تبنت وثيقة الدستو الانتقالي لسنة 2019م ، في المادة 29 صلاحيات إختيار رئيس القضاء وعضوية المحكمة الدستورية من قبّل مجلس يسمي مجلس القضاء الأعلى ، وعلى الرغم من أن النص يعود ويخوّل مجلس السيادة صلاحية اختيار رئيس القضاء ، غير أنه عاد عليه مرة أخرى بشرط وقتي ، مفادة أن يكون ذلك التعين لحين تشكيل مجلس القضاء الأعلى ، الأمر الذي أضفي على التعين صفة موقوته لا يسهم في استقرار القضاء ، لذا لا أجد مسوقا لتبني هذه الإجراء ونحن نؤسس لمفاتح نظام ديمقراطي ، من أركانة إستقرار واستقلال القضاء ودولة الفصل بين السلطات. إن فكرة مجلس القضاء الأعلى في التشريعات ذات النهج الديمقراطي نجدها قائمة على نسق تنظيمي تنسيقى ، لا يمس مبدأ استقلال القضاء ، وفي بعضها الآخر تتعدي صلاحياته وتطعن إلى قدر كبير في مبدأ استقلال القضاء ، كما الحال في السوان وبعض الانظمة العربية ، حيث نشهد تمددا للصلاحيات تتعدى دورها التنسيقي إلى التوصية بالاعفاء والترقية لسائر القضاة ، أما في النظم اللبرالية فالأمر مختلف ، حيث نجد في الولاياتالمتحدةالأمريكية أن المحكمة العليا الأمريكية ، هى أعلى سلطة قضائية بالبلاد، تتكون من 9 قضاة يتم تعيينهم جميعا عن طريق رئيس الجمهورية ، بعد تزكية مجلس الشيوخ وموافقة مجلس النواب ، وفي المملكة المتحدة يصدر قرار تعيين القضاة ، بمرسوم ملكى بعد اختيارهم من جانب رئيس مجلس اللوردات ، الغرفة الثانية بالبرلمان البريطانى أما في دولة المانيا الاتحادية ، يتكون المجلس الأعلى للقضاء من ستة عشر عضوا ، نصفهم من البرلمان الألمانى "بوندستاج"، والنصف الثانى من عضوية مجالس المقاطعات الاتحادية ، وفي دولة كندا يعين الحاكم العام بناء على توصية من رئيس الوزراء ووزير العدل ، كافة القضاء بمختلف درجاتهم. في السودان كان النهج السائد منذ الاستقلال أن يعين رئيس الدولة رئيس القضاة ويتولى رئيس القضاء تعين قضاة المحاكم وترقيتهم ، من خلال لجنة مكونة من قضاة ، غير أن أول من أسس لنظام مجلس القضاء العالي هو النظام المايوي وإن لم تخني الذاكرة كان ذلك في عهد المرحوم خلف الرشيد ، الذي كسر النظام المايوي بتعينه القاعدة التي سارت عليه الأنظمة التي سبقته ، ذلك عندما أتت به من النائب العام ، وعينته رئيسا للقضاء متخطية قضاة المحكمة العليا. كانت حجة النظام المايوي حتى لا يتهم بخرق مبدأ استقلال القضاء ، بأن الهدف من المجلس بتشكيلته من رئيس الجمهورية ، ورئيس القضاء ووزير المالية ووزير العدل ، تقدير ميزانية السلطة القضائية ، ومساعدة رئيس الجمهورية في اختيار الأنسب للوظيفة ، ولكي يبدو الأمر منطقيا عمم حق التعين على كافة القضاء وليس رئسهم فحسب ، غير أن الغاية المستترة قد تفوت على غير أهل الاختصاص والدربة ، كإجراء غير مباشر يهدف إلي الهيمنة على القضاة ، حتى تتحول عقيدتهم من الإحساس الكامل بالاستقلالية ، إلي الإحساس بأن هنالك جسم يجب الحصول على رضائه لتولي المنصب ، فيحرص القضاة على تجنب ما يفسد أو يعكرصفوعلاقتهم بالسلطة الحاكمة ، حتى لا يفقدوا مناصبهم أو فرصهم في الترقي. كان ذلك قبل أن يشهد الفقه الدستوري Constitutional jurisprudence في السودان ، تطورا آخر في ظل الدستور الانتقالي لسنة 2005م ، عقب اتفاقية السلام الشامل ، حيث نص الدستور على إنشاء مفوضة حلت محل مجلس القضاء العالي ، أخذت مسمى المفوضية القومية للخدمة القضائية ، مُنحّت صلاحيات التوصية بتعين وترفيع واعفاء القضاة لرئيس الجمهورية ، وهو النص الذي حل بديلا عنه نص المادة 29 من وثيقة الدستور الانتقالي لسنة 2019م ، ولعلى الآن فقط أدركتني الإجابة على سؤال ظل يحيرني ، هو كيف ولما أغفلت الوثيقة الدستورية النص على مبدا الفصل بين السلطات عند تعريفها لطبيعة الدولة !! ولما كنا اللآن أمام نص دستوري ملزم ، لن يعالج تعقيداته ترقيع النص بمنح سلطة التعين لمجلس السيادة الي حين تشكيل مجلس القضاء ، فإن الواجب يحتم علينا النظر في مخرج آخر ، إذ ليس من حسن التدبير أن نستغرق فترتنا الانتقالية المحدودة في تعين واعفاء رؤساء القضاء استيفاء لشرط الوثيقة الدستورية. في تقديري وهو تقدير قابل لمناقشته والتداول حوله ، لم يعد أمامنا خيار يفلتنا من مغبة التعينات المتلاحقة ، والتي من سوآتها إرباك أداء السلطة القضائية ، في وقت نتظر منها فيه أنجاز مهام جسيمة تتعلق بواحدة من أهم أهداف الثورة سوى إن ينظر مجلس السيادة بأعجل ما يكون ، في إصدار قانون بمرسوم رئاسي بعد التشاور مع رئيس مجلس الوزراء ، ينظم تشكيل مجلس القضاء الأعلى ، ومن ثم يستكمل اعتماده وفق صلاحياته في المادة 12 /ه ، لكي يشرع مجلس القضاء بدوره في اختيار عضوية المحكمة الدستورية ورئيس القضاء ونكون بذلك قد استوفينا شرط المادة 29 ، وتخطينا العقدة دون الوقوع في خرق الوثيقة الدستورية ، أو الدوران في حلقة التعينات والاعفاءات المتكررة لرئيس القضاء ، ونحن أحوج ما نكون لاستقرار السلطة القضائية ، حتى تسكن النفوس لعدالة تؤدي دورها وفق مطلوبات الوثيقة الدستورية في المادة 8 / 3 و 5 وتشبع تطلعات جماهير الثورة ، وشعارها في استيفاء العدل. محمد علي طه الملك [email protected]