هذا باب في صلة الطعام بالهوية الإجتماعية والسياسية ، وليس له صلة بالهوية الايدلوجية كما حاول عادل امام في فيلمه المشهور "الإرهاب والكباب".لأهل السودان حيل واسعة في ذم حالة التعلق بالطعام وليس الإطعام وإطالة الجلوس في مواضعه والتفكر في صفاته ونكهاته ومذاقاته وطرائق طهوه، ويعدون التعلق بسيرته من مسقطات المروءة،وتجري الأمثال العامة في ذم هذا الضرب مثل القول المنسوب الي الحكيم الشعبي ود تكتوك وهو في مقام التوجيه واسداء النصح:"أكل أكل الجمال وقوم قبل الرجال".لذا فإن معظم قبائل السودان المشهورة بالفروسية والطعان تتغزل في الشاي وتتفنن في القول الساجع تمجيدا لمشربه وشاربه، ولكنها تنفر من ذكر الطعام في أغانيها إلا في المناحات مثل حليل موسى الذي من مناقبه أنه لا يأكل الملاح أخضر ولا يشرب الخمر يسكر. البعض يرد ذلك الي بيئة الفقر والمسغبة في السودان التي لم تشتهر بتعدد أنواع الطعوم،رغم أن الأرض خضراء بفومها وعدسها وبصلها ولكن.والبعض يصرفها الي ثقافة الزهد الصوفية التي تستكثر القليل، ولم يقع طعام أهل السودان موقع حسن عند بعض زائريه مثل الدكتور محمد حسين هيكل صاحب كتاب "عشرة أيام في السودان" الذي وصف الكسرة بأنها من أقبح أنواع الطعوم.قال بن خلدون إن بياض اسنان اهل السودان يعود الي كثرة الريق والتفل من سوء الهضوم.وهذه محاولة باكرة من بن خلدون لتقديم تفسير موضوعي لبياض اسنان أهل السودان مقارنة بسمرة جلودهم ولكن طاش سهمه فيها. كانت النكتة لاذعة والسيدة السودانية البدينة تمارس كل تلصصها الأنثوى وهي تنصح البريطانية الزائرة أن تتناول كوبا من (العكارة) الطازجة حتي تفرهد عجيزتها في فضاء السودان الواسع. وكانت السيدة الأوروبية الفرعاء كلما تناولت جرعة نظرت خلف ظهرها لتري المفعول الآني لتلك الوصفة السحرية. وهي ذات ما وقفت عليه السيدة الفرنسية الزائرة الي السودان وهي تنظر الي مضيفيها يقومون ويقعدون لمدة خمس ساعات يعدون مائدة الغداء، وما أن أكملت المائدة زينتها وتراص الجمع العرمرم حولها حتي تركوها قاعا صفصفا في خمس دقائق، فقالت السيدة الفرنسية متعجبة كيف تعدون طعاما يستغرق خمس ساعات من الجهد والطهي والتزويق وتأكلونه في خمس دقائق؟.وما درت هذه السيدة أن الطعام عند السواد الأعظم من أهل السودان لسد الرمق وليس للتلذذ وتأمل المذاقات رغم شهرة نساء ام درمان ودارفور في احسان ضروب من صنع الطعام البلدى.و أهل السودان في الظن الراجح لا يحسنون حديث الموائد ربما لسليقتهم البدوية وهو كما قال العقاد يجب أن يكون هامسا خفيضا وهادئا رشيقا لا يصحبه ضجيج من حمي الجدل ولا نفور مستغرق في مهيجات الحديث ولا قهقهة تجعل الفم فاغرا مرتجا. كتب الدكتور مأمون فندى استاذ العلوم السياسية بجامعة جورج تاون بواشنطون عن قصة حواره مع سيدة امريكية كانت تجاوره في جلسة حوار مع الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك بواشنطون في صيف عام 2001 وقالت له أنها استمتعت في آخر زيارة لها الي تل أبيب بطبق