منذ أن نال السودان إستقلاله عام 1956م، من المستعمر البريطاني، دخلت النخب السودانية التي باشرت الحكم بعد ذهاب المستعمر في شقاق، وكانت على غير تجانس فى مسائل الحكم والمشاركة السياسية وتوزيع الثروات، بل استأثرت بالحكم مجموعة أوليغارشية ( نخب نيلية مركزية من جميع الاتجاهات) ، وهمشت الأطراف؛ وأدى ذلك لإندلاع الحروب؛ وعدم الإستقرار السياسي في الفترات اللاحقة، ودفعت البلاد ثمن ذلك الكثير من الأرواح والتخلف التنموي. كانت الدولة السودانية الوليدة ذات المؤسسات السياسية غير المتبلورة والهشة ؛ تسيطر عليها هذه الأوليغارشية المركزية التي تلقت تعليمها في معاهد المستعمر الذي أعد نظامها التعليمي بعناية ، ليخرج تلك النخب ويستغلها لخدمته والإستفادة منها وتوظيفها لمصلحته ، في دواوين الدولة وحكم البلاد والعباد. وفشلت تلك النخب التي حكمت بعد الإستقلال في تأسيس حكم مدني ، يمثل كل السودانيين ، بجميع أطيافهم ، ومكوناتهم ، ويوزع الثروات بعدالة وشفافية ، فكانت الدورة الخبيثة ، 10 سنوات حكم مدني غير مستقر ،و 53 عاما حكم عسكري عضوض ، افقر البلاد والعباد. و الحكم المدني هو الحكم الذي يتمتع بمؤسسات سياسية فاعله ( أحزاب ، برلمان ، منظمات مجتمع مدني ، نقابات) ، تتسم بمستوى مؤسسية عالية ، تستطيع استيعاب المشاركة السياسية الواسعه للمجتمع بكافة مستوياتها النخبوية والمدينية( الطبقة الوسطى) والجماهيرية ( أرياف ، بوادي ، أطراف). وعقب آدائه القسم صرح رئيس الوزراء عبدالله حمدوك :" بأننا كسودانيين فشلنا منذ الإستقلال في بناء توافق سياسي مجتمعي يمكننا من حكم السودان " ، وأشار لأهمية مشاركة المرأة في مؤسسات الحكم ، لدورها في الثورة ، وتمثيل كافة مناطق السودان لخلق ثقة وشرعية في مؤسسات الدولة. وأكثر ما يميز ثورة ديسمبر 2018 السودانية عن سابقاتها ( اكتوبر 64) و(ابريل 85) ، مشاركة الجماهير الواسعه فيها ؛ وما لم يقابل ذلك المشاركة الواسعة للجماهير إستيعاب مؤسساتي ( بناء احزاب جديدة ، وبرلمان فاعل ، وجهاز تنفيذي كفؤ) ، لم يتحقق استقرار سياسي ، وتطور تنموي ، ربما يؤدي لصراعات وحروب أهلية..لذلك بناء مؤسسات جديدة فاعلة ومستقرة أهمية قصوى في الفترة الانتقالية. وحول فشل النخب في حكم البلاد يقول الروائي والأديب عماد البليك :"بعد استقلال السودان كانت هناك ثلاث أسئلة مهمة هي الدستور ومشكلة الجنوب والتنمية، كلاها فشلت الدولة السودانية في حلها، استقلت جنوب السودان بعد حروب مريرة لأكثر من نصف قرن، الدستور لم يصل لمحطة معينة وظل يتقلب ما بين الشريعة والحقيقة، الدستور الإسلامي والعلماني وجدل فصل الدين عن الدولة، بحيث يمكن القول إنه ليس من دستور للبلاد واضح إلى الآن أو أن معالمه قد اتضحت" ، مضيفا :"أما قضية التنمية فهاجسها ما زال يتعلق بالسلام والاستقرار وقبل ذلك ثقافة التنمية في حد ذاتها التي تتعلق بتعزيز مفاهيم الحداثة والإنتاج الحديث، لأن التنمية المعنية هي الشاملة والمستدامة التي تعنى بكافة أنساق التطور والتحديث، ويكون رأس رمحها المركزي هو الإنسان، وللأسف فليس من استثمار حقيقي