تحكي الأسطورة الألمانية أن سكان مدينة هاملن الصغيرة ، عانوا معاناة قاسية من الفئران ، فاتفقوا مع رجل له مزمار سحري أن يخلصهم من تلك الآفة التي أقضّت مضاجعهم ، لقاء عائد مادي مجز ، وقد كان ، و عزف الرجل مقطوعة سحرية بمزماره المميز ذاك ، فتبعته كل فئران تلك المدينة إلى خارجها ، و بعد عودته مطالباً بالمبلغ المتفق عليه ، تقاعس أهل المدينة عن جمع المبلغ ، و تركوه صفر اليدين ، فغضب الرجل أيما غضب ، و قرر أن ينتقم من أهل المدينة الذين غدروا به ، و حنثوا عن الاتفاق المبرم معه ، فما كان منه إلا أن حمل مزماره و عزف لحناً ملائكياً أخذ بألباب كل أطفال المدينة ، و سار بهم فتبعوه إلى ما وراء الجبال ، و لم يعودوا إلى مدينتهم أبداً . عندها ، تلقن أهل المدينة درساً تاريخياً قاسياً ، و صارت قصتهم أسطورة يحملها الزمن ، و سمي الرجل زمَّار هاملن - ( Piper of Hamelin ) . قرأت هذه القصة و أنا في المرحلة الابتدائية في ليبيا ، حيث كنت مغتربا مع والدي ، و قد أتاحت لي ظروف الإغتراب و الهجرة المتواصلة ، أن أزور مدينة هاملن صيف العام 2008 للقاء أحد الأصدقاء ، هو الطبيب عبد المنعم سليمان ، و هو من أبناء مدينة الجيلي شمال الخرطوم ، و قد كان يعمل في أواخر سنوات تخصصه في الجراحة العامة ، في مدينة هانوفر ، و كان قد سبق و أتم دراسته الجامعية للطب في المانيا أيضا ، كما و عمل بعدها في العديد من مستشفيات المنطقة ، حتى استقر به المقام في تلك المدينة الوادعة . و بزيارتي لتك المدينة ، عادت إلي ذكريات الطفولة بشدة و انا أشاهد تمثال زمّار هاملن حاملاً مزماره ، و تتبعه مجموعة من الأطفال . بعد فترة من ذلك اللقاء، و بعد أن أكمل الدكتور عبد المنعم تخصصه كجرّاح ، قرر العودة إلى السودان بعد أن استطالت غربته ، و عند عودته ، مضى قدما في إجراءات التسجيل في المجلس الطبي السوداني لنيل الترخيص لمزاولة المهنة . الأمر المحزن ، هو التعامل الفظ الذي تلقاه من بعض موظفي المجلس الطبي ، خاصة من أحدهم ، حيث أنه و أثناء نقاش حول تفاصيل الحصول على الترخيص ، قام هذا الموظف برمي ملفّ أوراق دكتور عبد المنعم على الأرض استخفافاً ! قائلاً له : و هل أرسلنا لك دعوة كي تأتي إلى هنا ؟!! و لو لا أن صديقي عبد المنعم شديد التهذيب ، لحدث ما لا يحمد عقباه . خلاصة الأمر أنه وضعت في طريقه كمية ضخمة من العراقيل التي تركته يعزف عن مسالة العودة إلى السودان برمتها ، خاصة بعد أن طلب منه العمل لمدة سنة كاملة تحت التدريب ، و من دون مرتب في وزارة الصحة . لاحقاً علمت أن هذا الأسلوب أتبع مع زملاء آخرين ممن تخصصوا في هولندا و السويد . بالطبع مسألة الحصول على ترخيص مزاولة المهنة أمر مطلوب ، و معمول به في كل دول العالم للتحقق من الشهادات العلمية ، و على مرّ الزمن كان الأخصائي العائد من الخارج إلى السودان يخضع لفترة تدريب عادية لمدة ثلاثة أشهر يمكن تمديدها نادراً إلى ستة أشهر ، يتحصل بعدها الأخصائي على ترخيص مزاولة المهنة ، كي يقوم بخدمة بلده ، الغرض من فترة التدريب ، التأقلم و التعود على النظام الصحي المتبع في السودان ، و التعمق في علاج الأمراض الاستوائية ، و التدرُّب على التعامل مع تبعات بعض الممارسات الاجتماعية ، و من بينها علي سبيل المثال بعض العادات الضارة ، كعملية التشويه الجنسي عند الإناث ( المسماة جهلاً طهارة ) !. أعقبت