كاتب صومالي من مواليد مقديشو ١٩٨٢م حاصل على البكالاريوس في الجغرافيا من جامعة إفريقيا العالمية ٢٠٠٧م، والماجستير في الدراسات الإفريقية – علوم سياسية من مركز البحوث والدراسات الإفريقية بجامعة إفريقيا ٢٠١٠م برسالة بعنوان "أثر الأزمة السياسية على التيار الإسلامي في الصومال"، له العديد من البحوث والمؤلفات في العلوم الشرعية والثقافية والسياسية لم تر النور، يكتب عن الشأن الصومالي في العديد من المواقع والصحف. صحبتُ النّيل حتى رفض أن أغادرَ من عنده، فلازمتُه مدَّة طويلة، علَّ وعسى أن يأذن لي بالبحث عن مجاهيل الحياة وأسرارها، وتعاريج التجارُب وأثقالها. فقلت له: إني جرَّبتك من خلال المغامرة في البحث عن الحياة، فوجدتُّك، وما أظنُّني سأجد مثلك في السخاء والحِلم والصدق والوفاء، فأذَنْ لي في مزيد من التجارب! فقال لي: قد لا تعودُ إليّ عندما ترى من ورائي خُضرة الغابة وأعاجيبها، ونُضرة الأرض وبساتينها، وعذوبة الهواء ونسماتها، وصَفو السماء ومصابيحها، فوعدتُّه بالعودة وعْدَ الصديق الصادق الوفيّ، فاتجهتُّ جنوبا، – كما اتجه المكتشفون البريطانيون قبل قرون- بحثا عن منابع النيل، و- من ورائه – عن حقيقة الحياة ومنافعها، وعن كدر التجربة وصفائها، فالجالس في بيته لا يأتي إليه الخبر والخبرة واليقين. في عيد ميلادي التاسع والعشرين..وفي مناسبة شهر رمضان المبارك؛ ها أنا أقدِّم لكم المشهد الثالث من مشاهد الحياة، وتقبَّلوا تحياتي مجدَّدا، وكل عام وأنتم بألف خير. جنوب السودان: الدولة البكر وطئتُ بأرضٍ أنهكتها الحروب سنوات عديدة، وأرهقتها الصِّراعات أعواما مديدة، وتطمح إلى تجاوز أزمات عويصة، من بينها الفقر والصراعات القبليَّة وانعدام البنى التَّحتيَّة،.. لقد رقدْتُّ تحت أمطارها المتواصلة، ومشيْتُ على شوارعها المتواضعة، وتجوَّلْتُ في بعض أحياءها المتراكمة، ورأيتُ الأمل في وجوه مجتمعٍ يحاول النهوض والبناء من جديد، ورأيتُ بني صَومال نحوها يتدفَّقون، وكأنهم بالفرح يتبجَّحون، وإلى وطنهم يرجعون، يجلبون إليها البضائع من الميناء المحوريّ الكينيّ، ومن السوق المنغلق الأوغنديّ، يسوقون شاحنات تشبه المركبات الجواري في البحر كالأعلام، ويستفتحون متاجرَ ضخمة وأماكن للطعام، وكأنهم يجهلون – تمامًا- مجيء يوم الحبس والانتقام، ورأيتُ – لهم- الحوالات والصرَّافات، وكأنها دكاكين أهل الشرق والمحلات، ورأيتُ أهل دُثُورهم (!) يسوقون مفاخر العربات، ويستجمعون أكبر عدد للعُملات، ربحوا في أقرب وقت ممكن، واستفادوا من ميلاد آخر بلد محدث. ولقد شهدتُّ يوم الاستقلال، وعكفتُ عشيَّة الاحتفال، محتبسا النَّفس، منتظرا ميلاد بلد النَّفط، ورأيتُ (سلفاكير) يقسم بالصَّليب، ليحافظ على سيادة الوطن ويؤمِّن على المستثمر الغريب، ورأيتُ (البشير) يودِّع البلد الموحَّدْ، ويستلم العلَمَ القديم ويستبدله بالمجدَّدْ، ورأيتُ أعلامهم الجديدة ترفرف في كل مكان، حتى أسطح المنازل والمتاجر وعلى أجنحة الشبَّان، أما النِّيل فيتغيَّرُ من صاف إلى كَدر، ويتحوَّل من بياض إلى صُفرة، هجروا شربه، ثم استبدلوه بمياه معدنيَّة معلَّبة، وبأثمان باهظة مغلَّظة. مدينة جوبا الخضراء جميلةٌ بطبيعتها، غنيةٌ بمواردها، فقيرةٌ ببنيتها، بعيدةٌ بمسافتها، أصبحت عاصمة لأحدثِ دولةٍ في الأرض الزرقاء، وآخر وطن مستقلّ في القارة السمراء، ليس لها منفذ بحريّ إلى الخارج، وقد أصبحت جارة لثلاث دول – مثلها – حبيسة، وهي إثيوبيا وأوغندا وإفريقيا