هنا". وأوضح الأديب البلبك أسباب هذا الفشل الذريع قائلا:" هناك العديد من الأسباب التي يصعب احتوائها في عبارة واحدة أو فكرة محددة، ولكن يمكن الإشارة إليها بشكل عام في ميراث التاريخ العميق ومن ثم أثر التجربة الاستعمارية، في كلا الحالتين كان ثمة إشكال يتعلق بتحرير العقل الجمعي وإعادة تشكيله ليكون صالحاً للمواءمة مع العصر وشروط الدولة العصرية، خاصة أن أغلب المجتمع السودان لا يزال يرزح تحت وطأة التخلف والرجعية والأمية والفقر؛ وهي معان متداخلة تتشاكس مع جدل المعرفة المنشود لأجل المستقبل الذي من المفترض أن تحمله نخبة، لم تر في الخلاص سوى أمراً ذاتياً، ومركزياً، يقوم على ثقافة معينة ومدن بعينها ومن ثم تحالف بين قوى الحداثة والتقليد لتكون المحصلة متجلية إلى اللحظة الراهنة". وزاد البليك"من هنا فالنفاذ إلى الإجابات لن يتشكل إلا عبر مراجعات صارمة ودقيقة لكافة الأنساق الذهنية، وتحرير العقل عبر ثورة فعلية في المفاهيم وإعادة قراءة موقع البعد الروحي، الديني، في المجتمع، وتحرير المجتمع من التقاليد البالية والطبقية الطائفية ،كذلك لابد من نظام تعليم حديث يقوم على أحدث تجليات الثورة التقنية والابتكار والذكاء الاصطناعي وقبلها تعزيز العقل الناقد والمستقبلي، مع تعزيز معرفة جديدة بالفعل السياسي تربطه بالمؤسسة الفكرية، ويمكن القول إن سؤال تفكيك النخب المسيطرة لا يمكن أن يكون محل إجابة إلا بالمضي في فعل كل ما سبق بشكل مسؤول، والدولة تتحمل النصيب الأكبر في تنظيم قيم التحديث والتغيير لأن دورها أساسي ومؤثر في الناس". ونفذ الأستاذ المحبوب عبدالسلام لمشروطيات تشكل النخبة التي تقلدت مقاليد الأمور بعد ذهاب المستعمر:" النخب النيلية كانت الأسبق الى التعليم وذلك اعطاءها الأفضلية المطلقة في كل شئ ، الإستعمار كانت موازناته المالية تتيح له التركيز على المركز ولم يعبأ بباقي البلاد ، لكن الحكومات الوطنية المتعاقبة غرقت في مرض النخب عندما تغرق في النعم فلا تري إلا نفسها، فمنذ الإستقلال لم نر حكومة تهتم بالأطراف". وأضاف المحبوب واصفا تجربة فيدرالية نظام الإنقاذ الساقط عبر ثورة شعبية عارمة بالمخروم والفاشل :"تجربة الحكم الفيدرالي 1998 كان يخرمها الشمولية فلا حكم إتحادي بلا ديمقراطية". وكثيرا من قيادات الإسلامويين يحاججون بأن انقلاب ( يونيو 1989م) ، أتاح لأبناء المناطق الريفية بأن يشاركوا في مؤسسات الحكم ، بدلا من سيطرة الطبقة الوسطى الأفندية المدينية التي تنتمي لطائفتي الأنصار والختمية واليسار . وكان الثقل السياسي لحزب المؤتمر الوطني الذي يرأسه الرئيس الأسبق عمر البشير في المناطق الريفية في السودان ، وكثيرا ما يحصد أصوات أهالي الريف ، في الانتخابات. ولكن رغم إنحدار قيادات نظام الإنقاذ من مناطق ريفية ولكنهم لم يطوروا الريف ؛ بل ريفوا المدينة وطمسوا معالمها ، وأصبحت الخرطوم عاصمة البلاد حولها حزام ريفي عشوائي بسبب السياسات الإقتصادية التي أفقرت الطبقة الوسطى ومكنت لرأسمالية ( المحاسيب والقرايب) المتوحشة ، ويعلق المحبوب عبدالسلام على ذلك قائلا :" الحقيقة نظام الانقاذ مكن