرحمن الرحيم د.صديق تاور كافى بدون مقدمات وبشكل مفاجئ نشبت أزمة حول أراضي حرم جامعة النيلين بين إدارة الشرطة و الجامعة ما كان لها أن تكون لو أن الأمور قد أُخذت بقليل من التريث والتبصّر. فجامعة النيلين مؤسسة حكومية تتبع لجمهورية السودان وجهاز الشرطة السودانية كذلك، وكلاهما مؤسستا دولة تعملان على خدمة المجتمع والبلد، وكلاهما يتكامل دوره مع الآخر في شتى المجالات، وكل له مكانته وإحترامه وتقديره لدى عامة الناس من أهل السودان. وبالتالي فلا مجال لأخذ الأمور من باب الإنتصار والهزيمة أو المفاضلة بين هذا و ذاك. ولكن الذي عقّد الأمور وحوّلها من إطارها المؤسسى و الرسمي المتأسس على المصلحة العامة الى ما يشبه الصراع والمواجهة، هو الطريقة المتسرعة في إتخاذ قرارات متضاربة متعلقة بهذا الموضوع من رئاسة الجمهورية ومجلس الوزراء. و لتوضيح الأمر دعونا نورد بعض الحيثيات ذات الصلة بالموضوع: أولا: الأرض موضع النزاع وموضوع الجدل هي أرض حكومية تتبع لجمهورية السودان ليس في ذلك شك، وقيادة الدولة قانونا هي التي تخصص الموقع المعني لما يخدم المصلحة العامة حسب الأولويات وتقديرات الظروف أو هكذا يجب أن تكون. وهذه الأرض ليست هي المساحة الوحيدة في هذا النزاع فهناك المقر الذي تستخدمه إذاعة ساهرون التابعة للشرطة والمقر الذى تستخدمه شرطة الأجانب و مواقع أخرى تتبع لجامعة النيلين بمستنداتها وتاريخها دون أن يسبب ذلك حساسية أو يُعتبر مشكلة كبيرة فى نظر الإدارات المتعاقبة على جامعة النيلين بما فيها الإدارة الحالية. ثانيا: المساحة التي نُزعت من جامعة النيلين وخُصصت لإدارة الشرطة هي في حرم الجامعة تماما، ولذلك تم تخصيصها منذ العام 1993م بقرار رئاسي بحيث تتبع لجامعة النيلين على الرغم من أنها حتى ذلك الحين كانت تعرف ب(قشلاق السجون) الذي أُزيل من هذ المكان وهذه قصة أخرى. أهم ما في الامر أنه وحتى تاريخ تخصيص هذه المساحة لجامعة النيلين في عام 1993م لم تكن هذه الأرض مخصصة رسميا للشرطة أو لأى جهة أخرى، و وجود قشلاق السجون هناك كان بوضع اليد فقط إذ لا توجد شهادة بحث أو ما يثبت تبعية هذه المساحة للسجون أو الشرطة. وأول تخصيص رسمي لهذه المساحة هو الذي تم في العام 1993م من رئاسة الجمهورية في أول حفل تخريج تقيمه جامعة النيلين بإستاد الخرطوم. ثالثا: بعد عامين من الآن تقريبا (2018م) تبلغ جامعة النيلين 25عاما من عمرها (أي يوبيلها الفضي) ما دفع إدارتها الحالية للترتيب لهذا الحدث، والذي أرادت أن تجعل منه قفزة نوعية تحدث تحولا جوهريا ليس لجامعة النيلين وحدها وإنما على مستوى التعليم العالي في البلد والمنطقة عموما. وكانت الخطوة الأولى هي توظيف المساحات الخاصة بالجامعة بعد تقنينها في هذه العملية الكبيرة. وبالفعل شرعت الإدارة ممثلة في شخص مديرها البروفيسير محمد الأمين أحمد ونائبه البروفيسر طارق عباس بخيت وبروفيسير الهادي آدم وكيل الجامعة في تحركات واسعة على مختلف الأصعدة والمستويات أثمرت مكاسب حقيقية شهد عليها الجميع. فقد حصلت هذه الإدارة على تمويل بشراكة سعودية لغرض إعادة بناء وتأهيل الجامعة لتكون على طراز الجامعات العالمية، من حيث المباني والمكتبات والمعامل والتأثيث والبيئة الجامعية وخلافه. وسمحت هذه الشراكة بأن تكون الجامعة