سياسات التضييق على الأطباء و منذ مجيء الإنقاذ إلى سدة الحكم في السودان ، أزمة كبيرة متمثلة في إفقار المعرفة التراكُمية في المجال الصحي ، فإبان دراستي في بولندا في نهاية الثمانينيات ، كان هناك مجموعة من الأطباء المبتعثين من قبل حكومة السودان للتخصص ، و كان تمويل التخصص في الخارج يأتي عبر هيئة التدريب ، و هي هيئة حكومية تقوم بتفريغ من خدموا في الدولة ، و بمعايير صارمة لإبتعاثهم إلى خارج السودان ، و كانوا يحصلون على علاوات نقدية معينة تُحولُ بالدولار إلى البلدان التي يتخصصون فيها ، و هو يمثل استقطاع جزء من رواتبهم ، و الجزء الآخر يتم تسليمه لذويهم ، أو يوضع في حسابات خاصة بهم بالجنيه السوداني ، و على ما أذكر ، كانت علاوة الاخصائي تحت التدريب حوالي خمسمائة دولار شهرياً ، و تكون لمدة أربعة أو خمسة سنوات ، يعود بعدها الأخصائي كي يعمل إلزامياً في مستشفيات وزارة الصحة الحكومية ، لمدة ثلاثة سنوات على الأقل كي يوفي دينه على الدولة التي تكفلت بنيله الدرجة العلمية . لكن نجد أن هذه الخبرات و هذا التبادل العلمي قد توقف نتيجة لسياسات الإنقاذ المعادية للأطباء ، فآثر الكثير منهم عدم العودة إلى الوطن ، خاصة و أن سيف الفصل للصالح العام مسلط على الجميع بإستثناء أصحاب الولاء ، و من ناحية أخرى فقد أوقفت حكومة الإنقاذ و متنفذيها تحويل العلاوات الشهرية للكثير من المهنيين في المجالات المختلفة و الذين لا يرتبطون بالحزب الحاكم ! فقد شهدت بأم عيني عدة مبعوثين في بلدان الغربة ، تتأخر علاواتهم لعدة أشهر ، و يمرون بظروف قاسية من تراكم ايجارات المنازل التي يقطنونها ، مما جعلهم في أوضاع صعبة ، هم و أُسرهم في غربتهم تلك ، فكانت النتيجة أن تعثر تحصيلهم العلمي ، و استطالت فترات دراستهم بسبب التضييق المالي ، بل إن البعض منهم قد تم فصلهم للصالح العام أثناء فترة دراستهم ، و تم إرسال خطابات الإحالة للصالح العام لهم عبر الملحقيات الثقافية ، كي تتخلص السلطة من عبئهم ، و ترفع يدها من التزامها المادي تجاههم ، فكانت حقاً تجارب مريرة للكثيرين ، حيث أصبحوا بين ليلة و ضحاها من دون رواتب أو أي سند مالي أثناء فترة دراستهم التي يفترض فيها توفر الاستقرار الذهني و المادي الذين يساعدان على التحصيل العلمي و التميز فيه. قبل عدة سنوات حاول قائد الانقلاب العسكري عمر البشير السفر مستشفياً إلى الأردن ، و كانت حينها علاقات السودان متوترة جداً مع معظم الدول العربية ، و كان أن قوبل طلبه بالرفض ، وتكتمت السلطات على ذلك الرفض ، بعدها حاول البشير السفر متلصصاً في طائرة خاصة لإيران لأغراض غير معروفة ، و قامت سلطات المملكة العربية السعودية بإعادة الطائرة إلى الخرطوم لعدم استيفائها لشروط العبور المعمول بها دولياً ، ثم بعد أن ساءت حالته الصحية ، إضطرت الحكومة إن ترسل في طلب أطباء عظام سودانيين لعلاج البشير في السودان ، حيث استنفرت كل الموارد الممكنة لتحويل غرفة العمليات في مستشفى رويال كير في الخرطوم كي ترتقى لمستوى سلامة شخص يمكن أن يؤدي موته إلى فوضى عارمة في البلاد ، و ارتباط مصالح الكثيرين ببقائه على قيد الحياة ، و لسخرية القدر ، فقد تمت الاستعانة بذات الأطباء و الأخصائيين السودانيين الذين شردتهم سياسات حكومة الإنقاذ الخرقاء في منافي الأرض المختلفة ، و قام الأخصائيون السودانيون القادمون من دولة خليجية