فاز أحد أصدقائي القصَّاصون بجائزة معتبرة، عن مجموعة قصصيَّة شارك بها في مسابقة من المسابقات الأدبية. كانت الجائزة عبارة عن مبلغ 8 آلاف دولار، وهي كافيَّة لإخراجه من دائرة الفقر التّي كانت تحيط به.. فكَّر صديقي القاص، بكل جديَّة، لمضاعفة الغنى الذي أصابه؛ فكان واقعيًّا، وافتتح مطعمًا لبيع المأكولات الشّعبيَّة، متتبِّعًا أثر موجة الاستثمار في المطاعم التّي انتظمت البلاد، لكنه سرعان ما وقع فريسة للصدمة والذهول فورًا. يقول: "كل شيء كان مُعقّدًا... لقد تهدّم الحلم بسرعة.. لكن لازالتّ هناك مشاعر نبيلة ونوازع ضغط في أن ينهض (بنك الطعام) الذي حلمت به من جديد". لا يمكن ملاحقة الضمور الاقتصادي بالإحصاءات والأرقام؛ وحتى الآن، تبدو الأرقام غير مضبوطة، وضبابية في أحسن الحالات، حول التّضخم الذي أعقب الإعلان عن تحرير سعر الصرف في نوفمبر الحالي، لكن كل شيء يتبدى جليًّا في ما تعكسه وجبات الشّوارع، وتدلل عليه السّلع الاستهلاكيّة المعروضة في الأماكن الشّعبيّة العامة، ربما غدت هي الأقدر على الوقوف على الحالة الاقتصادية الأكثر إرباكًا اليوم! فبالنسبة لوجبات الشّوارع الأكثر رواجًا، فإنَّها وجبات موغلة في الشّعبية، وفقيرة من حيث قيمتها الغذائيَّة، وتخلو صناعتها من أي إبداع وجاذبيَّة مقنعة، مقارنة بمثيلاتها في بقية مدن العالم التّي تحظى باقتصاديات معقولة الازدهار.. لكنها، قبل كل شيء، هي جزء من الخيال والموروث الشعبي واجب الاحترام. وفي كل الأحوال، تجد هذه الوجبات زبائن كثرا رغم فقرها؛ لأنها استثمار في الرّغبة الصغيرة التّي تبدأ في المعدة وتهدد بالتّزايد، أكثر من كونها وجبات ترفيهيّة، كما تصوِّرها تقارير المنوعات الصحافيّة، وفي الغالب، يلجأ الناس إليها لسد فراغ وجبة سقطت قسرًا من يومهم، وبات من المستحيل أن يتمتع الأشخاص، هنا، بوجباتهم كاملة، خاصة في دأبهم لمحاورة الأمور الحياتية التي تجعلهم بعيدين عن المنازل لساعات طويلة، خاصة فئات العمال الذين يحتاجون لوجبات يسدون بها وطأة الجوع. ويذكر أحد تقارير الجهاز المركزي للإحصاء، 2009، أن نسبة الفقر في السودان في تزايد مضطرد، ووفقًا لتقديرات المسح القومي للبيانات الأساسية للأسر، قدَّر معدَّل الفقر القومي ب 46.5 %، وفي ريف وحضر ولاية الخرطوم بين 26% و22.3% و41.1%، كما أن متوسط استهلاك الفقراء في العاصمة المثلثة أكثر من الثلث بقليل (35%). يقول القاص صاحب المطعم، أحمد أبو حازم: "تجولّت في أطراف المدينة القصية، بحثًا عن سرديات كنت أظنها تنام وتصحو على الإدهاش، ولكن، في الحقيقة، باء ظني بالخسران؛ فكل ما كنت أعتقد أنه خيالي محض، وجدته واقعيًا يمشي على قدمين"! كان أبو حازم يتحدث ل(اليوم التّالي) عن أشكال الطعام في المناطق الطرفية من العاصمة، ويضيف: "كل ما رأيته، لا يعدو كونه مراوغة صريحة للجوع المصطخب في البطون الخاوية، ومخاتلة بيِّنة، لا يكسوها ضباب، للمسغبة الطاعنة بخناجرها الحادة". إذا كان أبو حازم يتحدث عن الأطراف البعيدة، فكيف تكون أشكال الأطعمة في مركز العاصمة، بالقرب من أماكن نشاط الانتلجنسيا المتحكمة في القرار؟ نقصد بمركز العاصمة الرّقعة التّي تشبه حدوة الحصان، وقد أخذت هذا السّمت منذ أن بنى الأتراك الخرطوم، والآن يلفُّها الشّارع المتدلي من كبري بحري، شرق جامعة الخرطوم مباشرة، ويمر بالقرب من القيادة العامة، ثم ينعطف مارًا بمستشفى الخرطوم حتى موقف المواصلات العامة، جاكسون، ثم يواصل مروره حتى يقترن بالنيل مجددًا عند نقطة حدائق 6 أبريل؟ ففي هذه الحدوة توجد الغالبية العظمى من مؤسسات الدّولة، وتمثل "الرّأس الكاسح" بتعبير المفكر المصري، جمال حمدان. فهنا، أيضًا، ليس للشهية متسع ومتنزه، كما ليس للمزاج براح يتمدد عليه؛ فتتعدد الخيارات انصياعًا لهذا المزاج، إنما الفقر والعوز والحاجة الملِّحة لتفتيت ربقة الجوع الطاحن. ففي هذه الحدوة، يقدِّم المئات من الباعة الجائلين، من الرّجال والنساء، وجبات أطعمة ومأكولات متواضعة، قوامها (تبش بالشّطة، منقة بالشّطة، بليلة العدس الحمراء، الباكمبا المصنوعة من الدّخن، والزلابيّة بشاي اللبن... إلخ) مع أكواب الشّاي والقهوة. وتزاحم، إلى حد كبير، الوجبات الشّعبية، مثل (الكسرة بالملاح)، التّي أخذت تتراجع بوتيرة عالية، نظرًا لكلفتها العالية مؤخرًا، وربما بدا هذا الوضع سخرية صريحة، ومباشرة، من الدّراسة التّي أعدّتها وزارة الرّعاية الاجتماعية، هذا العام، وقالتّ فيها إن نسبة الفقر تراجعت إلى 28 بالمائة، مقابل 46 بالمائة في العام، 2009. لكن نهلة محكر، المهتمة بالثقافة الغذائية، تهمل المؤشر الاقتصادي، وتدعو، في الوقت نفسه، إلى أن يُنظر إلى وجبات الشوارع السودانية في كونها "إعادة لإنتاج وتسويق الأطعمة المحلية، مثل المدائد والأقاشي والسِّلات"، وتشير إلى أن مجموعة من السّياح يبحثون، خصيصًا، عن أكل الشوارع، وعن كل ما له خصوصية في المدينة اليوم التالي