للنخبة النيلية في الخرطوم، هم يعيشون رفاهية في العاصمة لكن اذا ذهبت لمناطقهم الريفية تجدها بائسة جدا". وفيما يتعلق بمفهوم (النخب النيلية) الذي كثيرا ما تداول في النقاشات السياسية بين المثققين السودانيين وبالأخص السياسيين المنتمين لأطراف السودان البعيدة من المركز ، يقول البروفيسور عبدالله إبراهيم :"النخب النيلية ليست صندوق مقفول في السوق ، أنا أعد نفسي من النخبة ولم أجد نفسي في السلطة سوى بعد أكتوبر في مرحلتها الثورية (من أكتوبر 1964 إلى أبريل 1965) وفي دولة نميري بعد فرض انقلاب زعم الثورية علينا فضقنا به في يوليو 1971 وبعد هذه الثورة عشت كل عمري معارضاً ضمن نخبة يسارية وليبرالية ، وجدت نخب غير نيلية معبراً للمركز لم أجده. في كل انتخابات تبوأت نخب من دارفور وكردفان والشرق مواقع في مجلس السيادة والوزراء والبرلمان ومجلس الشيوخ لم تتح لي مثلًا كنخبة يسارية. وزادت هذه النخب الأمر سوء باشتراكها مع نخب شمالية في حل حزبنا في 1965 وطردنا من الساحة السياسية كطرف أصيل في عداء الاشتراكية والديمقراطية بل وجدت هذه النخب غير النيلية طريقها لمجالس برلمانية في نظام عبود ونميري والبشير قاطعتها نخبة يسارية وليبرالية شمالية وصارعتها وصرعتها في ثورات 1964 و1985 و2018″. ودعا البروفيسور عبدالله إبراهيم لتمحيص ذلك المفهوم ومعرفة اصوله الغربيه وإخضاعه لفحص نقدي ليتلائم مع ثقافتنا :" أعتقد أن مفهوم النخبة ككيان منسجم عرقياً وجغرافيا مفهوم فاسد استحق المراجعة فمن شأنه، إذا استمر معنا بمعناه المتداول، ان يفسد علينا تشخيص محنتنا الوجودية والسياسية. ومن ذلك أن نعرف اصل المفهوم في الأدب الغربي حيث جاءنا والمناقشات التي دارت حوله، فعلينا في شرطنا السياسي الثوري الجديد ألا نشف المفاهيم من الغرب من كراسه إلى كراسنا بغير أن تمر بالدورة الفكرية النقدية التي تمحصها وتستوطنها في ثقافتنا". وفي مقابل ذلك يرى الشاعر والأستاذ محمد جميل بأن النخبة النيلية تحمل وزر التهميش للأطراف قائلا :"لقد قاست تلك النخبة النيلية أي: النخبة السكانية بين محوري دنقلاكوستي (بحسب عبد السلام نور الدين)، قياسين فاسدين؛ الأول حين قاست نفسها على الانجليز في امتيازات وضعها الطبقي فضيعت بوصلة الرشد الوطني وضرورات وتحديات بناء دولة مواطنة لاتزال قيد التكوين والثاني حين قاست مفهوم المواطنة على سكان ذلك المحور فقط أي قصر التنمية على حدود ذلك المحور. وبذلك أسست عبر التهميش والنبذ قنابل موقوتة لبقية الأطراف كان لابد أن تنفجر في المستقبل ما لم يتم الاهتمام بها" . وأشار الشاعر محمد جميل لخطورة التهميش الثقافي الذي مارسته الأوليغارشية التي حكمت السودان وجهلها لخصائص السكان المحليين الثقافية مما أعاق الأندماج الوطني :" إلى جانب ذلك لم يكن هناك أي تصور لتلك النخبة النيلية عن طبيعة معاناة السودانيين الناطقين بغير العربية(والسودان راطن في جهاته الاربع ) فحين تكون مكتفيا بلغتك بالتأكيد لا تتصور معاناة الآخرين الناطقين بلغات اخرى في صعوبات التعليم بغير لغاتهم مثلا؛ما أدى إلى تهميش ثقافي مضاعف إلى جانب