السفير السعودي لدى السودان يعلن خطة المملكة لإعادة إعمار ستة مستشفيات في السودان    مليشيا الدعم السريع تكرر هجومها صباح اليوم على مدينة النهود    منتخب الشباب يختتم تحضيراته وبعثته تغادر فجرا الى عسلاية    اشراقة بطلاً لكاس السوبر بالقضارف    المريخ يواصل تحضيراته للقاء انتر نواكشوط    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    شاهد بالصور والفيديو.. على أنغام الفنانة توتة عذاب.. عروس الوسط الفني المطربة آسيا بنة تخطف الأضواء في "جرتق" زواجها    المجد لثورة ديسمبر الخالدة وللساتك    بالصورة.. ممثلة سودانية حسناء تدعم "البرهان" وثير غضب "القحاتة": (المجد للبندقية تاني لا لساتك لا تتريس لا كلام فاضي)    المجد للثورة لا للبندقية: حين يفضح البرهان نفسه ويتعرّى المشروع الدموي    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    الناطق الرسمي للقوات المسلحة : الإمارات تحاول الآن ذر الرماد في العيون وتختلق التُّهم الباطلة    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    قرار بتعيين وزراء في السودان    د.ابراهيم الصديق على يكتب: *القبض على قوش بالامارات: حيلة قصيرة…    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    باريس سان جيرمان يُسقط آرسنال بهدف في لندن    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    صلاح.. أعظم هداف أجنبي في تاريخ الدوري الإنجليزي    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    المريخ يخلد ذكري الراحل الاسطورة حامد بربمة    ألا تبا، لوجهي الغريب؟!    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    بلاش معجون ولا ثلج.. تعملي إيه لو جلدك اتعرض لحروق الزيت فى المطبخ    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تشكيل الحكومة (محلك سر!)
نشر في الراكوبة يوم 23 - 04 - 2017


بسم الله الرحمن الرحيم
كثيرة هي الشواهد التي تدل علي ان الانظمة الانقلابية، تزداد طفولة ونزقا مع مرور الايام وكر السنوات، وتاليا لا تضيف تجربتها اي نوع من التراكم او التعلم من الممارسة والاخطاء! وذلك بسبب العناد والمكابرة والمغالطة من جهة، وتعلية قيمة الاستملاك او نزعة الاستحواذ والاحتكار من جهة مقابلة. والاسوأ من ذلك، ان حالة الطفولة التي تراوح فيها لا تنعكس عليها وحدها، ولكنها تطال المجتمع والاقتصاد والسياسة ومجمل الحياة العامة، لتصاب كلها بداء الطفولة او القصور البنيوي، وتاليا تجدها عالقة في نوع من العبثية والتلاعب واللامبالة، وصولا لانفراط العقد العام او التحلل من الارتباطات اي كانت نحو الدولة والمجتمع، وتصبح كأن العلاقات بين الافراد والانشطة والحقول المختلفة داخل الدولة الواحدة معلقة في الفضاء، او تعيش في جزر معزولة عن بعضها البعض. وذلك بالطبع علي عكس الانظمة الديمقراطية، التي إن لم يكن لها ميزة سوي التعلم من التجارب والاستفادة من الاخطاء، لكفاها ذلك. والسبب انه يمنحها النضج والاستقرار، وما يستتبع ذلك ايضا من انعكاس علي المجتمع والدولة، سواء من ناحية سيادة روح المسؤولية والانضباط او النظام والمؤسسية، وتاليا وجود خيط ناظم او إطار شامل لكل مكونات الدولة، من افراد وانشطة ومجالات، يسمح لها بالتفاعل الايجابي، الشئ الذي يجعل للفرد قيمته والعمل جدواه والدولة احترامها.