أسرائيلي شهي وصحي يسمى (فلافل) فقال لها هائجا مائجا"ربما اسكت عن ممارسات إسرائيل للحظة انما اسكت في مسألة الفلافل فتلك قضية تسل فيها السيوف لأن الفلافل طبق عربي" فقالت له لا عليك ربما يكون طبق قدمه اليهود العرب الي المنطقة. وبالفعل فقد أظهرت دراسة أجراها الإتحاد الأوروبي عام 2010 أن الطعام يمكن أن يكون افضل وسيلة للتسامح والتقريب بين الثقافات مشيرة الي أنه يعتبر عملية اجتماعية ذات مظهر ثقافي وليس سلعة مادية تباع وتشتري في سوق العرض والطلب. وفي هذا السياق يقول مايكل ديتر في كتابه "الطعام، الهوية والإستعمار" إن الطعام وعوائد الأكل والمشرب من الأدوات التي استخدمها المستعمر في تغيير هوية الشعوب،وهو وإن كان له دور في تقوية عملية الإندماج الإجتماعي، فهو أيضا يمكن أن يصنع طبقة ترتبط بالمستعمر في تشبهها بسلوكه ومأكله ومشربه وبالتالي فكره وسياسته. سلطت صحيفة النيويورك تايمز هذا الأسبوع الضوء علي قضية "الكباب والهوية السياسية في فرنسا"،مشيرة الي أن التيار اليميني في الجبهة الوطنية الفرنسية يواصل هجماته علي مطاعم بيع الكباب في فرنسا بإعتبارها مهددا للهوية العلمانية الفرنسية، لأن الكباب أصبح في فرنسا رمزا للشرق ولمجتمعات المسلمين المهاجرة. وأندلعت ظاهرة (الكبابوفوبيا) كما وصفتها الصحيفة عام 2013 بواسطة اليمين المتطرف أثناء الإنتخابات المحلية وأنتخابات البرلمان الأوروبي.وقال روبرت منراد أحد المرشحين لمنصب العمدة في أحدي المدن الفرنسية أنه لا يستطيع أن يتخيل فرنسا عام 2047 حيث سيسود الحجاب وسيحل الكباب محل الطعام الفرنسي التقليدي من خبز (الباقيت).وقال إن أفتتاح أي محل لبيع الكباب في فرنسا يعتبر عرضا مفتوحا للحجاب واللحي كأحد أبرز المظاهر الإسلامية. علي نهر اللور في مدينة بلوي قال سكرتير الجبهة اليمينية إن محالات الكباب أصبحت تنتشر في قلب المدينة الذي يمثل تاج فرنسا التاريخي حيث عاش أكثر من عشرة ملوك وعدد من الإميرات، مشيرا الي أن ذلك يلوث هوية فرنسا التاريخية. علي عكس هذه الصورة تماما فأن الكباب الذي يطلق عليه (جايرو) في أمريكا لا يجد حظا من الشعبية مثل فرنسا، لأن الطعام يعتبر سلعة مادية للبيع والشراء ولا يرتبط بأي هوية أجتماعية أو دينية مثل فرنسا التي أصبح يمينها المتطرف يحارب محلات بيع الكباب لأنها تعتبر رمزا للشرق والإسلام،كما يحارب هذا اليمين أيضا نشاطات مجتمعات المهاجرين من الشرق الأوسط الذين يعانون من ضيق مساحة التعبير عن ثقافتهم في الفضاء العام الفرنسي لتعارض توجهاتهم الروحية مع التراث الثقافي لفرنسا وهويتها العلمانية القحة.لقد أكل الفرنسيون 300 مليون ساندويتش كباب خلال السنة الماضية في أكثر من 10 ألف محل ليحتل المركز الثالث من حيث الإستهلاك والشعبية بعد مطاعم الهامبيرغر والبيتزا لسهولة إعداده ورخص سعره. وعلي عكس فرنسا فإن محلات (دونر كباب) التركية أصبحت جزءا من هوية ألمانيا الجديدة، وهي تكابد الإنفتاح لإستيعاب ثقافة الأقليات الناهضة.