كثيرة هي الظواهر التي تستوقفنا يوميا وتتطلب منا أن نتأمل تداعياتها مليا ونفكر في مدياتها كثيرا، لنحدد ما يمكن أن تتركه من عواقب قد تكون خطيرة، وربما مدمرة، كونها لا تحفر قواعدها في بنية المجتمع وحسب؛ بل ترسخ قيما وخيمة إذا ما توطنت في النفس ومدت خيوطها غائرة فيها بعيدا، وعندها لن تفلح أكثر التقانات التكنولوجية قوة في أن تزيلها أو تستبدلها بغيرها. وواحدة من أهم تلك الظواهر التي تناصف الواقعان العلمي والثقافي معا على الابتلاء بها، ظاهرة الطفر في الظفر بالتميز والفرادة، بلا مقدمات منطقية أو أطوار تعاقبية أو مراحل زمنية تفترض لتلك الفرادة ولذلك التميز ان يأخذا وضعهما الطبيعي، كونهما لم يأتيا إلا على شكل طفرات بلا سابق جهد أو عطاء، مع أن الوراثة نفسها قد تشهد وجود طفرات جينية إلا إنها لا تحدث إلا كل قرن، وإذا شئنا الاختزال فربما كل عقد، لكن الطفرات العلمية والثقافية التي تطرأ على بعضهم هي طفرات من نوع جديد، إنها تحصل كل عام وربما يشهد العام الواحد طفرتين أو أكثر في شكل ماراثوني محسوب بدقة متناهية، ومصاغ على أعلى مستوى من الدهاء واللعب الحياتي. وليس غريبا أن هذه الطفرات في المكسبين ولا أقول المجالين العلمي والثقافي والظفر بأعلى ما يمكن اكتسابه منها ماديا ومعنويا لا يناله إلا نفر محظوظ من ذوي الثقل الشخصاني المتميز مظهريا وقبليا والمنمق مجتمعيا، لتكون الطفرات ملكهم هم وحدهم لا غيرهم. وهنا نتساءل لماذا يوجه الطفر طموحا والظفر غاية نحو المكاسب العلمية والثقافية؟ ألأن أيديهم أترعت من النواحي الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، فبقيت هاتان الناحيتان تشكلان منطقة جذب واستقطاب تشعرهم بمزيد من الاستحواذ والفردانية؟ وإذا لم يكن الأمر كذلك فلماذا إذن صارت هذه الحالة ظاهرة يتسع خطرها يوما بعد يوم؟ وإذ هي تتسع إلا يحتاج هذا منا إلى تشخيص فوري ثم اجتثاث طارئ وإصلاح جذري؟ ولا غرابة أن المحظوظين الذين تطالهم هذه الطفرات لهم صفات تجمعهم في بوتقة واحدة أولها، أن وراء طفراتهم طموحات وتطلعات توصف بأنها ميكافيلية كون الغاية فيها تبرر الوسيلة، ولذلك لا فرق لديهم بين الوسائل شرعيها ولا شرعيها، سواء تسلقوا على أكتاف زملائهم ممن هم أولى بالمكاسب منهم، أو تجاوزوا السياقات أو تعدوا على أساتذتهم، فذلك لا يهمهم ما دامت الطفرة توصلهم إلى بغيتهم بأقل جهد وأدهى طريقة. ثانيا، إن هذا النوع من الطامحين الهادفين هم عادة يتمتعون بالمكانة الإدارية والاعتبارية، أي أن لهم قدم واثقة تغور في مفاصل المؤسسة التي يعملون فيها، إما مديرون أو إداريون أو لديهم حظوة عند من يتولى تلك المؤسسة ليجعلها طوع أمرهم، وبهذا تتم الطفرة بالصفقة ويتحقق الظفر بالغنيمة. ثالثا، إنهم يعملون في كل الاتجاهات، ولذلك تجدهم في الوزارة وفي الدائرة وتلقاهم في المطعم وفي المقهى وفي النقابة والاتحاد، وعندها تتساءل محتارا من أين يأتي هؤلاء بكل هذا التميز الثقافي والتفرد العلمي، وهم لا يستقر بهم حال ولا يجمعهم مكان واحد، ولا يظل عندهم حتى وقت لقراءة جريدة، فكيف إذا فكرنا ان ينجزوا بحثا أو أبحاثا توصف بأنها أصيلة، لينالوا بها كرسي أستاذية مثلا، أو يحصلوا بها على شهادة عليا أو ينالوا لقبا أكاديميا؟ رابعا، إنهم مجاملون متحابون ظاهريا، يكنون الخير للجميع، متخفين وراء برقع من دناءة وخبث، فلا يعرفهم إلا من تعامل معهم، أما من لا يعرفهم فسينطلي عليه أمر طفراتهم، محتلين مناصب وظافرين بمنح وامتيازات وهم لم يتموا بعد المدة القانونية التي تسمح لهم بالظفر بها والطفر عليها، غير آبهين للمسؤوليات والواجبات، متطلعين لما هو أعلى منها. ولعلهم إذا نالوها براحة نفس لا بشق الأنفس وجدوها لا تعني شيئا، لأنهم أصلا غير مؤهلين لها، ولما تنطبق عليهم بعد شروط لوائحها لتكون الطفرة مجرد منظر