التهميش التنموي ، والتهميش الثقافي كان له دورا كبيرا في توسيع الفاقد التربوي وضعف الاندماج في الهوية الوطنية نتيجة لغياب سياسات لغوية تعنى بردم هو التهميش الثقافي بالرغم من وجود بدايات مؤودة مع ثورة أكتوبر في تجربة سرالختم الخليفة وآخرين". و لخص جميل تحديات استيعاب المشاركة السياسية الواسعه لجماهير الأطراف في ثورة ديسمبر بقوله :" فإن مشكلة النخبة النيلية اليوم وفي ظل الثورة الراهنة لا تتجسد فقط وعي بعض قيادات الحرية والتغيير بأهمية المواطنة الشاملة وأفكار التمييز الإيجابي في التنمية بل تكمن المشكلة في أنه إلى أي حد يوجد استعداد لتلك النخبة النيلية(ونقصد شرائح واسعة من متنفذين وموظفي دولة كبار وأفكار مسبقة لحيازة زعامة مخصوصة بينهم للسودان ) لاقتسام السلطة والثروة مع كل المكونات المحلية للسودانيبن في مناطقهم الخمس ليس في أسماء الوزراء فحسب بل كذلك في مدراء المصالح والهيئات والمؤسسات والعديد من مراكز اتخاذ القرار الفاعل التي يهيمنون عليها؟". ويقول الدكتور النور حمد بأن "قيمة هذه الثورة العظيمة هي أنها سمحت بإعادة الدولة السودانية إلى منصة التأسيس من جديد ، فالدولة السودانية لم تعرف المؤسسية وإنما اتسمت بالطبع الزبائني فالحكومات سواء كانت عسكرية او مدنية ظلت تكتسب تأييدها وشروط بقاءها واستمراريتها من هذا الطابع الزبائني لعلاقة الحكومة بشعبها، الزبائنية بدأت منذ الغزو التركي وتمثلت في خلق مؤسسة دينية لتعمل ذراعا لترسيخ سلطة المستعمر الخديوي، أقطعت السلطة الخديوية الأراضي لرجال الدين وقربت إليها بعض الطرق الصوفية وبعض زعامات العشائر. وقد وقف هؤلاء ضد الثورة المهدية داعمين سلطة الغازي المستعمر. وقد استمرت المؤسسة الدينية الرسمية تلعب هذا الدور حتى هذه اللحظة التي نحن فيها الآن. وحين جاء الاستعمار البريطاني اعتمد ذات السياسة الزبائنية فاعتمد في السيطرة على الجماهير على الطوائف والعشائر والمؤسسة الدينية الرسمية". وأردف النور حمد :"قد ورثت حكومتنا الوطنية العسكرية والمدنية نفس هذه الوصفة للحكم لذلك تجد أن كل البرلمانان في فترات الحكم الديمقراطي والعسكري تعج بنفس الوجوه التي تمثل مجموعات المصالح هذه النخب الزبائنية بقيت على الدوام تتقرب إلى الحاكم سواء كان النظام ديمقراطيا او عسكريا استبداديا لأن همها الأول هو حراسة مكتسباتها ومصالحها، فالمؤسسية التي يجب أن تبنيها هذه الثورة تبدأ بالقضاء على هذا الطابع الزبائني لعلاقة النخب بنظام الحكم ، وكذلك القضاء على الطابع الزبائني لأعضاء كل حزب سياسي مع قيادة الحزب ، بهذا فقط تصبح الدولة دولة جميع المواطنين بغض النظر عن الدين او العرق او الطبقة الاجتماعية ويصبح الحزب السياسي كذلك حزبا للجميع على قدم المساواة". ويبقى حلم السودانيين في تأسيس نظام سياسي فاعل ومستقر وديمقراطي ، يستوعب كل مكونات المجتمع السوداني بجميع اطيافه العرقية والطبقية تحت مواطنة تسع كل السودانيين ، تصنع لهم وفرة اقتصادية ورفاه وعدالة إجتماعية وإستقرار سياسي ، وسلام مستدام في كل ربوع البلاد. ابراهيم مختار [email protected]