يرمز الكرسي لعدة أشياء، منها السرير الكرسي وهو مقعد من الخشب ونحوِه لجالس واحد، أيضاً مركز علمي في الجامعة يشغَله أُستاذ، والكرسي البابويّ الرسولي فهو مركز إقامة البابا، أما كرسي المُلْك فيعني عَرْشه، وكرسي المملكة أي عاصمتها، وورد في القرآن آية الكرسي التي تدل على عظمة عرش الخالق. هنا يبحر الدكتور جعفر ميرغني بعمق في معاني ورموز الكرسي من عدة زوايا.. * من واقع اهتمامك الأكاديمي، ما مفهوم الكرسي بصورة عامة؟ للكرسي مفهوم ثقافي داخل كل مجموعة، مثلاً في المشيخة المسيحية للأسقف وتقابله السجادة عند المتصوفة، والركيزة في زمن الرسول (ص)، ويسمونها سواري، إذ يجلس الشيخ في الأرض بحانب الركيزة، وحديثاً صنع المصريون مقعداً كالذي يجلس عليه الشعراوي، ولاحقاً انتقل إلى السودان، وإلى وقت قريب كان موجودا في مساجد الخرطوم الكبيرة، هذا غير المنبر الصغير الذي يجلس عليه المؤذن، وأيضا يجلس عليه قارئ القرآن قبل صلاة الجمعة، لكن الغريبة اختفت هذه الكراسي من المساجد. مؤخرا لفتني في مسجد فاروق وضع هذا الكرسي قريباً من المدخل، ما يبدو أن أحداً حاول إخراجه لكن خابت محاولته، لأنه لا يعلم أن الكرسي تم تركيبه داخل المساجد، وهذا يعني أن أدوات المساجد قد تسرق، أما مفهوم أصل الكرسي فهو مفهوم كنسي ويسمونه الكرازة، وكرسي الجامعات جاء من الفهم الكنسي ممزوج بالإسلامي، لأن المسلمين في الأندلس عملوا منابر في المساجد للإمام المتحدث، ومن ثم التقط الفكرة الأوروبون وصارت كراسي، والمنبر أيضا ينتمي إلى العالم المسيحي الأفريقي، وأول منبر في الإسلام صنعه صبي سوداني للرسول ( ص) وفي مصر في مسجد عبدالله بن العاص، وكان هدية من ملك النوبة، ما يعني أنه يرجع إلى المفهوم السوداني والإثيوبي، بجانب العصا وهي ترمز إلى الزعامة الروحية، وزمان التربية الروحية جزء من التعليم ككل. * من خلال حديثك أوضحت رمزية الكرسي إلى التعلم بجانب الزعامة أو المشيخة؟ نعم.. وسمي مقام المشيخة (كرسي) في العالم الغربي، وجاءت فكرته من المنبر، وهي كلمة إثيوبية قديمة وجاءت منها فكرة (البنبر)، أي المقعد، وذات مرة أثناء حديثي في الشأن احتج إمام مسجد قائلاً: "نحن فرسان المنبر تجي تبقى لينا بنبر"، ومؤكد أن هنالك علاقة وثيقة بين الكرسي والتعلم، وكان جاليلو مدرس الفلك والطب يجلس على منبر عال، لكي يجلس ويرتاح، بالإضافة إلى كثرة الطلاب من حوله حتى يستطيعوا رؤيته، وهذا مهم جداً للمتلقي، واستفاد من هذه الفكرة الأوروبيون، ولكن الآن تغير شكل المنابر عموماً. * ماذا عن كرسي الملوك؟ هو العرش، مثلاً إمبراطور الحبشة الذي شهدته فهو يشبه المنبر الإسلامي، وبه (3) مدرجات والعريشة من فوقه، ما يعني أن المنبر في الإسلام أيضا يعني العرش، وكذلك الكنائس بذات الشكل، لكنهم يرمزون به إلى الزعامة الدينية. * هل للكرسي رمزية في تاريخ السودان؟ في السلطنة السنارية كان في عنقريب (السرتي)، وهو من خشب السرة، والذي يجلس عليه سلاطين سنار، وهنالك صور من العصر الفرعوني لملك وملكة يجلسان على عنقريب السرتي، وأيضا كان يجلس عليه العريس، كمكرمة له في داره، بالإضافة إلى لبسة الطاقية وعقد الهيكل تشبهاً بالملك، والشاعر قال: "يا قاسم على عرش السرور اتعلى.. بين تهاني البانا وملية العرجون". وذات العنقريب أخذ فكرته العرب وصار سريرا؛ ففي العصر الأموي ملوك المسلمين يتربعون على السرير كجلسة النمر، أما سلاطين العثمانيين فيتربعون أيضا على كنبة عريضة. * ماذا عن بقية الكراسي؟ كرسي التعليم وهو من أهم الكراسي، وقد وجدت بقايا مدرسة في السودان ترجع إلى تواريخ قبل الميلاد، ومازالت بها خرابيش الطلبة، الغريبة أن الخواحات أهملوها من دون الآثار الأخرى، وبعد أن جاء منهم الرعيل الأول أقروا بأنها مدرسة لكنهم استنكروا وجودها في أفريقيا آنذاك، لذلك شككوا في أمرها، ومن آثارها مكتوب عليها كلمة إغريقية في اللغة المروية تعني كلمة (كرسي الأستاذية)، أي الكرازة في الإغريقي اسمها (كتترا)، متضمنة معنى المقعد، بعد ذلك يوجد كرسي المسؤولية ككرسي الوزارة والبرلمان وغيرهما، وكان الكرسي في العالم الإسلامي منصبا دستوريا واحدا، ويجلس صاحبه على السرير والبقية على الأرض، لكن الرمز الحقيقي للمنصب هو القلم، لذلك يسمى الإداريون الحقيقيون بأرباب الأقلام، بالتالي يجب أن يكون الصراع على الأقلام ليس على الكراسي، كون الأخير بإمكان أي شخص الجلوس عليه، لكن القلم لا يجيد استخدامه كثيرون، وهنا المأساة عندما تكون لا تميز بأنك ستجلس على كرسي فخيم فقط أم ستستخدم قلماً، لذلك لو أجلسوهم على الأرض لكان خيراً. وبالمقابل تسمى القوات النظامية أرباب السيوف، أما نحن عندنا الكرسي فيرمز إلى الرئاسة الدينية والإدارية، بالإضافة إلى (الككر) وهو كرسي الملك في جنوب السودان، وهم يقولون للسلطان (بانجي)، وسابقاً ليست هنالك تفرقة بين زعامة دينية وزمنية، ولا يختارون الملك إلا من ذوي الخلق. وعند اختيار السلطان يحبس لكي يؤدب ولا يتعالى على غيره، لأن الملك لا يمكن أن يضع نفسه مكان الخطأ، لذلك يمدحون طبع الملوك، كونهم أكثر الناس دعوة إلى الأخلاق السامية. * ما الكرسي الذي يجلس عليه جعفر ميرغني إذا وضع موضع الاختيار؟ جلست على كرسي العلم منذ طفولتي وما زلت، ولا خيار لي غيره، كون العلم يرفع بيتاً لا عماد له، والجهل يهدم بيت العز والشرف، ومن وضعه جهله لا يرفعه نسبه، ويرجع اختياري لهذا الكرسي لقربي وإعجابي بعلماء أجلاء منذ الصغر بمرافقة والدي، إذ كان الصغير يلازم الكبير باستمرار حتى في الزيارات والذهاب إلى الأسواق، بالتالي تعلمنا من كبارنا حسن الخلق، وحب العلم والتعلم، لذلك لن أختار غير كرسي العلم في أي زمان ومكان. اليوم التالي