سبب هذه (الرمية) هو التأجيل المتتالي لتشكيل حكومة (حوار الوثبة)، مما يشي بالتخبط وغياب المنظومة الشاملة في طريقة ادارة الدولة، وتاليا اباحة استخدام الطريقة العشوائية او النهج المغشوش، اذا جاز التعبير، في التعامل مع الشأن العام! والذي بدوره يفتضح امره عند كل اصطدام مع واقع الحياة وواقعية التحديات. والحال كذلك، يحدث الانفصام الكامل بين السلطة والمجتمع، وهو اكثر ما يتمظهر في حالة استعلاء السلطة وهامشية اهتماماتها وترف مكوناتها من جهة، وغربة المجتمع وتدني احتياجاته وتردي خدماته من الجهة الاخري. والانكي ان كل ذلك يجري مع شأن حكومة، يفترض انها تتويج لحوار وطني اتخذ صفة الوثبة وتبناه راس النظام وسخرت له كل امكانات الدولة، ويستهدف القطع مع مرحلة (دغمسة) ويدشن عهد جديد؟ والاصح ان ذلك يحدث بسبب الحوار نفسه، علي اعتبار ان الحوار الموصوف الذي اسس لذات الحكومة التي تعاني آلام المخاض. تبني منهجية اللامنهجية، بدلالة عدم تحديد لا سقوف زمنية ولا إطار للمفوضات ولا للقضايا او الاهداف او الاطراف؟ بل ولا حتي جداول محددة لانفاذ البنود والالتزامات، او مرجعية تبت في امر الخلافات علي التفاسير والتفصيلات؟ اي الحوار الذي اريد له التاسيس لبناء الدولة، شابه الترهل والضباب والتطويل الممل والمشاركات ذات الطايع المجامل (الكم علي حساب الكيف!)، الشئ الذي جعله كقطار العيد وهو يكتظ بالركاب في كل اتجاه، داخله او علي سطحه، لينتج نوع من الشركاء والمشاركات وتاليا المخرجات علي هيئة غثاء السيل او الزبد الذي يذهب جُفاء، وبئس الحوار. والحال هكذا، يصبح العجز عن تشكيل الحكومة، هو امتداد لعجز اشمل طاول الحوار المشلول. وسبب العجز او مرجعه الاساس، يكمن في ان الغايات سواء من الحوار او تشكيل الحكومة، هي منح نوع من الترضيات، والاصح الرشاوي لبعض القوي السياسية والقيادات المناطقية، نظير ان تُمنح السلطة الانقلابية نوع من الشرعية المشتهاة، وكذلك يهدف للمشاركة الشكلية التي تفرق دم التركة الثقيلة من الاخطاء والجرائم والفساد، بين الأحزاب السياسية والزعامات القبلية والمناطقية، بغرض ابطال مفاعيل المحاسبة والقصاص! وايضا للحصول علي نوع من الاسترخاء السلطوي اذا جاز التعبير، بعد ان اخذ الارهاق وضغوطات الفشل من السطلة كل عافية و(مروة) ومصداقية. إذا صح اعلاه، يصبح العجز عن تشكيل الحكومة، يتأتي من استحالة استرضاء كل الاطراف واشباع كل الاطماع، وهو ما تولد عنه اعلان نهج الكيكة المضمر الي العلن! والاسوأ انه يكشف عن فضيحة غياب المشروع، الذي تتوسله الحكومة لنيل الشرعية او مجرد البقاء من الاساس. وللأسف هذه الوضعية الشاذة، تبين كم الافلاس والتسيب التي ترزح تحتها هذه العصابة الحاكمة، خصوصا علي مستوي الادوار والمهام والحقوق والواجبات. بمعني، بدلا ان تتحول الحكومة الي وسيلة، آلت الي غاية حصرية! الشئ الذي افرغها من محتواها الاجتماعي والوطني، قبل ان يحيلها الي اداة امتياز مجانية، او اقصر سبيل لحيازة الثراء والوجاهة الاجتماعية. والحال كذلك، كل من تقصر به همته او مواهبه عن ادراك الامتياز المستحق للجدارة، فان الاقتراب من السلطة والتزلف للحكام باي كيفية ووسيلة، يصبح هو الطريق الوحيد؟! وفي الحقيقة هذا المسلك ليس غريب او شاذ علي منظومة الانقاذ، ولكن وجد جدواه ومرجعيته في عملية الانقلاب ذاتها؟ بمعني آخر، الانقلاب يتعدي عملية الاستيلاء الغادر علي السلطة، الي احداث انقلاب شامل في منظومة القيم والمفاهيم والسلوكيات المرعية والقواعد المعيارية! في هذا المعني، يصبح قائد الانقلاب (مدبره) ونهج الانقلاب وصولا لمنظومة عمل الانقلاب، هي الثقافة السائدة والمعيار الجديد الحاكم للدولة والمجتمع، ومع مرور الوقت تصبح حتي المرجعية المؤسسة للانقلاب والادوات المساعدة في خبر كان، سواء كان مصدرها ايديولوجية او صداقة عسكرية او غيرها! بمعني الانقلاب (قائده/مدبره) يعيد انتاج مرجعيته ووسائله، وتاليا يخلق قوانينه وثقافته الخاصة، والعابرة للمراحل والشخوص والمرجعيات. وبما ان هذه القوانين والثقافة اكثر ما تتجسد في السلطة وبصورة اخص راسها! فتاليا ثقافة وسلوك وقدرات ومواهب الراس، تسم هذه القوانين والثقافة السائدة. وبكلام اقل تجريد، رغم السمة العامة للانقلابات، إلا ان قادتها يلعبون دورا اكبر في تجسيدها علي الارض! في هذا المعني، مكيافيلية الترابي (الامير الحديث حسب وصف الدكتور حيدر في واحد من كتبه القيمة) في وقت سابق، وضحالة قدرات البشير القيادية والسياسية والادارية في وقت لاحق، كانا السبب الاساس في حالة التردي غير المسبوق علي كل الصعد. ولا يعني هذا تحميل الترابي والبشير حصريا المسؤولية الكاملة، ولكن المقصود، انه بقدر توافر مكر وانتهازية الترابي وتوسعه في نهج التبرير او فقه المصلحة الخاصة، وضعف ملكات البشير وضمور حسه الوطني ونزوعه للترف واكتناز الثروة، وذلك بالتوازي مع طبيعة سلطة عمودية تجتمع بالكامل في يد الراس، شكل مدخل اوسع للفساد والانحرافات بكل اشكالها واحجامها! واكثر ما يتبدي ذلك في تغييب ادوات الرقابة والمحاسبة من جهة، وبدعة الاحتفالات والمهرجانات والافتتاحات والتكريمات الفجة (لعبة الحبشة؟!) والمقصود ليس كعينة، ولكن كنموذج للتوجه الذي يتقصَّد الافراد بالتكريم (التعظيم) وليس الانجازات التي تتحدث عن نفسها، من جهة مقابلة.
وبما ان غاية الانقلاب والانقلابيين السلطة حصرا، فتاليا كل همومهم وجهودهم وبرامجهم تتمحور حولها. وعليه، تصبح قضية تبني مشاريع خدمية عامة او برامج نهضوية طموحة او حتي الحصول علي الشرعية السلطوية، مجرد هوامش! وهذا في حال لم تحوَّل الي وسائل دعاية وشعارات جوفاء، يتم تسويقها للبسطاء وغطاء لشراء الانتهازية و(الوسطاء). في هذا الاطار الاخير يندرج الحوار المارثوني وابنته (اللقيطة/الحكومة) المقترح تكوينها علي نهج (دخلت نملة وشالت حبة!). وبالطبع الغرض الاساس من اثارة كل هذا الغبار الكثيف، تحت يافطة (الحوار وتشكيل الحكومة) غير شراء الوقت، هو صرف الانظار عن امهات القضايا والحاجات الماسة لكرام المواطنين، التي يطالها الاهمال والتقصير وصولا لحالة الشلل والفشل التام. وعموما هذا الاسلوب العاجز في التعامل مع المطالب الموضوعية والمتطلبات الاساسية، هو واحد من آليات عمل حكومة الانقاذ الطفولية! والمقصود، تعليق الاخطاء والفشل في رقبة التآمر والاستهداف الخارجي من جهة، ومن جهة ثانية تصوير الوعود والاوهام والتعامل الرغبوي مع الواقع والوقائع، مثل تخفيف بعض القيود علي الحصار الاقتصادي الامريكي او تشكيل الحكومة او استثمارات الراجحي، علي انها انجازات ضخمة ووصفات سحرية، قادرة علي علاج كل ازمات البلاد ضربة لازب، وليس مجرد تصحيح لاخطاء وقصور فاضح، فوق انها رهينة التقلبات، لعدم استنادها علي رؤية واضحة او برامج حقيقي يستهدف معالجة شاملة لازمات البلاد. وهذا جميعه ان دل علي شئ فهو يدل علي المراهقة السلطوية، التي لا تزيدها السلطة المطلقة، إلا تهور وفجور ومراكمة للاخطاء والكوارث .