الوسطى، فهي تقع في قلب إفريقيا الإستوائيَّة، وفي أعالي النيل الالتوائيَّة. أوغندا.. حديقة إفريقيا الشرقية عندما تجاوزتُ حدود السودان الجنوبي؛ رأيتُ جنَّةَ الله في أرضه، وعجائبَ قدرة الله في خلقه، رأيتُ حديقة جميلة على مدِّ البَصَرْ، وتلالا مكسوَّة بالنبات الخَضِرْ، وأقواما قصار القامة شِداد البنية، سُود اللون معتمو البشرة، يستجمعون ما تساقط من ثمار المانجو اللَّذيذ، ويبيعونه للمارَّة بأرخص الأثمان، ولم تفارقنا شجرة المانجو حتى توغَّلنا وسط أوغندا، ورأيتُ – لهم – خنازير تميل إلى السّّواد، يرعونها وكأنه الربيب الودود، ورأيتُ الدَّراجات الناريَّة، وكأنها أكثر عددا من الناس والحيوانات البرِّيَّة. وفي كمبالا الساحلية بساحل منغلق؛ رأيتُ النِّيل يُودِّعُني، ويصبُّ في (بحيرة فكتوريا) الكبيرة ويُوحشُني، فيا لها من وحشة بعد أسبوع كامل من الرُّفقة، من الخرطوم إلى كمبالا بآلاف مؤلَّفة من الكيلومترات على الرُّقعة، ثم صلَّيت صلاة جمعةٍ في أكبر مسجد في البلدة، لأخٍ قائدٍ (!) فقَدَ السيطرة والسُّمعة، معمَّر القذَّافي العنيد، الذي أصرَّ على الحرب وترك الرأي السَّديد، ورأيتُ التَّلال تغزُو البلدة، وتحوِّلها إلى عال ومنخفض البنية، ورأيتُ شوارع تلك البلدة ضيِّقة، مع أعداد بشرية هائلة، ودرَّاجات ناريَّة سريعة حائرة، ورأيتُ أسطوانات ألكترونيَّة شرّيرة، مسجَّلة بأفلام إباحيَّة خطيرة، تُباع وتُشترَى في الأسواق كاللِّباس، وتستمْتِع بمشاهدتها بِمَرْأى من الناس، وفي زاوية الأغلبية الصومالية من البلدة؛ رأيتُ شيخًا قذفتهُ الأيام،! وتجاوزتهُ الأزمان، واشتعل رأسه شيبا، جالسا معظم أوقاته في وسط الشباب الأعزل، حوَّلته شجرةُ القات إلى شيخ مجنون، وإن لم يُجَنّ بالمعايير فالجنون فنون، فقلت: من هذا؟! فقيل: هو المسرحي الصومالي الشهير (شيخ عبدُلي) الذي كان يُضحك الناس بلهجته وطرائفه. كينيا.. مركز الثقل في شرق إفريقيا وعندما بلغتُ حدود كينيا الخضراء الجميلة، رأيتُ وكأنني بضاعة مهرَّبة، بأثمان باهظة مكلِّفة، حملوني على متن درَّاجة ناريَّة، ليستودعوني في سيارة صغيرة كينيَّة، فأبعدتني – مخفيًّا- إلى نحو عشر كيلومترات، حتى قلتُ: لقد أمسيتُ أسيرًا في وقت العتَمة والظلمات، ثم سلَّمتني – يدا بيد – إلى الحافلة الرئيسيَّة، والتي – منذ العصر – كانت تقلُّني من العاصمة التِّلاليَّة، ولماذا لم يكن وقد دفعْتُ مائة وعشرين دولارا، بينما الرَّكاب (الوطنيون)(!) دفعوا ثلاثين دولارا، فالسؤال: مَن هو المعزَّز؟، والجواب متروك، ثم وصلتُ إلى نيروبي بحفظ الله ورعايته، ومكثت هناك شهرين وأربعة أيام، وكانت مقصد سفري، ومرمى هدفي، ومركز مرامي وتجربتي، فلنقل عنها شيئا. إنني نزلتُ بأرض طينيَّة ممطرة، وفي ظلّ بنايات شاهقة مسفرة، ومستنقع وَحْلٍ أرهقته أرجل الصوماليين، ومزَّقته إطارات (المتاتُو) للغادين والرائحين، ورأيتُ أموالا طائلة، وتجارة عريضة هائلة، لا توجد في الصومال من الرأس إلى الهاوية، ورأيتُ آلافا مُؤلَّفة، وأرقاما مُضخَّمة، وأمواجًا مهيَّجة، من الشعب الصومالي بكل أطيافه وأنواعه، حتى قلت: لم يبق في الصومال إلا القاتل والمقتول، والآمر والمأمور، والفاعل والمفعول، أعني القائد والعسكري فقط، أما الشعب فانسحب من السَّاحة، وتفرَّج على اللعبة وركَنَ إلى الرَّاحة، ورأيتُ – لهم – فنادق فاخرة تشبه اللؤلؤ والمرجان، فتذكَّرتُ حديث “الحفاة العُراة الذين يتطاولون في البنيان"، ورأيت