هذا رغم الحملات الإحتجاجية المكثفة لليمين المتطرف ضد الوجود الإسلامي في ألمانيا الأمر الذي أدانته الحكومة برئاسة المستشارة ميركل ووصفته مجلة دار اشبيغل بأنه يمثل نهاية لحقبة التسامح في ألمانيا إذا اضطرد بتلك الوتيرة.. في السودان، فإن خارطة الطعام التي تختزن شفرة التنوع الثقافي والثراء الإجتماعي تكاد تعبر عن نفسها في بعض الأطعمة مثل (القراصة في الشمالية، والعصيدة في دارفور، والكسرة في الجزيرة والسلات في الشرق) وهي كلها أطعمة سودانية بحتة. ولكن ما يهم في هذا الجانب هو انتشار الأطعمة الدخيلة في الحزام المدني والحضري، حيث غزت (الشاورمة) الذوق السوداني وهو طعام من منتجات الثقافة والمطبخ العربي وهو النسخة العربية المقابلة للكباب والدونر التركي،وقد أشتهر بها مؤخرا أهل سوريا والشام بعد تدفقهم الملحوظ جراء الأزمة الراهنة الي السودان. وفي المقابل يشهد (الأقاشي) بسمته الأفريقي كسادا في سوقه بعد رواج. فهل الشاورمة والأقاشي يقتسمان الذوق السوداني في الطعام الحضري وهما وجهان لعملة تلازم الهوية الأفروعربية في أختيارات الطعام السوداني.تشتهر كتب (سيسيلوجيا التذوق) بقولها قل لي ماذا تأكل أقل لك من أنت؟. وفي ظني أن زيادة قاعدة مستهلكي السمك في السودان يعتبر عودة الي الهوية النيلية هذا في بعدها الثقافي، أما في تجليها المادي والإقتصادي فهي ردة فعل علي غلاء اللحوم الحمراء وربما استشعارا لخطر تزايد الأمراض المرتبطة بالضغط وارتفاع نسبة الكلوسترول. يقول بوشانت شاكربوتري من جامعة مومباي بالهند في ورقته عن "الهوية واكل السمك" أن البنغال يعتبرون أن أكل السمك وقصائد طاغور والنزوع اليساري في السياسة من ممسكات هويتهم الجمعية. إن أنتشار محلات المأكولات السريعة دليل علي تحول في الهوية بالنزوع الي الفردانية والتخلي عن الجماعية في الأكل التي كانت أحد أهم سمات أهل السودان.كما غاب الطبق الشعبي الرخيص المتاح لكل الشعب مع المتغيرات الإقتصادية الطاحنة، وغاب التنوع في المائدة التقليدية للأسرة السودانية نسبة للأوضاع الإقتصادية المتدهورة، حيث أنزاح الفول من مكانه كطبق شعبي رخيص ومتاح ويعبر عن الهوية الجمعية من حيث تشاركية الإطعام وحلت محله تدريجيا منتجات المأكولات السريعة، وكما قال الدكتور التيجاني عبدالقادر فإن عبقرية الشعب المصري جعلت من الكشري طبقا شعبيا رخيصا ومتاحا للجميع، ولكن فشلنا في جعل الفول بمثابة الطبق الشعبي الأول. الخوف كل الخوف أن تتحول ثقافة الطعام في السودان الي تعميق الفوارق الطبقية بين من يملكون ومن لا يملكون، فقد كان الطعام في أرث أهل السودان وسيلة للتقارب والتسامح والتضامن والتكافل الإجتماعي ولم يكن وسيلة للتمايز الطبقي والفرز الإجتماعي. لقد امتلك أهل التصوف قديما قلوب المريدين والعارفين بحسن التدين،وطلب الحقيقة والزهد والطين والعجين،والمساواة بين الناس. ولكن أصبح لبعض أهل التصوف ابواب متفرقة. باب للفقراء وباب للأمراء.الأول اضيق مدخلا واوسع مخرجا، والثاني أوسع مدخلا واضيق مخرجا.