مما لا يعالجها إلا تبني برامج موضوعية وواقعية تتوخي النهوض بالبلاد، علي اعمدة المنهجية العلمية والنظم المؤسسية، وحوامل معارضة دينها وديدنها الوجهة الديمقراطية. وقبلها استحداث وسائل اقل كلفة للخلاص من هذه الاوضاع الكارثية.
والخلاصة، ان الازمة الحقيقية لا تكمن في تذبذب الاعلان عن تكوين حكومة جديدة، يعلم القاصي والداني انها لا تعني اكثر من تعبئة للفشل والفساد في قنانٍ جديدة، بقدر ما تكمن في اصرار السلطة الانقاذية علي الوصول بنهج الانقلاب الي نهايته الحتمية، وتاليا اجبارها المعارضة واحتيالها علي الشارع للقبول بهذا النهج، مع ترك هوامش للحوارات والمؤتمرات واللقاءات الفارغة والاعتراضات الهشة.
وفي مقلب آخر، يستند بدوره علي ما ورد في تقرير الصحفي احمد يونس (الراكوبة/ الشرق الاوسط) يربط التأخير في الاعلان عن تشكيل الحكومة الجديدة، بخلافات مع الأحزاب الكبيرة (الاتحاد الديمقراطي) و(المؤتمر الشعبي). وعليه، بغض النظر عن تسبب الحزبين في المشكلة او غيره من الاسباب، فمن حيث المبدأ تعني مشاركة، اولا، حزب بحجم الاتحاد الديمقراطي بزعامة مولانا الميرغني، في حكومة لا تمثل إلا نفسها، وتتركز سلطاتها في يد البشير بصورة أساسية ونائبه بدرجة أقل، مجرد ضيافة تستلزم كل آدب الإستضافة، من قصر المطالب وغض الطرف عن الاخطاء والتأدب في حضرة المضيف، وهذا ناهيك عن لؤم المضيف وتعمده إهانة الضيوف، كجزء من تذكير الاخيرين بفضله من ناحية، بهامشيتهم من ناحية مقابلة! والنتيجة المنطقية لهكذا وضعية تبعية، هي حيازة مصالح خاصة وتمرير اجندة اكثر خصوصية، مقابل صرف النظر عن مشروع التغيير الشامل، كهدف استراتيجي لا تقوم للدولة من دونه قائمة. وبحسبة بسيطة، يري مولانا الميرغني بعين براغماتيته السياسية، ان الطائفية والحداثة لا يلتقيان، وتاليا اي مشروع تحديث يستهدف الدولة السودانية، يستحيل ان يمر من دون تحديث الحزب الاتحادي اولا، وبما يعني افتكاك الحزب من براثن الطائفة، مما يصح وصفه ب(فلكرة الطائفة، من فلكلور) اذا جاز التعبير، وتحويلها الي مجرد ذكري تاريخية (انتهاء دورها ووظيفتها بانتها الظروف التي انتجتها) في ذاكرة التحديث الاتحادية، وتاليا تحول الميرغني الي ولي او مولانا لا ولاية له، إلا علي وزن (الملكية البريطانية) اي له حق الاحترام والتقدير والمشورة غير الملزمة، علي احسن تقدير. إذا صح ذلك، يصبح مولانا الميرغني بموقفه الاخير من المشاركة في الحكومة، اختار الديمومة في قيادة الحزب الاتحادي، علي حساب مستقبل الحزب، مما ينذر بتذرر الحزب اكثر من وضعه الحالي الذي يرثي له! ومن ثم خسارة الجميع وعلي راسهم مولانا الميرغني الذي لن يجد من يقوده، سوي قطيع من (مصلحجية) يقدسون العباءة بقدر انتصارها للسلطة والثروة! وتاليا استعدادهم للتخلي عنه، عند اي منعطف يتعارض مع هذه المصالح الضيقة. الشئ الذي يترتب عليه، خسارة الحزب لتاريخ طويل من التضحيات وبوادر الليبرالية واستعدادات التحديث.