نساءًا صوماليات تاجرات، يبعْنَ مختلف السلع بالجملة والمتفرِّقات. حيُّ “إسلي" بنيروبي عبارة عن سوق ضخم عريض، ومجمَّع صومالي كبير، ففيها المتاجر والحوالات والصرَّافات، وفيها المطاعم والمدارس ودُور العبادة ومأوى العائلات، فترى عَماراتٍ وطوابقَ متزاحمة، بها يعيش آلاف من الأسر المتراكمة، تلكم الأسر قد استولت على كافة (إسلي) الشرقية والغربيَّة، ثم امتدَّت إلى ما وراء المطار العسكري والأحياء الإفريقيَّة، وسمعتُ – لهم – تصنيف الناس بين أسياد وعبيد، مع أن الخلق كلهم عبيدٌ لله الواحد المجيد، أمَّا هؤلاء فهم الأسياد مع كونهم لاجئين ونازحين، وأهل الوطن عبيد مع كونهم أعزَّة قاهرين، وهذا ما لم أسمعه في أيّ بقعة من الأرض. رأيتُ أصواتا إسلامية مسموعة، وأعلاما كبارا مرموقة، ودعوة (سلفيَّة) مشهودة، وآذانا عن غيرها مقفولة، ورأيتُ (متصوِّفة) متعصِّبة، ولأزيزها وقصائدها متحمِّسة، ورأيتُ (الإخوان) وكأنهم مستضعفون، وبأرزاقهم والكسب مستمسكون، ورأيت أفكارا (حسَّانيَّة) تكفيريَّة، تُنشَر في أوراق مطبوعة تقليديَّة، وتغامر في تكفير جبهات وفصائل إسلاميَّة، فضلا عن قادة قوم في دوائر حكوميَّة، ورأيتُ – لهم – (هشاشة سكنيَّة)، تحتاج إلى تسليطِ ضوءٍ في طبعات قادمة مستقبليَّة، ورأيتُ ناعمات صوماليات، وقد عزمْنَ على الظهور في خانة الجميلات، مع احتشام – على العموم – في لبسة العفة والمحجَّبات، وقد جعلهن الجوُّ الكيني البارد الرطب أوفر حظ للحسن واللياقة البدنية، فنسأل الله أن يحفظهن من أن يَفتنّ أو يُفتنّ، وهو – سبحانه – ذو العطاء والمنّ. ثم ركنْتُ إلى نفس طيِّبة عاطرة، وشخصية جاذبة ساحرة، سرقت ما بقلبي، واستولت على ما في روحي ونفسي، فلا أذكر إلا اسمها، ولا أقرأ إلا شكلها، ولا أسمع إلا صوتها. الختام أما بعد: فإنني أشكر الله سبحانه وتعالى وأحمده الذي رعاني وحفظني في كل ذاك السفر الطويل جدا، والذي حفّت فيه مخاطر كثيرة، لأنه كان رحلة مغامرة في البرّ، فله الثناء والحمد، ثم إنني أشكر لكل من استضافني ورحَّب بي وفتح لي قلبه في كل رقعة مررت بها، وأشكر لكل الكتَّاب والمثقفين والعلماء الذين التقيت بهم في نيروبي وساهموا معي في المشاورة والتشجيع والترحيب، منهم الأخ عامر أحمد ميو الذي تولَّى الاستضافة في نيروبي طيلة الإقامة، وأصدر معي كتاب (ينابيع الحكم في أبيات شعر في الحكم والمواعظ ومكارم القيم)، طبع في نيروبي، وأشكر للأستاذ الكبير محمد الأمين محمد الهادي الذي ساهم في نشر هذا الكتاب وقدَّم له، أشكر للأخ الفاضل الأستاذ أحمد صلب الذي استضاف ندوة في عرض كتابي (مراجعات إستراتيجية في الشأن الصومالي) للطلبة والمثقفين، وكذلك أشكر للدكتور محمد شيخ علي دوديشي، والشيخ الداعية أحمد محمد فارح من غالكعيو، والدكتور آدم يونس، والأستاذ محمد شيخ وهليه، والكاتب الصحفي الأخ عبد الرحمن يوسف البخاري، والأخ الأستاذ علي جبريل الكتبي، والأخ عمر الفاروق عبد العزيز، والأستاذ عبد السلام، والأخ فارح شوريه وجميع الأصدقاء والزملاء في السودان وفي القلم، وهم كثر بحمد الله. وفي جوبا أشكر الأخ محمد وردي، والأخ الصديق عبد الرشيد إسماعيل على كرم الضيافة، والأخ الفاضل محمد علي سياسي، والأخ حسن جيتي والأخ مهد والأخ محمد حسن معلم سعودي الكاتب بشبكة الشاهد وغيرهم من الأصدقاء والزملاء وما أكثرهم، فجزاهم الله خير الجزاء. .. وإلى اللقاء في مشهد آخر من مشاهد الحياة في العام القادم بإذن الله. الشاهد