وكيلا حصريا لأعمال الطرف السعودي في السودان في المؤسسات الأكاديمية أو الإستثمار في المنشات الهندسية الحديثة وكذا تاسيس و تمويل فرع لجامعة النيلين فى المملكة العربية السعودية وهكذا. رابعا: هذه المجهودات والمشروعات التي أفرزتها هذه الشراكة وجدت مباركة وترحاب من أعلي قمة في الدولة وشجعتها بخطوتين مهمتين: الأولى هي رعاية النائب الأول لرئيس الجمهورية (الفريق بكري حسن صالح) لبرنامج اليوبيل الفضي بالكامل، والثانية تأكيد رئيس الجمهورية على القرار الصادر في العام 1993م بخصوص المساحات الواقعة في حرم الجامعة بتبعيتها للجامعة وتوجيهه للجهات المعنية بإكمال إجراءات تقنينها مثل شهادات البحث وغيره وهو ما حدث فعلا. أهم من ذلك هو زيارة الطرف السعودي في الشراكة (الأمير محمد بن سلطان بن ناصر) المشار إليها للسودان ومقابلته لرئيس الجمهورية ونائبه ووزير المالية ووزيرة التعليم العالي و......إلخ، الذين أثنوا جميعهم على هذه الشراكة الكبيرة، وعلى إثر ذلك قام الأمير محمد بن سلطان بوضع حجر الأساس لمشروعات اليوبيل الفضي في إحتفال كبير بمسرح جامعة النيلين بحضور وزير الدولة بالتعليم العالي والبحث العلمي وعُرضت فيه (أي الإحتفال) صور المجسمات المزمع إنشاءها خلال العامين القادمين. هذا الحراك أعطى دفعة معنوية كبيرة لكل مجتمع جامعة النيلين ومنحهم الثقة في القدرة على القيام بأعمال كبيرة رغم الظروف الصعبة التي يعيشونها وتعيشها البلد عموما. إلا أن هذا التفاؤل سرعانما إنقشع بصدور قرار جديد من ذات الجهة (رئاسة الجمهورية ومجلس الوزراء) في أقل من ثلاثة أشهر، يلغي القرارالسابق والساري منذ العام1993م بتبعية هذه المساحات لجامعة النيلين، وفي نفس الوقت يقوم بتخصيصها لإدارة الشرطة، الأمر الذي أصاب الجميع بالحيرة والإحباط ولف الأذهان بإستفهامات كبيرة عن كيفية إتخاذ القرار في الدولة. الغائب المشترك الأعظم فى ملف أراضى حرم جامعة النيلين التى نازعتها فيها إدارة الشرطة هو وزارة التعليم العالى و البحث العلمى فى شخص الوزير د. سميه أبو كشوة و بقية طاقم الوزارة . فوزارة التعليم العالى هى أهم حلقة من حيث الصلة و السند فى مثل هذه الظروف بين اى جامعة سودانية و مركز القرار فى الدولة، إلا أن وزيرتنا و من حولها قد آثروا صمت القبور و دفن الرؤوس تحت الرمال و كأن الأمر لا يعنيهم فى شئ، ربما خوفا على منصب زائل لا محالة أو رغبة فى قتل الطموح أو موقف شخصى لشئ فى نفس يعقوب...... ربما و ربما . المهم فى الأمر هو أين تكمن المصلحة العامة سواْء خُصصت هذه الأراضى للشرطة أو لجامعة النيلين، لأن هذا هو المعيار الذى ينبغى أن توزن به الأمور دونما ميول أو عواطف. فكلا المؤسستين محل تقدير و إحترام لدى عامة أهل السودان، و مدخل الأهواء و العواطف يصرف الأمور إلى معترك أدواته اللاموضوعيه و ضيق الأفق على شاكلة ما ذهبت إليه منى أبو العزائم تنطعا و تطاولا على جامعة كبيرة مثل جامعة النيلين على رأسها أساتذة أجلاء محترمين. للإجابة على هذا السؤال لابد أن نعيد للأذهان دواعى صدور قرار سنة 1993م فى إستاد الخرطوم بتبعية كل الأراضى الحكومية التى تقع فى حرم جامعة النيلين للجامعة بعد سودنتها من فرع جامعة القاهرةبالخرطوم. ومجرد تخريج الدفعة الأولى كان حدثا له مدلولات