وأبهة. خامسا، إن من تفرغ للإدارة والعمل المجتمعي لن يجد الوقت لقراءة كتاب أو إنجاز بحث يتطلب منه أن يخلص له وقتا وجهدا، لكي ينتج ما يؤهله لذلك اللقب أو الكرسي، وإلا كيف يمكن للمرء ان يجمع بين أمرين، الانشغال الدائم في الواقع الميداني والانعزال تماما عن العمل البحثي، ثم يطلع علينا فجأة وقد نال مرتبة أو درجة أو لقبا أو استحق جائزة أو توج مثالا وهلم جرا. ومما قررته أنظمتنا وقوانيننا أن التفرغ للبحث دراسة والانهماك الإداري عملا، أمران لا يجتمعان في الإنسان المعاصر، إلا إذا كان هذا الإنسان سوبرمانيا خارقا قدم من زمن المعجزات والطفرات، باستثناء حالة واحدة وهي أن تكون بمعيته إمعات يساعدونه مختفين خلف الكواليس، ليظهر هو أمام الناس وقد تقلد قلادة تميز أو نال لقبا علميا، أو فاز بمسابقة علمية أو استفرد ببرنامج أو حظي بجائزة إبداعية، أو استوظف منصبا مرموقا، أو احتل منصبين ربما. سادسا، إن لهؤلاء حصانة وجنة، لأنهم في الأصل أصحاب حظوة عند الطبقة السياسية ممن بيدهم التكتل الغاشم والسيادة المفرطة على سائر مفاصل الحياة، حتى إذا طال أحدهم وهذا نادر طبعا أي عقاب أو مساءلة، فإنهم سيدارون عليهم ويحمونهم ويسددون أخطاءهم ضامنين لهم الفلتان من أدنى مساءلة إزاء ما يفعلون. وبذلك تتم صفقة الطفرة على أحسن وجه وبكل معقولية وانسيابية وقانونية. لكن ما خفي كان أعظم، أعني إذا اشتد خناق السؤال (من أين لك هذا؟) إزاء واحد من مريدي الطفرة، فإنه عندها سيظهر وجهه الثاني الوجه البربري، وسيكشر عن أسنان من رصاص ليغدو نيرون عصره وقيصر زمانه. سابعا، ولأن لهؤلاء صلات أخطبوطية هائلة لذلك لا يكترثون إلا لمصالحهم، ولا يهمهم سوى تثبيت وجودهم على مبدأ خاص بهم هو (أنا هنا إذن أنا موجود) والسبب أن ما يشغلهم ليس الفكر ولا الجواهر، بل الأعراض وجل ما يهمهم هو الشكل والمظهر غير مبالين بالتفكير والتجريد ولا المحتوى والعقلية. وهكذا صارت ظاهرة الطفرات بالألقاب العلمية والمناصب الثقافية تترى، حتى لنشعر بأننا أمام مد مستفحل يحتاج اجتثاثا، كي لا يصاب بمخاطره جيلنا الصاعد ولا أقول القادم، هذا الجيل الذي عليه أن يبذل الجهد كي يحصل على الثمرة فيصل ضفة العبور. وإلا ستبقى عجلة التقدم واقفة متحجرة تصدأ يوما بعد يوم، وعندها لن يكون هناك أمل في إعادة تأهيلها، أو حتى إصلاح ما فاتها أو إدامة عملها بأحسن الممكنات. وعزاؤنا هنا ما تعلمناه من أبجديات العلم المنطقية، أن لكل فعل ردة فعل، وبذلك فإن أي بلوغ لما هو غير شرعي لن ينطلي على مر الزمن، وسيكشف يوما ما زيفه مهما تمتع الطافر برئاسة أو كرسي في قسم أو دائرة، لأن الظفر لن يدوم. وإن ما يسهم في إنعاش واقعنا الثقافي والعلمي وينتشله من الأشنات الطافرة والقافزة، هو العمل الجدي والحقيقي على تشخيص هذه الطفرات والاستعانة بمختصين أشبه بالمحققين أو المتحرين، لتشكل منهم هيئة عليا، تحاط بالسرية والكتمان مهمتها اكتشاف القافزين ليعاد وضعهم على أرض الحقيقة، ومحاسبة من سهل لهم التلاعب والقفز كي يرعوي من يعتقد ان بإمكانه ان يتخذ من هؤلاء القافزين مثالا وقدوة. وبهذا سنجتث الداء بالدواء ليصحو المجتمع من سباته ويتعافى من زيفه وبهرجه، ولتصحح مساراته، وليظل الحافز العلمي والحاجة الأكاديمية واحترام قيم العمل الثقافي والاجتماعي هي التي تؤشر بنفسها على أصحابها الحقيقيين، الذين من سماتهم أنهم يحترمون اللوائح ويقدسون الضوابط ولا يتجاوزونها، حتى إذا تمتع أحدهم بالامتياز ازداد الامتياز نفسه شرفا به كونه اجتهد وضحى وتنافس وقارع العقبات وتغلب على التحديات حتى ظفر به. ولعل ما جعل الدول الكبرى متقدمة أن مؤسساتها تتباهى باعتدادها بأنظمتها التي ما طالها أي استثناء أو خرق أو مروق، على مدى قرن أو قرنين مهما كانت الأزمات وأيا كانت الظروف. أكاديمية من العراق القدس العربي