اما الشعبويون وعلي راسهم المحامي كمال عمر فامرهم عجبا! وقبل ذلك اود ان اشير الي ان الشعبويين يجسدون الاسلاموية (كمشروع نصب وافلاس) اكثر من اشقاءهم الوطنيين، وكلهم في الفساد والاجرام شرق! وتاليا كل مزاياداتهم علي اخوانهم في شأن الحرية والديمقراطية والدستور وغيرها من لغو الشعبويين، هي مردودة عليهم! وذلك لسبب بسيط، لانهم كما سبق يمثلون روح الاسلاموية التي يشكل الاسلامويون الوطنيون جسدها، ومعلوم سلفا ان خبث الروح أشد وطاة من فساد الجسد! وإلا كيف يستقيم التبجح بالدفاع عن الحريات والدستور لمنظومة تعدت علي الديمقراطية (تجسيد الحرية وروح الدستور) ومن دون تقديم اعتذار صريح او مراجعة جذرية للمرجعيات التي سوغت لها انتهاك الديمقراطية! ولكن قد يزول الاستغراب بالرجوع للدوافع السلطوية والغرائز التملُكية، المتجذِّرة في الاسلامويين بصفة عامة والشعبويين بصفة خاصة، بوصف الاخيرين اكثر تماهٍ بالترابي الذي مسخهم الي الاسلاموترابوية، والتي تضع هذه المجموعات الشاذة من البشر فوق البشر، بقدر ما تستسهل تمرير دعاويها ومشاريعها وخططها، وكأنها تعمل في الفراغ او داخل مجتمع من غير ذاكرة او مغييب الوعي، وعلي استعداد لتصديق كل شئ، في اي زمان ومكان! وبتعبير آخر، هم يفترضون في انفسهم الذكاء والمعرفة وسمو الدين والفكر والعرق..الخ بنفس الدرجة التي يجردون فيها الآخرين من هذه الصفات والقيم. وما سهل عليهم هذا التوهم او الغرور وتضخم الذات وتاليا تجذُّره في وعيهم ولا وعيهم، هو قبولهم في صف المعارضة من دون فحص تاريخهم ونقد مشاريعهم والاستيثاق من عهودهم! وبالمجمل إذا ما تمت هذه الاجراءات مسبقا، فتاليا هم مرفوضون مبدئيا. بمعني، الاسلاموية تشكل اكبر عقبة امام مشروع التغيير الشامل، علي اعتبارها مُزيَّفة للصراع ومبتذلة للتحديات، من خلال حرفها عن واقعها الارضي الي متخيَّل سماوي، يمتلكون وحدهم شفرة رموزه الطلسمية! وبناء عليه، تصبح اي محاولة جادة وعملية لمقاربة الاستعصاءات والازمات الداخلية المستحكمة، تستوجب ليس التخلي عن الاسلاموية فقط، ولكن محاصرتها (مكافحتها) ومقاطعة اصحابها، حتي يتخلون عن هذا التلوث الفكري والتشوُّه الوجداني والانحراف المسلكي. وإذا لم يتم ذلك، بعد كل هذه الاكلاف والتضحيات الجسام، التي قدمت علي مذبح تلاعب الاسلاموية بالوطن والمواطنين، مما ترتب عليه تغبيش وعي الحاضر واهدار فرص المستقبل، خصوصا بعد ان استلمت هذه الجماعة البلاد وتحكمت في مصيرها بالمطلق، وتاليا سنحت لها الفرصة الكاملة لتطبيق برامجها الاسلاموية ومشاريعها الحضاروية؟ فعلي الوطن السلام.