أهمها أن هذه الجامعة قد حجزت مكا نها مبكرا فى منظومة التعليم العالى و البحث العلمى السودانية كمؤسسة راسخة و رائدة . و ذلك كان دافعا قويا للإدارات المتعاقبة للتخطيط بأفق إستراتيجى و بخطوات متدرجة حولتها من ثلاث كليات نظرية إلى عشرين كلية فى جميع التخصصات، و إرتفع طاقمها التدريسى لأكثر من ألفى عضو هيئة تدريس، فضلا عن عشرات الألاف من الطلاب النظاميين أو الانتساب أو الدبلومات التقنيه أو الدراسات العليا . هذا الإنجاز مهما قيل فى حقه، فهو سلسلة من المجهودات المخلصة ما بين الإخفاق هنا و الإصابة هناك و التى من خلالها إكتسب السودان جامعة لها و جودها و حضورها الأكاديمى و البحثى و السياسى و لها صيتها الإقليمى و حضورها فى المحافل العلميه العالميه . و فى منعطف اليوبيل الفضى للجامعة العام 2018م خططت الإدارة الحالية لجامعة النيلين لبناء مجمع الكليات الطبية (الطب/الصيدلة/العلاج الطبيعى/الأسنان/المختبرات) و مجمع العلوم التطبيقية و الهندسية فى المساحة الواقعة فى حرمها و التى خُصصت لها سلفا منذ أكثر من عشرين عاما. و قطعت فى هذا المشوار خطوات عملية إطلعت عليها دوائر القرار فى الدولة كلها و شجعتها من خلال زيارة سمو الأمير محمد بن سلطان بن ناصر فى الفترة 25- 30 مارس 2016م الماضى و لقائه برئيس الجمهورية و بالنائب الأول لرئيس الجمهورية فى حضور وزيرة التعليم االعالى، و لقائه بوزير المالية ثم لقاء وزيرة التعليم العالى و مدراء الجامعات و المدير العام لبنك فصيل و وزير الارشاد و الأوقاف و أيضا بإدارة الصندوق القومى للطلاب و بوزير الدولة بالإستثمار و كذلك بعدد من رجال الأعمال السودانيين قبل أن ينتهى الأمر بتوقيع إتفاقيات الشراكة مع جامعة النيلين بهدف تنفيذ مشروعات اليوبيل الفضى و بوضع حجر الأساس بعد معانية المساحات. و أصدر توجيهه بعد ذلك لشركات التصاميم المعدنية بالبدء فى نقل المواد اللازمة للبدء فى تنفيذ المجمعات المذكورة، و تنفيذ مشروعات أخرى مستقبلية. هكذا يكون قرار رئاسة الجمهورية بنزع هذه المساحات من جامعة النيلين بغض النظر عن جهة تخصيصها، قد نسف مجهودات كبيرة واعدة و مبشرة ليس للجامعة وحدها وإنما للبلد عموما . فأن تحدث جامعة ما طفرة بهذا القدر يشكل دفع للآخرين و رافعة للجامعات الأخرى فى ذات الاتجاه و بالتالى تستحق السند و التشجيع عليه. هذا ناهيك عن التشوه الذى سوف يحدثه تداخل الوجود الشرطى مع الوسط الأكاديمى الجامعى .إذ لأى منهما طبيعته و طريقته و بالتالى بيئته التى لا تنسجم مع مثل هذا التداخل المربك . قبل هذا و ذاك فإن مصداقية صانع القرار السودانى المهزوزة فى ميادين و أوساط كثيرة ستواصل إهتزازها سقوطها و تنضاف دليلا جديدا على الصورة المطبوعة فى أذهان الأوساط الاقليمية و الدولية عنها . أخيرا فإنه من المستحيل أن تُبعد جامعة النيلين عن موقعها هذا [لى أى مكان آخر، و من المستحيل أيضا أن تستمر بوضعها هذا إذا كان المطلوب منها أن تتطور و تتقدم . و بالتالى فليس هنالك أعقل و أعدل من أن يُنظر للأمر من زواية ما يخدم البلد و ناس البلد جمعيهم مواطنين و أولياء امور و طلاب و شرطة و حاكمين محكومين. فالرجوع عن الخطأ إلى الصواب يتطلب شجاعة فى مواجهة النفس ليتها تتوفر فى صانع القرار السودانى. -إنتهى-