بعملية استبدال مفاصل ركبة الرجل على أكمل وجه ، و إستعاد البشير توازنه من جديد حقيقةً و مجازاً . و ربطاً لما آل عليه الحال الصحي في بلادنا المنكوبة كنكبة مدينة هاملن ، ففي الأسبوع الماضي ، تلقيت خبرين مؤسفين بنهايتين مختلفتين ، فقدت فارقت أخت زميل لنا الحياة إثر جرعة كينين لعلاج ملاريا مشكوك في صحة تشخيصها ! و ما زاد في فجاعة الحدث ، أنها توفيت و هي في ريعان الشباب ، حيث كانت في الثلاثين من عمرها ، إضافة إلي أنها كانت تحمل جنينا في أحشائها !!؟ الخبر الآخر ، أن والدة زميلة لنا في العمل قد سافرت ، لإجراء فحوصات لتأكيد وجود ورم سرطاني تم تشخيصه في السودان ، و عند إعادة الفحوصات في دولة عربية أخرى ، أخطرت المريضة أنه لا وجود لأي ورم خبيث يستدعي الاستئصال في جسدها ، و على الرغم من الفرحة العارمة التي اجتاحت الأسرة ، إلا أن الأسابيع التي سبقت التشخيص الأخير كانت للأم و أبنائها مؤلمة للغاية. ما يحدث الآن في السودان من إشكالات و أخطاء على كل الأصعدة ، يمكن إرجاعه إلى سياسة التمكين التي انتهجتها حكومة الإنقاذ ، حيث قدمت أهل الولاء على أهل الخبرة ، و حتى إن وصل بعض أهل الخبرة من أهل الولاء لمواقع صنع القرار ، مثل وزير العدل الحالي ، فإنه يقف مكتوف اليدين أمام منظومة فساد سياسي متفلّتة ، اختلست 60% من ميزانية الدواء السنوية في الدولة على رؤوس الأشهاد ، و جعلت من الوزير أضحوكة أمام نفسه في المقام الأول ، و أمام الشعب و البرلمان لعدم قدرته بفتح باب التحقيق في جرائم فساد علنية !!! خلال ال 27 سنة الماضية ، حصلت هجرة غير مسبوقة في الكوادر السودانية في كل المجالات ، و المتابع الحصيف لأخبار السودان ، يستشف ذلك بسهولة ، لكن تبقى قضية العلاج ، هي الأقرب لأفئدة الناس ، لارتباطها بمآس إنسانية ، و فقدان الأهل و الأحبة لأتفه الأسباب . مع بلوغ إبطال المشهد السياسي الحالي من الطغمة الحاكمة أعمارا ً مديدة تستوجب عناية طبية دقيقة و متطورة ، يستبين لمتنفذي حكومة الإنقاذ ، المأزق التاريخي الذي وضعوا أنفسهم فيه ، فمن سيصاب بجلطة قلبية ، أو دماغية فيهم ، و هو في بيته في كافوري ، لن يتيح له الإختناق المروري في كبري المنشية الذي أكلته فئران سوء التنفيذ الهندسي للوصول إلى مستشفى رويال كير في الخرطوم في الوقت المناسب ، كي تُجرى له عملية قسطرة تنقذ حياته !! في ال 30 من يونيو 1989 سلم الترابي البشير مزماراً أيديولوجياً لتنقية المجتمع من المعارضين لفهم الجبهة الإسلامية للدين ، و كان في تصوره أن النوتة الموسيقية التي ألفها للبشير و زمرته من الإخوان المسلمين سترتقي بالمجتمع إلى قمم أخلاقية شماء ، و ستصفي المجتمع من الآفات و ضعاف النفوس ، فاذا باللحن الموسيقي في سيمفونية يونيو 89 يستحيل إلى أنشودة نشاز نفرت منها جموع أبناء السودان البررة فصم آذانهم ذلك العزف الصارخ فآثروا الابتعاد عنه و ما هي إلا وهلة حتى وجد الكثير منهم نفسه في الجهة الأخرى من الجبل مثل صديقي عبد المنعم سليمان الذي حط رحاله في دولة خليجية احترمت علمه و خبرته ، و كلما راوده الحنين إلى الوطن وجد أن لحن يونيو النشاز لا يزال يصم آذان أبناء السودان و هم في صفوف طويلة لمغادرة الديار ، و من خلفهم ترقص كمية هائلة من الجرذان على أرض وطن جريح. أمجد إبراهيم سلمان 24 يناير 2017 [email protected] 0031642427913 Whatsapp