آخر الكلام
الحديث عن التوقيت وارجاعه خلال الفترة الماضية، ذكرني قصة ساخرة للكاتب المصري الراحل علي سالم، وهي مستندة علي واحدة من الحواديت المصرية، بعنوان شاكوش اسطي عبدو. وخلاصتها، ان اسطي عبدو بعد ان فتح محله صباحا، ارسل صبيه لاحضار شاكوش من جاره، وعندما لم يجده ارسله لغيره، وهكذا حتي انتصف النهار دون فائدة، وعندها لعن الزمن وقلة المروءة في الخلق، ثم طلب من صبيه ان يحضر له شاكوه الخاص!! ومغزي القصة كما هو واضح، يدور حول الالتفاف علي فعل الصاح رغم بداهته، وبعد اهدار الزمن وضياع الفرص في المماطلة والعناد والتسويف، يتم الرجوع لنقطة البداية وكانها انجاز؟! والحال كذلك، يصبح السؤال متي تقلع الانقاذ عن ممارسة سياسة (شاكوش اسطي عبدو) وترتقي للمسؤولية الوطنية؟ وليس عن مواعيد تشكيل حكومة وهمية، ليس بمستطاعها تحويل الفسيخ شربات؟ وهذا في حال لم تثقل كاهل ميزانية تتوكأ علي اموال التسوُّل والقروض؟!
نافذة خاصة جدا وحزينة جدا جدا.
فجعت في سابق الايام برحيل امي الحبيبة، وهي ككل ام مصدر للحنان والدفء والامان، وامتداد للجذور ومركز ثقل للوجود وبوصلة للوجدان، تحكم علي المشاعر بالتوجه اليها، بغض النظر عن ابعاد الزمان والمكان او الحضور والغياب. وغيرها مما يُحس ولا تفي الكلمات بالتعبير عن طزاجته، ولكن اقرب لوصفه تعبير اسماعيل حسن (اقول بعضي الاقيها تسربت في مسارب الروح بقت كلي، محل قبلت القاها معايا معايا زي ضلي). اما ما قد تشترك فيه مع بعض الامهات دون غيرهن، فهو حساسيتها الشديدة ضد الظلم او المساس بكرامتها، الشئ الذي جعلها توصف بالصعوبة ولكن مع الاعتراف بانها حقانية. ومصدر ذلك في اعتقادي، انها كانت تتوقع ان يعاملها الآخرون كما تعاملهم، وكأنها تنصب ميزان العدل في علاقاتها الاجتماعية. ولكن المؤكد انها حتي في حالة غضبها الشديد، وهو غالبا كذلك، كانت تتراجع لاقل كلمة طيبة. ولحسن الحظ، عاشت دائما معتزة بشخصيتها وعزة نفسها، ولم تنكسر امام اي شئ، وما كان يتاح لها ذلك وان رغبت، لمجافاة ذلك لفطرتها او طبعها الذي تطبعت عليه.
نسأل الله ان يسامحنا علي تقصيرنا في حقها، وهو ما يستحيل ادراكه، لمن وهبتنا عمرها وعافيتها وهمها وكنا هدفا لها منذ ان عرفت معني الانجاب. ونسأله مليارات المرات وبقدرها من الدعوات، ان يغفر لها ويرحمها ويحسن مسواها ويتقبلها قبولا حسنا، وان يحشرها مع الابرار والانبياء والصدقين والشهداء وحسن اولئك رفيقا. وإنا لله وإنا إليه راجعون. ودمتم في رعايته.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.